يتناول كتاب «الإنسان والحضارة»، للدكتور عبد الوهاب المسيري، إشكالية منهجية، وهي ضرورة استخدام النماذج المركبة لتفسير الظواهر الإنسانية.

والنماذج المركبة، حسب تعريف «المسيري»، لا تكتفي بعنصر واحد في تفسير الظواهر، وإنما تأخذ في الاعتبار عناصر عدة منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل تصل إلى العناصر الحضارية والأبعاد المعرفية.

يعكس الكتاب فكر الراحل عبد الوهاب المسيري، كونه مفكرًا منهجيًّا بامتياز، طور النماذج التفسيرية والتحليلية سواء في أبحاثه عن الصهيونية أو أبحاثه عن العلمانية، حيث تميزت المدرسة الفكرية المسيرية عن غيرها من المدارس بإعادة التفكير في طرق التفكير السائدة، بهدف تطوير الأداء التنظيري والتفسيري الذي يُمكّن من إدراك الواقع بشكل أكثر تركيبًا.

يدعونا «المسيري»، في تناولنا للظواهر الإنسانية، أن نبتعد عن النماذج الاختزالية والقوالب الإدراكية الشائعة، وإلى تجاوز السطح لنصل إلى شبكة العلاقات المركبة، فندرك الأبعاد الحقيقة لأي قضية.


الصهيونية والرومانسية

يتحدث «المسيري» في إحدى دراسات كتابه عن تفسير الظواهر الإنسانية عن طريق نماذج تحليلية معرفية، لأنها وحدها القادرة على هذا التفسير. هذه النماذج تختلف عن التفكير المضموني الذي يهتم بتفسير المضمون الحسي دون ربط الظاهرة بغيرها من الظواهر في إطار كلي، وتختلف أيضًا عن النماذج البنيوية التي تفسر الظواهر تفسيرًا لغويًا فقط ليس له أي مضمون.

وبالتالي، النماذج التحليلية المعرفية المركبة هي وحدها القادرة على التفسير لأنها تضع إطارًا عامًا يمكن من خلاله فهم الظواهر الإنسانية ولا تغفل أبدًا الاختلافات الفردية بين الظواهر المختلفة، فهي نماذج تفسر الواقع وتتفاعل معه أيضًا، ويُجري الواقع عليها العديد من التعديلات، كما أنها لا تغفل التناقضات التي قد تنتج من تفسير الظواهر.

يضرب «المسيري» مثالًا على فكرته، بالحديث عن علاقة الفكر الرومانسي الذي نشأ في الغرب في القرن التاسع عشر، على يد جان جاك روسو وغيره، وعلاقته بالصهيونية، فهاتان الظاهرتان تبدوان في البداية أنهما متناقضتان، ولكن عند التدقيق يلاحظ العديد من التشابه بين الظاهرتين، مستند على مستويين؛ مستوى المضمون (علاقة الصهيونية بالرومانسية) ومستوى المنهج (كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أفكار).

رصد «المسيري» العلاقة بين كل من الصهيونية والرومانسية، فيرى أن الرومانسية التي تحمل معاني وضدها أحيانًا من أهم مصادر الرؤية الصهيونية، كانت تشكل أهم عناصر السياق العام للفكر الغربي في القرن التاسع عشر، فهي تارة رؤية ثورية لتغيير الواقع وتارة أخرى رؤية رجعية تحاول الحفاظ على المجتمع، وتعد الداروينية أهم تجلياتها، حيث إن العالم في حالة تغير مستمر وترقٍ إلى الأفضل، وأن آلية التغير هي الصراع الذي يحسمه الأقوى، ليس الأقوى أخلاقيًا وإنما الأقوى ماديًا، ومن ثم أتى اليهود إلى فلسطين للبحث عن حقوقهم حاملين عبء الرجل الأبيض، ولا بأس من ذبح الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم فهي أمور مشروعة بالمنظور الدارويني العلماني، حسبما يرى «المسيري».

ثم انتقل كاتبنا بعد ذلك ليوضح العلاقة بين الصهيونية والنيتشوية – نسبة إلى نيتشه – وعدّد أوجه التشابه بينهما، من حيث إعلان موت الإله ورد الكون بأسره إلى مبدأ إرادة القوة، وأن النمو والتطور على حساب الآخر هو أصل الحياة.


الانتفاضة كنموذج مركب

تنبأ «المسيري» بوقوع الانتفاضة الفلسطينية في مقال له بعنوان «إلقاء الحجارة في الضفة»، نُشر في جريدة «الرياض» عام 1984، وقد وجد أن تحليل الخطوات التي توصل عن طريقها لهذه «النبوءة» التي تحققت، سيعطي القارئ مثلًا متعينًا على كيفية ولادة النموذج المركب وصياغته.

حين تندلع الانتفاضة الفلسطينية يجد «المسيري» نفسه منغمسًا في أحداثها، ومستوعبًا تمامًا لأهمية هذه اللحظة التاريخية في الجهاد الفلسطيني، وبدلًا من أن يرصد يومياتها بشكل معلوماتي تقليدي، يتتبع «المسيري» المعلومات والبيانات والتفاصيل اليومية الصغيرة لتتحدث بلسان إنساني بحت، ثم يجرد منها رؤية معرفية تكمن وراء كل تفاصيلها، هي رؤية للكون والحياة.

ينتقل «المسيري» بعد ذلك للحديث عن الأسباب التي أدت إلى انتفاضة الثمانينيات في فلسطين، أحد هذه الأسباب تمثل في أزمة الصهيونية التي انتقلت من مرحلة المنفعة ومراكمة رأس المال وإرجاء اللذة إلى مرحلة اللذة والاستهلاك؛ ما ظهر بوضوح في اعتماد الترويج للمستوطنات عن طريق مستوى المعيشة المرتفع والرفاهية بدلًا من الاعتماد في السابق على الشعب اليهودي والأرض المقدسة، ولم تقتصر هذه الأزمة على نظر الصهيونية إلى نفسها فقط بل تعدتها إلى العرب الأغيار، فتم الاعتقاد باحتمالية إلهاء العرب عن قضايا الهوية والأرض الفلسطينية بإغراقهم في المتع المادية ومستوى المعيشة المرتفع.

أما السبب الثاني للانتفاضة، كما رآه «المسيري»، هو إدراك الفلسطينيين لهذه الأزمة الصهيونية، فتم استغلالها عن طريق تطوير سلاح أشد فتكًا من الرصاص قادر على طرد المستوطنين من مستوطناتهم عن طريق تعكير صفاء حياتهم. هذا السلاح هو الحجارة، وقد أدى وظيفته فعلًا حتى طالب أحد المستوطنين بتطبيق عقوبة المؤبد على تهمة إلقاء الحجارة.

هناك أيضًا سلاح آخر استخدمه المنتفضون هو النشيد الشعبي الذي يعبر عن نظرية الانتفاضة، وسلاح البطيخ الذي يعبر عن ألوان العلم الفلسطيني، ثم يستنبط «المسيري» من هذا المثال نموذجًا تحليليًا لهذه الانتفاضة، أطلق عليه نموذج التكامل غير العضوي ووضعه في مقابل نموذج التلاحم العضوي، الذي يمثل أزمة الصهيونية، والنموذج الذري الآلي، الذي يفسر الظاهرة على أنها ذرات منفصلة مكتفية بذاتها لا تتكامل مع بعضها، ثم عدَّد الفروق بين هذين النموذجين، وتجلياتهما على مثال الانتفاضة الفلسطينية.

وبذلك يتجلى من التفاصيل الدقيقة نموذج إدراكي ومعرفي، لم يكن ليدركه إلا عالِم عربي منشغل بتأسيس علوم إنسانية عربية أكثر قدرة على تفسير الواقع وتحريكه من النماذج المستوردة جاهزة التصنيع، لذا كانت الانتفاضة بالنسبة لـ «المسيري» لحظة تاريخية نادرة كدارس للظاهرة الإنسانية في العالم العربي، نجحت في الإبقاء على روح الجهاد للشعب وتمسكه بعقيدته.


معاداة السامية

يرى «المسيري» أن ثمة جانبًا في الفكر الصهيوني لم يُلقِ الضوء عليه بما فيه الكفاية، وهو الإيمان بأن معاداة السامية هي أحد ثوابت النفس البشرية، التي لا تتغير ولا تتحول مهما تغيرت الظروف والأزمة والأمكنة، فيبدأ في تفسير مصطلح «معاداة السامية» مستخدمًا التفكير المنهجي والأدوات التحليلية، فيفرق بين التفسيرات المختلفة للكلمة، والتي لو أُخذت بالمعنى الحرفي تعني العداء للساميين أو لأعضاء الجنس السامي الذي يشكل العرب أغلبيته العظمى، ولكن المصطلح في اللغات الأوروبية يقارن بين الساميين واليهود ويوحد بينهم. ويرجع «المسيري» هذا إلى جهل الباحثين الأوروبيين في القرن التاسع عشر بالحضارات الشرقية، وعدم تكامل معرفتهم بالتشكيل الحضاري السامي أو بتنوع الانتماءات العرقية والاثنية واللغوية لأعضاء الجماعات اليهودية.

يرى «المسيري» في هذا المقام أن عداء اليهود واليهودية هو رد فعل طبيعي لما يقوم به اليهود من أفعال، فالنفس البشرية اليهودية شرسة ومدمرة. أما الصهاينة فيرون أنها ظاهرة حتمية، فهي لصيقة بالنفس البشرية غير اليهودية. كما يلاحظ أن كلا الفريقين يختزل ظاهرة مركبة إلى شيء حتمي كامن في النفس البشرية. ومثل هذا التفسير الاختزالي ليس بتفسير، فهو يفسر كل أشكال وتبديات معاداة السامية بنفس الصيغة اللفظية الجاهزة: النفس البشرية اليهودية الشريرة أو النفس البشرية غير اليهودية العنصرية، ولكننا إن تخلينا عن النماذج الاختزالية، الصهيونية والمعادية للسامية، وتبنينا نموذجًا تركيبيًا فإن النتائج التي سنصل إليها ستكون مختلفة، كما أن إدراكنا للظاهرة موضع الدراسة سيكون أكثر عمقًا وإنسانية.

يستفيض «المسيري» في شرح معنى «معاداة السامية»، مستشهدًا بمواقف وعلاقات تاريخية ربطت اليهود والصهاينة بالدول والحكومات الأخرى، رافضًا أن يسقط نموذج معاداة اليهود في التعميم الاختزالي، لأن هذا يشكل فشلًا أخلاقيًا، ولا يفرق بين طيب وخبيث، وهذا من وجهة نظر «المدرسة المسيرية» تزييف للحقيقة وادعاء بالباطل وخرق لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية.


ملحمة فكرية

ما ذكرناه في هذا العرض جزء بسيط جدًا من ملحمة فكرية يقدمها «المسيري» على 9 فصول، تحدث فيها عن الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية، مستندًا إلى قدرته على توظيف النماذج التفسيرية كأدوات تحليلية، فهو يربط بين دوائر الفكر المختلفة ربطًا مركبًا عبر نماذج تحليلية، ويتميز بالترابط المنهجي بين مجالات بحثه المتباعدة نظريًا.

ناقش «المسيري» في «الإنسان والحضارة» دور اليهود كعنصر نافع داخل الحضارة الغربية، قبل أن يتطرق إلى «الرأسمالية الرشيدة» ودورها بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة وربطه باللغة والتاريخ والسلوك، ثم ينتقل للحديث عن حملات الفرنجة لمقارنتها بتجربة الصهاينة، قبل أن يناقش برؤية تحليلية معمار المتاحف، كونه مؤشرًا على الهوية الحضارية والثقافية للمجتمع، وفي كل قضية لم يتخلَ «المسيري» عن طريقته، في كونها محاولة واعية لفهم الآخر ونقد الذات في فهمها للآخر كذلك، ثم الارتقاء إلى مرحلة الوعي للنماذج الإدراكية وبناء تلك النماذج وتأثيرها في الواقع، وبيان موقعها في شبكة الإدراك، وصلة ذلك كله بالسلوك الإنساني.

هذا الكتاب لا يقدم لك معلومات مقولبة عليك تقبلها، ولا يقدم لك نماذج اختزالية كالتي تراها في الإعلام أو لدى بعض الكُتاب، ولكنه يقدم تحليلًا مركبًا يخاطب عقلك ويفتح آفاق التفكير التحليلي بداخلك، فحتمًا سيجد القارئ وعيًا وفكرًا وإنصافًا وموضوعية تتجلى بين ثنايا حديث «المسيري»، حيث يدعو لتطويع النماذج المركبة واستخدامها ونبذ كل نموذج اختزالي مُغلق يرى التاريخ يتحرك بطريقة واحدة ونحو نقطة واحدة.