هروبًا من مصيرٍ محتوم تُخلّفه الحروب والأوضاع الإنسانية المأساوية في بلدانهم، خرج آلاف المهاجرين الأفارقة باحثين عن الأمان والحرية، أولئك كدّسوا أحلامهم على متن قوارب أبحرت بهم شمالًا، لكنهم ما وجدوا منها شيئًا، بعضهم ماتوا غرقًا، والبعض الآخر جذبهم مهربون إليهم أغووهم بتسهيل عملية وصولهم إلى الحلم «أوروبا»، وما إن عجزوا عن تحقيق مطلبهم ذلك؛ حتى وضعوهم في أسواقٍ للنخاسة يبيعونهم مقابل حفنة دولارات كما ظهر في تحقيق تلفزيوني بثته شبكة CNNالأمريكية منتصف نوفمبر/تشرين الثاني.

وتشي بعض لقطات تحقيق الـ CNN بأن عملية بيع للبشر تتم في مزادٍ علني، فإحدى اللقطات أظهرت صوت أحد المهربين يتحدث بلهجة ليبية عن شاب إفريقي ذو قوة وبنية جسدية سليمة بينما لم يظهر إلا يده وهو يربت على كتف الشاب، بدأت عملية الترويج بالإفصاح عن مهنة الشاب بالحفر، ولم يلبثَّ إلا قليلًا حتى صار الناس المتحلقون حوله يزايدون في السعر من 400 إلى 800 دينار ليبي، حتى انقضى البيع، ومن ثمَّ تتابعت عملية العرض والمزايدة لآخرين، والتي تستمر إلى حين انتهاء الأعداد المعروضة وانفضاض التُجار وأصحاب المصالح عن السوق.


الوقوع في فخ المهربين: تفاصيل مؤلمة

خالو الوِفاض إلا من حلم الوصول إلى أوروبا، جاءوا من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بعضهم من النيجر، وآخرون من مالي، وفريق ثالث من نيجيريا، ورابعهم من السنغال. انقطعت بهم سبل العيش في بلدانهم المُثقلة بالضغوط الاجتماعية والاقتصادية وصراعات البقاء السياسي؛ فنزحوا منها، غير أنهم واجهوا جملة من الخطط والقرارات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي من أجل الحد من تزايد أعداد المهاجرين في السنوات الأخيرة، وكانت النتيجة أن أبحر أولئك الحالمون بالحياة الآمنة على متن قوارب الهجرة غير القانونية، مُقدمين أموالًا طائلة للمهربين فقط من أجل الوصول إلى الموانئ الأوروبية.

الآلاف من أولئك لم يبق لديهم المال لكي يملئوا به جيوب المهربين، فقاموا ببيعهم في مزادات، كلٌ وفق مهنته وبنيته الجسدية، مستغلين بذلك ظروفهم الاقتصادية الصعبة بأبشع الطرق، وبحسب تقرير لصحيفة الجارديان البريطانية فإن عملية الاتجار بالبشر في ليبيا ليست حديثة العهد، ونقلت عن منظمة الهجرة الدولية أن العملية تتم في ظل غياب السلطة الرادعة وتواصل حالة الانفلات في ليبيا منذ عام 2011، حتى أنها باتت طبيعية.

وفي شهادة لأحد الناجين من السنغال، ويبلغ من العمر 34 عامًا، أكد أنه تم احتجازه ومهاجرين آخرين في منزل خاص بمدينة سبها في الجنوب الليبي بعدما عجزوا عن دفع المزيد من الأموال لخاطفيهم من أجل إيصالهم إلى قوارب الموت باتجاه أوروبا، وقال: إنّ المهربين باعوهم في مزادات لتُجار ليبيين، إذ كانوا يسألون عن مهنهم، من منهم بستاني أو حفار؟ لضمان بيعهم مُجددًا بحسب الطلب، فيما أوضحت منظمة الهجرة الدولية أن من لا يتمكن من المهاجرين من افتداء نفسه، يُترك للموت جوعًا في الصحراء ويتم استبدال مهاجرين آخرين بهم.

ويبدو أن الأموال التي كان يجنيها أولئك المهربون، سواء في ليبيا أو البلدان التي تتشارك حدود الصحراء الكبرى معها، أغوتهم للمزيد من المحاولات في الاتجار بالبشر سعيًا وراء الثراء دون الاهتمام بالقوانين الدولية والقرارات الأممية. وبيّن تقرير لمنظمة الهجرة الدولية أن سعر المُهاجر يتراوح بين 200-500 دولار أمريكي، حيث قال «عثمان بلبيسي» رئيس بعثة منظمة الهجرة الدولية في ليبيا: «يتم احتجاز المهاجرين لمدة شهرين أو ثلاثة في المتوسط بهدف الضغط عليهم للعمل بالسخرة أو الخضوع لأمر استغلالهم جنسيًا».

وتُشير المنظمة إلى أن المهاجرين من النساء والفتيات يلاقين معاملة سيئة ومهينة، وقد يتعرضن للاغتصاب من أجل إجبارهن على العمل بالدعارة.


لماذا انتشرت أسواق الاتجار بالبشر في ليبيا؟

تشير أصابع الاتهام إلى المجتمع الدولي والدول الأوروبية بالتقصير في حماية المهاجرين في ليبيا، وعدم بذل الجهود الكافية لحمايتهم من مهربي البشر، والاقتصار على ضرب حصار عليهم كي لا يصلوا إلى أوروبا، وهو الأمر الذي ترافق مع انهيار الدولة الليبية ومؤسساتها والغياب الأمني وسيطرة المليشيات في عدة مناطق، مما فتح الباب واسعًا لممارسات العبودية هناك.

وعقب نشر تحقيق الـ CNNسارعت حكومة الوفاق الليبية إلى إدانة عمليات الاتجار بالبشر، وقالت: «إنها بدأت تحقيقًا حول ما نشرته الـ CNN الأمريكية بتعرض مهاجرين غير قانونيين للمعاملة غير الإنسانية»، كما أكدت التزامها بنصوص ميثاق الأمم المتحدة وبتطبيق قوانينها وتشريعاتها التي تُجرم الاتجار بالبشر، خاصة أنها تتنافى مع القيم والمعتقدات الدينية للشعب الليبي.

فيما أرجع النقيب «علي عليم»، من ضباط جهاز الهجرة غير الشرعية في القطرون جنوب ليبيا، أسباب انتشار أسواق العبيد في ليبيا – كما أظهرها تقرير الـ CNN- إلى محاولة الدول الأفريقية والأوروبية تحويل وجهة المهاجرين إليهم إلى ليبيا، ويتهم «عليم» فرنسا بتسهيل عمليات الهجرة عبر غض البصر عن قاعدة المراقبة العسكرية على الحدود الليبية النيجرية، إذ تُعد النيجر منبع الهجرة غير الشرعية، وذلك عبر منفذ «تومو» الرسمي والذي يربط بين ليبيا والنيجر، وبيّن أن مئات السيارات الصحراوية تقتحم الجنوب الليبي دون رادع وتقل أسبوعيًا ما لا يقل عن ألفي مهاجر إلى سبها التي تعد النقطة الأولى لاستقبال المهاجرين في الجنوب، وفي ظل ذلك لم تعد الهجرة عبر هذا الطريق سرًا.

ولم ينفِ «عليم» وجود عمليات بيع جماعي للمهاجرين من قبل عصابات الاتجار بالبشر، وأشار إلى أنها معروفة منذ سنين وتتم في مراكز علنية في القطرون وسبها وتجرهي، وتعمل على تسهيل عمليات البيع عصابات قبلية، منها قبيلة التبو،التي ترتبط بعلاقات مع دول أفريقية في عمق تشاد ونيجيريا، وتملك شبكة معقدة من العاملين في مجال التهريب لتأمين وصول الناس من خلال طرقات خاصة، ما يتيح لها التنقل بين ليبيا وهذه الدول، وتتميز بأنها مجموعات قوية ومحاربة بالفطرة، ولا يمكن الدخول إلى مناطق نفوذها في الجنوب الليبي، خاصة أنها موالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، وتُعد الذراع العسكرية الأقوى له هناك.


ردود أفعال مُندِدة

لم يكن ذلك إلا متن نصٍ للقوانين الدولية والقرارات الأممية، لكّنه وبعد كشف ظاهرة الاتجار بالبشر في ليبيا؛ بدا أجوف، فقط خُط بحبرٍ على ورق سرعان ما بهُتَّ وانقضى شعارًا لا أكثر.

فقد أثارت مشاهد الاتجار بالبشر في ليبيا ردود أفعال مُندِدة، سواء على المستوى الرسمي الليبي أو حتى العربي والعالمي، حيث قال «أنطونيو غوتيريس» الأمين العام للأمم المتحدة، مُعلقًا على الأحداث الأخيرة: «إن منطقة المتوسط تواجه تحديات خطرة»، وعبّر عن صدمته من وجود سوق لتجارة الرقيق في ليبيا، داعيًا إلى ضرورة محاكمة المتورطين في ذلك بتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية وانتهاكهم حقوق الإنسان.

وفي تطور ملحوظ دعت فرنسا إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن، قدم خلالها «فيلبيو غراندي»، مفوض الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، تقريرًا حول ظاهرة الاتجار بالبشر في ليبيا، كاشفًا أن قرابة 117 ألف مهاجر دخلوا إلى ليبيا بطرق غير قانونية يقبعون رهن الاعتقال، فيما شدد «وليام سوينغ» المدير العام لمنظمة الهجرة الدولية على ضرورة مساندة المجتمع الدولي للأجهزة الأمنية في ليبيا من أجل القضاء على الظاهرة، مطالبًا بإخلاء مراكز احتجاز المهاجرين، والتي تضم نحو 15 ألف شخص، وفق تقديره.


جهود بلا مردود إيجابي

إن الإنسان حرٌ أمام القانون وغير قابل للاستعباد.

ثمّة جهود دولية تُبذل من أجل إنهاء ظاهرة أسواق الرق في ليبيا، لكن شيئًا منها لم يأتِ بنتيجة على الأرض؛ فالبرلمان الإيطالي أرسل خلال أغسطس/آب الماضي بعثة بحرية محدودة لمساعدة قوات خفر السواحل في إدارة وتنظيم تدفق المهاجرين ووقف شبكات التهريب، من خلال نشر سفينتين بحريتين في المياه الليبية الإقليمية، ولكن ذلك لم يُجد نفعًا ولم يُقلل من أعداد المهاجرين غير القانونيين. وكذلك لم تفلح فتوى دار الإفتاء الليبية رقم 2372 التي حرّمت تهريب المهاجرين الأفارقة شرعًا.

وفي سياق الحل والحد من تفاقم الظاهرة، أطلق ليبيون عدة وسوم على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن تضامنهم مع المهاجرين الأفارقة ورفضهم لممارسات المهربين غير الإنسانية، مطالبين بالتحرك الدولي لوقف الانتهاكات التي تجري بحق المهاجرين.

وعلى الصعيد الدولي، طالبت وزيرة الخارجية الكندية «كريستيا فريلاند» الأمم المتحدة بفتح تحقيق في مزاعم بيع مهاجرين أفارقة عبيدًا في ليبيا، والعمل على ضبط الجناة في أسرع وقت وتقديمهم للعدالة، مؤكدة التزام بلادها بدعم الجهود التي تقوم بها حكومة الوفاق الوطني الليبية، وطالبت المجتمع الدولي بالاتحاد في مكافحة الرق وتهريب المهاجرين، كما دعت كل البلدان التي تعرف مسئولياتها للمشاركة في بروتوكول الأمم المتحدة لمنع التهريب، والحد منه، والمعاقبة عليه، واعتماده، وتنفيذه، واحترامه.