في عام 260 قبل الميلاد، لدى انتهاء معركة تشوهي Chouhei واستسلام الجيش المنافس المكون من 400 ألف جندي، أمر جيش الجينرال كين Qin جنوده، الذين قُدِّروا بنفس العدد، بدفن الجيش المُستسلم حياً، تحجّجاً بعدم وفرة الطعام، ولخوفه من انقلابهم على حكمه. بالطبع لا شيء يُبرِّر فظاعة المذبحة التي ارتكبها، ولكن من المثير للعجب أن جنوده قاموا بتنفيذ أوامره دون النظر إلى بشاعة ما يحدث. 400 ألف جندي أسهموا في تلك المجزرة دون أن ترمش جفونهم أو يشعروا أنهم يرتكبون خطأً ما. تُرى ما الذي اعتراهم حينذاك ليكونوا بتلك القسوة؟

تجربة «ميلغرام»

في عام 1963 ظهر إعلان بإحدى الجرائد، يطلب متطوعين لتجربة لمدة ساعة مقابل أربعة دولاراتٍ ونصف. بلغ عدد المتطوعين أربعين رجلاً من مختلف الأعمار (20-50) والتدرج المهني. تم تلقين المتطوعين عدة كذبات من شأنها أن تساعد في نجاح التجربة.

أول كذبة قيلت للمتطوعين، أن التجربة تدور عن «أثر العقاب في التعلّم»، بينما هي لم تكن كذلك، حيث دخل المتطوعون للمختبر وتعرّفوا على «ستانلي ميلغرام» الذي أفصح لهم عن الكذبة التالية وهي وجود شريك لهم في التجربة، ومن خلال اختيار عشوائي يحصل هذا الشريك -أو بمعنى أدق الممثل الذي اتفق معه ميلغرام- على دور المتعلم بينما يحصل دوماً المشاركون على دور المعلم، وبالطبع تلك كذبة أخرى فتقسيم الأدوار مُحدِّد عن عمد.

يتعارف المتعلم -المُمثّل- سريعاً على المتطوع القائم بدور المُعلّم، ويخبره أن لديه مرضاً خفيفاً في القلب، ثم تبدأ التجربة. يدخل المُتعلم إلى غرفة بها زجاج لا يُمكِّنه من رؤية المعلم على الطرف الآخر، الذي يجلس على جهاز الصدمات الكهربائية وأمامه مفاتيح التحكم، يقوم المُشارِك في التجربة بتلقين بعض الكلمات إلى المُتعّلم ثم يعاقبه عبر صعقه كهربائياً إذا أخطأ في الإجابة، إذ بدأ فرق الجهد الكهربي من 30 إلى 450 ڤولت. وكانت أول شدة يتلقاها المتعلم هي 45 ڤولت على أن يقوم المشارك بزيادتها متى أخطأ المتعلم.

بالطبع أيٌّ من هذا لم يكن حقيقياً، فصوت الألم الصادر عن الممثل لم يكن سوى أصوات مُسجّلة مُسبقاً، لتعطي إيحاء أنه يتألم بالفعل، ولم يتم إيذاء أي أحد داخل التجربة أبداً.

تبدأ التجربة الفعلية، ويبدأ المُتعلّمون في تعمّد الخط، يلي ذلك رفع شدة الصدمات الكهربائية من قبل المشاركين في التجربة. لدى الوصول لشدة 135 ڤولت يبدأ المُتعلّم في الصراخ، ويترجّى المُشارِك بالتوقف لأن لديه مشكلة في القلب. عند هذه النقطة توقّف العدد الأكبر من المشاركين في التجربة. لكن ميلغرام يتدخّل ويخبرهم أنهم مَعفون من أي مسئوليات، وأن عليهم الاستمرار في التجربة واتّباع القواعد، وأن ليس لديهم خيار آخر.

هنا ينقسم المشاركون إلى عدة أقسام؛ البعض يُكمل شاعراً بالطمأنينة لأنه مجرد مُنفِّذ وليس مسئولاً عمّا يجري، والبعض الآخر يُكمل وهو يضحك بانفعال شديد لدى سماعه صرخات الألم الصادرة عن المُتعلّم.

كانت تلك تجربة ميلغرام عن الطاعة، وقد جاءت لتقيس مدى انصياع الناس للسلطة، وقد حققت طفرة في علم النفس الاجتماعي، ولكن هل تعلم كم نسبة المشاركين الذين طبّقوا العقاب بالصدمات الكهربائية، في حدها الأقصى، 450 ڤولت.

حين أجاب علماء النفس على هذا السؤال في استبيان آنذاك، توقّعوا أن تصل النسبة إلى 1 في الألف فقط كحد أقصى، لكن في الحقيقة، وصلت تلك النسبة إلى 65%. حتى المنسحبين من التجربة، فلم ينسحبوا قبل بلوغ 300 ڤولت. وقد أُعيدت تجربة ميلغرام مراراً وتكراراً في شتى البلدان ومختلف الأزمان، وفي كل مرة كانت تقترب النتائج من النسبة التي حصل عليها ميلغرام.

قامت تجربة ميلغرام لتخبرنا أنه بإمكان ثلثي البشرية أن يصلوا إلى أقصى الدرجات في إيقاع الأذى بالإنسان -وهي القتل- إذا انطلقت الأوامر إليهم من سلطة يخافونها أو يحترمونها. من هنا كانت سيكولوجية الطاعة، ومن هنا أمكننا تفسير سيكولوجية المذابح التي تُرتكب في حق الإنسان.

إنها الأوامر

إن الطيار الذي يتلقّى أمراً بقصف قرية، لا يسأل عمّا إذا عمله هذا جيداً أو سيئاً، هذا ليس من شأنه، عليه فقط أن ينفّذ الأوامر.
ممدوح عدوان، من كتاب «حيونة الإنسان».

أتعرف ما هي العناصر اللازمة لتنفيذ مجازر جماعية كتلك التي ارتكبها الإسرائيليون في حق الفلسطينيين سابقاً، وهذه التي يرتكبونها حالياً؟

الجواب بسيط جداً، إنه توزيع المهام والمسئوليات. هناك من يقوم بالاعتقال، وآخرون بنقل المعتقلين، وغيرهم بحراسة المعتقلات. إن شخصاً من هؤلاء لا يشعر أنه يرتكب مجزرة، إنما يشعر بأنه يُنفِّذ أمراً مُحدداً صدر إليه. من هنا لا يشعر المشارك في المجزرة أنه يرتكب جرماً، وإنما عملية تخفيف المسئوليات تلك، تُخفِّف كذلك من وطأة ضميره للحد الذي يعفي معه نفسه من المسئولية، كما حدث في مجزرة صبرا وشاتيلا، وكما حدث من عدة أيام في مجزرة مستشفى المعمداني في غزة.

إن تلقي الأوامر من جهة سيادية أعلى كفيلٌ بأن يقتل رحمة الإنسان ويُطلِق العنان للوحش القابع بداخله.

ففي كتابه «السعي نحو العزلة»، يرى «فيليب سلاتر» أن المذابح البشرية نوعين، الأول يتم في منطقة معينة يستطيع القاتل أن يرى دم ضحاياه، والثاني وهو الأكثر شيوعاً يتمثل في الإبادة عن بعد، حيث يكون هدف القاتل مجرد نقطة على الخارطة، لا يرى ضحاياه ولا يفكر بهم، مجرد قصف سيقتل كثيرين، غير أنه بالنسبة له لا يمثل أكثر من كبسة زر، كتلك التي يضغطها في ألعاب البلايستيشن، كبسة واحدة لينطلق صاروخ يقتل المئات. في النوع الثاني لا يرى القاتل ضحاياه البتة ولا يشعر أنه قتل من الأساس، وفي النوع الأول لا يراهم بشراً فلا يشعر بالذنب تجاههم.

إنهم مجرد حيوانات

لدى كل شعب من شعوب الأرض نوع من الاعتزاز الداخلي، يُطلِق عليه «إيريك فروم» النرجسية الجماعية. تتجلى خطورة تلك النرجسية حين يتفوق الشعب في ميدانٍ ما، لا سيما العسكري، فيلجأ حينها إلى تشويه أعدائه من أجل أن يخلق لنفسه أسباباً تُسوّل له إيذاءهم، وتُبرِّر له معاداتهم.

يقول سارتر عن كتاب «معذبو الأرض»: ليس من شأن الإنسان أن يستعبد أخاه الإنسان أو يسلبه رزقه أو يقتله، ولمّا احتاج المستعمر إلى ذلك، تعيّن عليه أن يُجرِّد صاحب الأرض من إنسانيته ويعامله معاملة الدواب، أن ينزل بمنزلته إلى مستوى القرود.

تطرح إحدى حلقات مسلسل Black Mirror الفكرة بشكل أبسط، إذ يتعيّن على مجموعة من الجنود في زمنٍ ما في المستقبل أن يروا أعداءهم الآخرين من البشر على شكل وحوش. فحتى يتمكّنوا من اجتثاث أرواحهم بدم بارد، يجب عليهم أن يروا الأعداء في منزلة أقل، حيث يلجئون إلى تشويههم، ولا يفكرون نهائياً في كونهم من نفس الجنس البشري الذين هم عليه.

قامت الحركة النازية على نفس المبدأ، العرق الآري السامي الذي يجب المحافظة على نقائه، والتخلص مما قد يشوبه. عاملت النازية وغيرها من حركات التطهير بعض البشر كأنهم أقل منزلة، أنصاف بشر، أو وحوش تستحق الموت. وبالمناسبة لم تكن حركات التطهير تلك فقط حروباً، بل كانت تتم كأبحاث أيضاً في عدة دول، حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. إن هوس الإنسان بالتفرد يجعله يرتكب عديداً من الفظائع!

لماذا حبيبتنا فلسطين؟

بالنظر إلى العاملين السابق ذكرهما، يمكننا الآن فقط الإجابة عن السؤال، لماذا هبّ العالم لنجدة أوكرانيا بينما لم يتحرك ليجيب فلسطين؟

أمّا الأول، فالسلطة تقتضي ذلك، سواء أوكرانيا أو إسرائيل، فإن كل منهما مُدعّم بسلطة الدول المهيمنة على النظام الدولي. أمّا العامل الثاني فهو «تفوق العرق الأبيض»، لأنه مهما حاولنا إقناع أنفسنا أن العالم بلا عنصرية لن نتمكن، لأن العرق الأبيض يتفوق ابتداءً بأدواره في القصص الأدبية، ووصولاً إلى الإبادات العرقية.

إن ما يحدث في فلسطين لا يمكن لأي شخص لديه القدر الأدنى من الإنسانية أن يغض الطرف عنه، ليست الحرب فقط حرب أسلحة، إنما مجازر هوية، لقد أفلت اليهود من إبادة عرقية على يد النازية، ليتبادلوا الأدوار الآن مع الفلسطينيين. ربما لا نملك أن نقدم لهم سوى بعض المساهمات، الكلمات والدموع، لكن هناك شيئاً أهم ينبغي علينا التسلح به؛ ففي عالمٍ يتظاهر كثيرون فيه أن شيئاً لم يحدث، علينا أن نكون نحن من الثلث الذي لن يصل إلى جهد 450 ڤولتاً. علينا ألّا نيأس أو نستسلم. علينا ألّا نعتاد الأمر، إذا اعتدنا الأمر سنفقد إنسانيتنا.

نتعودّ؟ تعرف ماذا تعلمنا يا أبي؟ ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئاً عن التعوّد، حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسّس، ومن ثَمَّ لم تعد تنبّه الجملة العصبية. والأمر ذاته مع السمع، فحين تمر في سوق النحّاسين فإن الضجة تثير أعصابك، لكن لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعوّد المقيمون والنحّاسون أنفسهم، السبب نفسه: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت. فنحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا.
ممدوح عدوان، من كتاب «حيونة الإنسان».