لكن أعظم شيء على الإطلاق هو أن تكون خبيرًا في الاستعارة. إنها الشيء الوحيد الذي لا يمكن تعلمه من الآخرين. وهي أيضًا علامة على العبقرية، لأن استعارة جيدة تعني إدراكًا حدسيًا بالتشابهات والاختلافات.
فن الشعر، أرسطو.

سيكرر الفيلسوف الإسباني جاسيت Gasset صدى كلمات أرسطو حين يعلن أن الاستعارة Metaphor هي أخصب القدرات التي امتلكها البشر. فإذا كانت اللغة عجلة من عجلات التطور البشري، فإن الاستعارة هي أحد أهم تروسها. فلم ترتبط الاستعارة هذا الارتباط الوثيق بلغة البشر وبلغة تفكيرهم؟ هل للأمر جوانب سلبية، وهل ينتقص استخدام الاستعارات في شرح العلم من استقامة معلوماته؟

لمحاولة الإجابة على كل هذه الأسئلة، علينا أن نقوم برحلة إلى عمق الذهن البشري. لكن قبلها علينا معرفة ما هي الاستعارة؟


قصص قصيرة

استخدم دانيل كوهين هذا التعبير لوصف الاستعارة في اللغة والتي نقوم بموجبها باستخدام لفظ للدلالة على لفظ آخر. عندما تقول إن «السماء تبكي» وأنت تشاهد تساقط الأمطار، فإنك قد قمت بشيئين؛ أولهما، استخدام استعارة شبهت فيها السماء بإنسان يبكي، وثانيهما، مغالطة أدبية في رأي ناقد فيكتوري غاضب.

مبدئيًا علينا التشديد على حقيقة أن للاستعارة (والمجاز والتشبيه وغيرها من أدوات التعبير) مهمة أساسية وهي الإشارة لصفة ما تتواجد في كل من المشبه والمشبه به، سواء تم التصريح بكليهما أو أي منهما. نرى هنا أن «فهم» هذه الأدوات اللغوية يعتمد على إدراك صفات هذا المشبه وصفات المشبه به لإدراك الصفة المشتركة بين الاثنين، وهو الأمر الذي أشار اليه أرسطو في فن الشعر.

القالب الأدبي أو القصصي هو فقط ما يسمح لجملة بأن تكون كاذبة وغير كاذبة في آن واحد حيث يسمح للسماء بأن تلعب دور البطل في قصة قصيرة تحكي عن إنسان يبكي

لكن هل لاحظت أن كون السماء تمطر مياهًا وأن الانسان يبكي هما أمران «مختلفان» في الواقع. للاستعارة القدرة أحيانا على «خلق» التشابهات من عنصر – سقوط الماء مثلاً – بدلاً من مجرد الإشارة لتشابه موجود بالفعل. كان هذا نقدًا مبدئيًا لمفهوم أرسطو عن الاستعارة الذي اعتمد على أن الاستعارة هي مجرد مقارنة صماء في الصفات.

نعود لوصف «القصص القصيرة» الذي ابتدعه كوهين. من منظور منطق وفلسفة اللغة، يظهر للعيان أن الاستعارة لا تنطبق عليها معايير الصواب والخطأ وتعريفات الحقيقة التي تنطبق على الحديث الحرفي Literal. إلا أن الاختلاف بين الاستعارة والحرفية أصبح ضبابيًا يومًا بعد يوم. فالسماء لا تبكي بالفعل ونحن نعلم ذلك، ولا يمكن اعتبار أن «كذب» الجملة هو محاولة فعلية للخداع. لذا فإن القالب الأدبي أو القصصي هو فقط ما يسمح لجملة بأن تكون كاذبة وغير كاذبة في آن واحد، حيث يسمح للسماء بأن تلعب دور البطل في قصة قصيرة تحكي عن إنسان يبكي.

هذه القصة القصيرة التي تناولت إسقاط مشاعر إنسانية على مكونات الطبيعة الصماء غير الحية، عزت بالناقد البريطاني جون روسكن إلى أن يطلق على هذا الاستخدام اسم مغالطة إثارة الشفقة Pathetic fallacy. يشي التعبير بهجوم على سيطرة هذا النوع من الاستعارات المبالغ في «أنسنة» الطبيعة على الشعر آنذاك.

لكن هل يقتصر استخدام الاستعارة وخاصة أنسنة الطبيعة على الأغراض الأدبية فقط؟ لننظر أولاً إلى منشأ فكرة الاستعارة في الذهن.


اللغة أم العقل؟

في خضم التداخلات العديدة للمدارس الفلسفية في تناولها لنظرية الاستعارة، كان الخط الأوضح في الانقسام هو منشأ احتياج البشر لاستخدام الاستعارة. هل استخدام التشبيه والاستعارة أمور تعود لطبيعة اللغة والتواصل أم لطبيعة إدراك العقل لما يحيط به؟

اعتمدت النظرية الكلاسيكية في وصف الاستعارة طوال القرن التاسع عشر على كونها مجرد خطأ في استخدام اللغة – اللغة الحرفية – يمكن تقبله لأنه مفيد، إلا أنه دائما أقل في المستوى والقيمة – في ميادين خارج نطاق الأدب – من الوصف المباشر، وأن مضمار الاستعارة يقبع دائمًا خارج الحياة اليومية.

جاء القرن العشرين بمقاربات مغايرة تمامًا في التعامل مع الاستعارة، متأثرًا بطبيعة النشاط العقلي للإنسان وطبيعة مجتمعاته. كانت أهم هذه النظريات هي النظرية الحديثة contemporary theory للاستعارة والتي قضت بأن الاستعارة هي شأن يومي يختبئ في أكثر معاني الحياة عادية. فأفكارنا المجردة مثل الزمن هي تكوينات مستعارة. كذلك نجد بعض ميكانيكيات الإدراك البشري مثل علاقة السببية هي أيضا مجرد استعارة. فكلها أمور لا يمكن الاستغناء عنها ولا فصلها عن الحياة اليومية.

انتهج سبيربر وويلسون منحى مختلفًا في تفسير ميل البشر لاستخدام الاستعارة باستمرار. كانت نظريتهما المعروفة باسم نظرية الاتصال Relevance theory تقوم على أن عملية فهم الكلام الجديد عند الإنسان تحدث بواسطة ربطه للجديد بمصطلحات وكلمات يفهمها بالفعل جيدا. يواصل الإنسان البحث عن معنى الكلام الغريب عليه في مخزونه الأصلي من الأمور التي يدرك معناها جيدًا، حتى يجد تشابهًا أو أمرًا ذا صلة، وهنا يتوقف عن البحث ويشعر أنه قد امتلك زمام الكلمة الجديدة التي تلقاها للتو. بالطبع يميل أغلب البشر لبذل أقل مجهود ممكن، وبالتالي فإن الصلات بين الجديد والمخزون قد تشوبها أخطاء متسرعة كثيرة، لكن الأمر لا مناص منه.

بالنسبة لنظرية الاتصال، فإن الاستعارة ليست نوعًا مختلفًا عن الحديث العادي كما اعتقد الكلاسيكيون وليست أقل منه دقة أو مقتصرة على الشاعرية، هي فقط طريقة للذهن لتنظيم البيانات التواصلية والأحاديث في نسق متحد منظم مترابط.

على النقيض من النظرية المذكورة، أتت النظرية المفاهيمية Conceptual theory لفصل الاستعارة عن اللغة وإدخالها في نطاق عملية «الفهم». فالبشر يميلون إلى استخدام الاستعارة لأنهم يحاولون ليس فقط تنسيق نظامهم اللغوي بل تنسيق إدراكهم للعالم أيضا بواسطة العلاقات بين كل المكونات فيه.

ولأن فهم العالم يتدرج في التعقيد، فإن العقل البشري يعجز في مرحلة ما عن فهم بعض المعلومات دون رسم صورة خيالية «مستعارة» لها تحتوي على مكونات أكثر بساطة. ولأن العقل يحتوي على بعض المسلمات التي ينشأ عليها اجتماعيا (مثل ربط مفهوم كلمة أكثر More بكلمة أعلى High أو Up)، أو ربط الألوان البراقة بالسعادة، فإن هذه المرجعيات تتضافر لتجعل الاستعارات أسهل طريقة لاستيعاب كل فكرة جديدة بتفكيكها لوحدات تتشابه كل وحدة منها مع فكرة أخرى أكثر وضوحًا.

لكن..


كيف يؤثر هذا على العلم؟

في النظرية المفاهيمية، يميل البشر إلى الاستعارة ليس فقط لتنسيق نظامهم اللغوي بل لتنسيق إدراكهم للعالم أيضًا بواسطة العلاقات بين كل المكونات فيه

رأينا أنه حتى الآن انتقلت دراسة الاستعارة ونظرياتها من الفن والأدب إلى الحياة اليومية. مع التطور العلمي السريع إبان الثورة العلمية الحديثة ثم وصولها لذروة عدم البديهية Counter-intuition مع ميكانيكا الكم، كانت الاستعارة والتشبيه هما الطريق الأوحد لتبادل الحديث المفهوم حول أفكار العلم المعقد خارج أروقة الجامعات وصفحات المراجع. لكن لنعد بالزمن قليلا.

كانت محاولات الفهم الجادة –أي المنهجية- في فجر علم الأحياء مازالت متأثرة ببعض بديهيات التبسيطية العقل البشري آنذاك. كان من الطبيعي أن تكون الموجودات منظمة «فيما يشبه السلسلة». ما بين سلم أرسطو حتى مقياس بيكون للفكر Scala intellectus، رضي البشر بموقعهم في السلسلة التي سارت على النحو الآتي:

الرب في القمة، الملائكة والكائنات الروحانية ثم الشياطين (أي الملائكة الساقطة)، البشر، الحيوانات، النباتات ثم أخيرًا الصخور والتراب.

ربما يمكن الآن أن نعتبر هذا النموذج المبكر لعلم التصنيف الإحيائي مجرد مزحة، إلا أن محاولة تنظيم العالم في سياق متحد كانت انعكاسًا طبيعيًا لطريق إدراك وفهم الإنسان لعالمه، كما أن معظم تاريخ تطوير الأفكار العلمية كان مجرد نقد لنموذج موجود بالفعل.

محاولةََ لنشر العلم بين غير المتخصصين ارتكب العلماء المغالطات مبتعدين عن جوهر الطريقة العلمية لجعل بعض الأفكار العلمية أكثر انتشارًا وإثارة للنقاش

بجانب صورة «السلسلة» و «السلم» الأحيائي جاءت الصورة الدائرية للأفلاك لتلقي بظلها على الفهم المبكر للذرة في فجر اكتشافها. كانت الطريقة الكاسحة لوصف الذرة وتكوينها عند اكتشاف الإلكترونات هو مقارنتها بصورة النظام الشمسي وهي الاستعارة التي مازالت تعبر عن شكل الذرة في أذهان معظم غير المشتغلين بالفيزياء والكيمياء، بل وأحيانا عند هؤلاء أيضا.

تكمن المشكلة في هذا الموقف في أن العلم لا يقبل معدلات الشخصانية المرتفعة التي تتعامل بها بأريحية ميادين الحياة العادية أو الفنون والأدب. فكون ميكانيكا الكم قد أشارت بخطأ نموذج النظام الشمسي للذرة يجعل أي استخدام لهذا الوصف خطأ علميًا لا يجب أن يغتفر، إذا كنا ننشد الدقة التي نملأ الأرض طولاً وعرضًا احتفاء بها.

مع موجة انتشار محاولات نشر العلم بين غير المتخصصين في محاولة لجذبهم نحو الطريقة العلمية في التفكير، ارتكب كثير من العلماء الكبار العديد والعديد من المغالطات والاستعارات غير الدقيقة مبتعدين عن جوهر الطريقة العلمية نفسها في استماتة لجعل بعض الأفكار العلمية – بعد تشويهها – أكثر انتشارًا وإثارة للنقاش.

بمقارنة بسيطة، من السهل الحديث عن قطة شرودنجر، بينما تختفي معادلة شرودنجر من على ساحة الحديث الشيق في معظم الأوقات. ومن السهل وقوع المرء في الفهم الخطأ لنظرية التطور بسبب تشبيهها بعملية نمو خطية من كائنات أولية للبشر في اتجاه واحد.

على الجانب الآخر، نجد أن التخلص من الاستعارات في العلم هو أمر ينتمي إلى نطاق المستحيلات. هل بالإمكان فهم «إثارة» الكترون – أي امتصاصه للطاقة وحركته من مستوى طاقة أقل إلى مستوى طاقة أعلى- بدون تخيل مستوى الطاقة الأقل والأعلى على هيئة خطين ينتقل الالكترون بينهما؟ إن مجرد التعبير عن هذه الظاهرة يستلزم استعارة حتى في أوساط المختصين.

من كل هذا يظهر لنا أن الاستعارة هي سمة فكرية كامنة في تكوين العقل لا يمكن التخلص منها في أي ميدان فكري حتى وإن أدت لتعقيدات وأخطار قد تؤدي لسوء الفهم. بالطبع نعود هنا لقول أرسطو إن اختيار الاستعارة هو فن وعلامة عبقرية. إن طريقة وضوابط اختيار الاستعارة هي مسئولية صانعها والذي كثيرا ما يتهاون فيها مفضلاً أن يرضي غرور المتلقي ورغبته في بذل أقل جهد مما أدى لاستعارات مهلهلة وعشوائية تتبعثر هنا وهناك. مهما بدا ذلك مبتذلاً، فإن تبرئة الاستعارة كفكرة أو أداة ومحاكمة القائمين بالتطبيق هو الواجب الفكري الأقرب للصواب إذا أردنا تنقيح فهمنا للعالم من حولنا.

المراجع
  1. Daniel Cohen-Arguments and Metaphors in Philosophy
  2. J-Bronowski- The common sense of science
  3. George Lakoff -The Contemporary Theory of Metaphor
  4. Fernand Hallyn (ed.)-Metaphor and Analogy in the Sciences
  5. Markus Tendahl (auth.)-A Hybrid Theory of Metaphor- Relevance Theory and Cognitive Linguistics
  6. RELEVANCE THEORY AND METAPHOR