المشهد الأول

استيقظ «ساتوشي أكيرا» في هذا اليوم الفاصل في حياته الجديدة الآن، متأخرا على غير عادته. مارس أنشطة الصباح المعتادة بغير إقبال، تناول الشاي وغسل أسنانه، لم يرتد ملابس العمل، بل جلس يفكر بحزن في سنواته السابقة. عمره الآن 48 عامًا، ظل طيلة آخر 20 عامًا فيها يمارس نفس عمله اليومي بهمة ونشاط يفتقدهما الآن.

علِم منذ أيام أن هناك خطة لاستبداله مع فريقه بالكامل ليشغل وظيفتهم برنامج حاسوب متطور ذكي، تقول الشركة إنه سينجز العمل بشكل أسرع وأدق وأوفر كذلك، لن تضطر لدفع مرتبات لكل هذا العدد من الموظفين! هل ينتهي عمله بقرار كهذا! هل ستقوم آلة جامدة بإنجاز العمل بحب وإتقان كما كان يفعل! أسئلة كثيرة ولا إجابة هنا.

في بداية 2017، قامت شركة تأمين يابانية تدعى Fukoku Mutual Life Insurance بالاستغناء عن 34 موظفا واستبدالهم بنظام ذكي مبني على منصة IBM’s Watson سيقوم بقراءة وتحليل البيانات الطبية الخاصة بالعملاء، ويُتوقع أن يقوم النظام بزيادة الإنتاجية بنسبة 30% مع توفير الكثير من النفقات، فيما يبدو اتجاها عاما لبعض الشركات اليابانية باستخدام أنظمة ذكية في الأعمال المكتبية. كان هذا القرار تاليا لقرار شركة Dai-Ichi Life Insurance باستخدام أنظمة ذكية في قسم الحسابات، وهو النظام المبني على Watson كذلك، لكن دون قرار الاستغناء عن موظفين.


المشهد الثاني

ينتمي لشركة تعد الأكبر في مجال إدارة رؤوس الأموال في أمريكا وربما العالم، تتحكم في 5.7 تريليون دولار، يعمل بها أكثر من 13000 موظف على مدار الساعة، هو أحدهم. حتى الآن على الأقل. يتهامس الموظفون هذه الأيام أن قرارًا يناقش في أروقة الإدارة يقضي بتخفيض عدد الموظفين في الشركة بنسبة 13% لصالح برامج ذكية ستقوم بالعمل!

كان يظن – هو وغيره من أصحاب الياقات البيضاء – أن وظيفته أبدية، وأن وصوله لدرجة إدارية عليا نتيجة لمجهود مستمر كسب به ثقة رؤسائه، يحميه من تقلبات الزمان، لكن قرارًا كهذا سيحطم كل ما بناه، سيبدأ من الصفر في مكان آخر لو كان بين المستبدلين، هو كفؤ ويثق في هذا، هل للثقة محل من الإعراب هنا؟!! خواطر كابوسية تدور في ذهنه، يبدو أنه لا نوم هذه الليالي.

كشفت شركة BlackRock, Inc عن خطة لأتمتة المهام الاستثمارية المكلفة للغاية. في عصر البيانات الحالي يتطلب اتخاذ القرارات الاستثمارية تحليل كم عملاق من البيانات وبأسرع طريقة ممكنة، ولن يقوم بهذه المهمة بالكفاءة المطلوبة، وبهامش توفير مادي كبير، سوى أنظمة حوسبية ذكية تقوم خوارزمياتها بتحليل كل ما يتعلق بسوق المال والاستثمار، واتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب. ستؤثر الخطة على 13% من موظفي الشركة على كل المستويات الإدارية، وهو ما لن يلاقى بترحيب منهم بالتأكيد.


المشهد الثالث

رغم عمله في شركته المختصة ببيع وتوصيل البقالة ومستلزمات المنزل والطعام لفترة طويلة للغاية، فلا يتذكر متى كانت البداية، إلا أن خبر استحواذ شركة عملاقة كأمازون عليها أثار في قلبه كثيرا من البهجة، وبعض القلق كذلك. الإدارات الجديدة للشركات دائما ما تتعامل مع العمالة في إطار الصفقة والمنفعة البحتة، لكن الخبر الجيد أن أمازون من أكبر الشركات التي توظف عمالة، 350 ألف وظيفة متنوعة توفرها الشركة.

لكن المقلق هنا أن أمازون أشهر الشركات المهتمة بالأتمتة، واستبدال العمالة غير الضرورية بآلات مبرمجة أو أنظمة ذكية حسب ما يراه صاحب المال. لكن، ليدع القلق الآن، ويستمتع بالفترة التي سيقضيها موظفا تحت الإدارة الجديدة، لعلها تطول.

اشترت أمازون سلسلة محلات Whole Foods الشهيرة في صفقة خيالية بلغت 13.7 مليار دولار لينضم لأمازون حوالي 90000 عامل. تمثل الصفقة إضافة قوية جدا لخدمات بيع الطعام الطازج التي تقدمها أمازون، أو تريد السيطرة على سوقها في الولايات المتحدة على الأقل، وهو السوق الذي يبلغ حجمه – بجانب باقي مستلزمات المنزل – حوالي 800 مليار دولار.

الجديد في الأمر هنا هو أن أمازون حازت مؤخرا على براءتي اختراع لأفكار جديدة تتعلق بالأتمتة في مجال توصيل البضائع للمنازل، بجانب سحب مهمات بشرية أخرى من عمال المخازن لصالح الآلات. تستخدم أمازون الآلات بالفعل في مخازنها بجانب العمالة البشرية، وذلك لتحقيق أفضل سرعة وأداء ممكن يضمن تسريع مهام العمل داخل المخازن، لضمان سرعة وصول البضائع لأهدافها النهائية.

إحدى براءات الاختراع متعلقة باستخدام طائرة بدون طيار لتوصيل الطعام بأسرع وقت ممكن، وإسقاط الشحنة بمظلة صغيرة عند العميل! تهدف أمازون بهذا لتطوير خدمات إيصال منتجات البقالة والطعام الطازج في أسرع وقت ممكن. وقد يؤثر هذا على مستقبل نسبة لا بأس بها من عمال الشركة الحاليين، وكذلك عمال سلسلة محلات Whole Foods.


المشهد الرابع

فبراير/شباط 2026، انطلق في بداية يومه لا يلوي على شيء. منذ غزت السيارات ذاتية القيادة سوق العمل وهو مهدد بالفعل، لكن لا يجيد فعل شيء غير قيادة سيارته غير الذكية حتى الآن. التاكسي خاصته هو كل رأس ماله في الحياة، وها هو يفقد قيمته يوما بعد يوم.

فبعد أن كان لا يتوقف عن إيصال الركاب طوال اليوم، أصبح يقابله مصادفة في الطريق الآن راكب أو اثنين كل ساعة، الكل الآن يطلب سيارة ذكية بهاتفه، تصله في ميعاد دقيق وتقله إلى وجهته. لم يكن الأمر هكذا منذ خمس سنوات فقط! كيف تغيرت حياته بهذه السرعة؟

سيارة جوجل الذكية بلا سائق بمشروع Waymo وصلت مرحلة التجارب الميدانية مع متطوعين من العامة هذا العام، بعد أن تحركت بنفسها في عدة ولايات أمريكية 3 ملايين ميل منذ 2015. تطور أوبر كذلك سيارتها الذكية، لتستبدل السائقين تمامًا في خدمات التوصيل التي تقدمها في أنحاء العالم بسيارات دون سائق، موفرة في ذلك الحصة التي كان يأخذها السائق من دخل الشركة، وبالتالي خفض مصاريف التشغيل وزيادة الأرباح. لا يوجد خط زمني واضح ومتوقع، لكن المؤكد أن هناك ملايين السائقين من أصحاب المهن المهددة الآن، وربما بعد عشر أو خمس عشرة سنة، لن يجدوا لهم مكانا في سوق العمل.


الآن/ المستقبل

في بحثهما المنشور في «الهيئة القومية للأبحاث الاقتصادية – National Bureau of Economic Research» في مارس/آذار 2017، تحدث الباحثان «دارون أسيموجلو – Daron Acemoglu» من معهد ماساتشوستس للتقنية، وباسكوال ريستريبو Pascual Restrepo من جامعة بوسطن، عن التأثير السلبي لإضافة التقنيات الآلية وتقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي في عملية الإنتاج، على سوق العمل.

بالطبع نتحدث هنا عن التنافسية والأجور وفرص العمالة. الورقة البحثية التي تحمل عنوان «الآليين والوظائف: أدلة من سوق العمل الأمريكي» تدرس تأثير إضافة الآليات الذكية والروبوتات المبرمجة بين عامي 1990 حتى 2007. ملخص البحث يقول إن مقابل كل آلة تضاف للاقتصاد الأمريكي، تختفي 5.6 وظيفة، وكل آلة تضاف مقارنة بألف عامل، تقلل أجورهم بنسبة ربع حتى نصف بالمائة.

يجب هنا أن نفرق بين الأتمتة والذكاء الاصطناعي، والذي يعد خطوة متقدمة منها، فقد بدأت الشركات منذ فترة طويلة باستبدال المهام التي تحتاج لقوة عضلية، وعددا كبيرا من العمال، بآليات مبرمجة على مهمة محددة منذ عقود. نجد ذلك في المزارع، وخطوط تصنيع السيارات، والمناجم العملاقة، والمخازن الكبيرة، وخطوط الإنتاج عامة.

الذكاء الاصطناعي تسبب في نقلة مختلفة تمامًا للأمام، حيث إن ما تسمى وظائف ذوي الياقة الزرقاء هي ما كانت مهددة دائما بالأتمتة من قبل، الآن توسع الوضع ليشمل ذوي الياقة البيضاء، من يجلسون على مكاتبهم طوال الوقت تحت أجهزة التكييف المركزي ليقوموا بمهام تحتاج لمهارات ذهنية وعقلية فقط. هنا يأتي الذكاء الاصطناعي ليخبرهم ببساطة أن وظائفهم مهددة، وأن الأرقام التي تنبيء بها الأبحاث لم تعد تشمل فقط العمال، الدائرة الآن أوسع وأكثر خطورة.

في ملخص لبحث من مركز جامعة MIT للاقتصاد الرقمي عام 2012 بعنوان: «السباق ضد الآلة: كيف تسببت الثورة الرقمية في دفع الإبداع، وقيادة الإنتاجية، والتأثير على التوظيف والاقتصاد بشكل لا رجعة فيه»، يقول الباحثان إن هناك ثلاثة أسباب محتملة لمعدل التوظيف المتدني الذي تلى خروج أمريكا من مرحلة الركود؛ عدم نمو الاقتصاد بسرعة كافية لخلق وظائف جديدة وهذا يمكن حله في وقت قصير، أو ركود الاقتصاد واختفاء الإبداع وعدم القدرة على زيادة الإنتاجية وهذا قد يستمر طويلا، أو السبب الثالث وهو وجود قفزة تقنية وإبداعية تخطت مرحلة الحاجة لعمالة بشرية، حيث تقوم فيها الآلات والحواسيب الذكية بالوظائف الجديدة.

أقتبس هنا عبارة تقول:

47 % من الوظائف الأمريكية مهددة، 40% من الوظائف في كندا، 850 ألف وظيفة في المملكة المتحدة، و137 مليون وظيفة في جنوب شرقي آسيا، وهذا فقط في العشرين سنة القادمة… فما الحل؟


الحل!

في الحقيقة، بعض المهارات البشرية قيّمة أكثر من غيرها، حتى في عصر التطور والقوة غير المسبوقة للتقنيات الرقمية. لكن المهارات الأخرى أصبحت بلا قيمة، والأشخاص الذين يمتلكون مهارات خاطئة لن يجدوا ما يقدمونه لأصحاب الوظائف، سيخسرون السباق ضد الآلة، وهي الحقيقة التي انعكست على إحصائيات التوظيف الحالية

هناك بالطبع حلول قصيرة المدى والطموح، كأن تفرض ضريبة على كل آلة أو برمجية تقوم بمهمة وظيفة أو تستبدل عاملا، لرفع تكلفة الأتمتة على الشركات، وكذلك توفير ميزانية يصرف منها مبالغ كأجور بديلة عن عدم توظيف العمالة التي فقدت وظائفها بسبب الأتمتة.

لكن الحل الحقيقي في رأيي هو إعادة هيكلة مهارات سوق العمل لتتناسب مع الواقع المستقبلي. في تقرير مطول أنصح بقراءته كاملا على McKinsey إحدى الشركات الرائدة في مجال الأبحاث الأكاديمية الاقتصادية واستشارات الأعمال، قسم الباحثون المجالات المعرضة للأتمتة لثلاث فئات رئيسية:

الأولى: هي الفئات المعرضة للخطر بشكل عال، وتتضمن على الأغلب المهن التي تتطلب حدا أدنى من المهارة وقدرة بدنية جيدة، كمهام التصنيع، بعض جوانب صناعة البناء والتشييد، القيادة والتوصيل، أغلب المهام اليدوية بشكل عام.

الثانية، هي الفئات المعرضة للخطر بشكل متوسط، وهي المهام المكتبية والحسابية وإدخال البيانات ومنظومات الجودة والمبيعات، إلخ.

الثالثة: الفئات الآمنة من الأتمتة «حسب التطور التقني الحالي» هي المجالات التي تتضمن خلقًا وإبداعًا؛ المهام التي تتطلب مهارات معينة وتخطيط وقدرة على الابتكار وتحتاج لمهارات معرفية وذكاء وتفاعل بين عناصرها.

كأمثلة واضحة يمكن أن نقول إن المجالات الهندسية والفنية والبرمجة والدعايا والإعلان ومجالس إدارة الشركات والمجالات الطبية والتعليم هي مجالات محمية من الأتمتة بشكل نسبي. ويؤكد تقرير آخر لـ McKinsey أن الأتمتة الشاملة لن تتم بأي حال، ولن يمكن الاستغناء عن العنصر البشري بشكل كامل في أي من مجالات العمل.

الحل إذن هو تطوير المهارات المهنية، وخلق وظائف جديدة من قلب المهام الأقل عرضة للخطورة، عدد الوظائف المتاحة للمبرمجين خلال الفترة القادمة سيتضاعف -كأبسط مثال- الوظائف المتعلقة بالميديا والتسويق والعلاقات العامة ستتزايد كذلك، لن نحتاج لسائقين جدد في المستقبل لكن سنحتاج لمطوري برمجيات ذكية وموظفين لمتابعة أدائها لوظائفها. نحتاج لنظام تعليمي جديد شامل من الصفر يؤهل عمالة المستقبل لسوق العمل التنافسي القادم لا محالة.

حين سئل إيريك شميدت الرئيس التنفيذي لشركة ألفابت المالكة لجوجل عن مستقبل العمل مع الذكاء الاصطناعي قال إن مستقبل العمل هو بجانب الذكاء الاصطناعي، فلن يمكن استبدال البشر بالآلة بشكل كامل، بل إن استخدام الأتمتة الذكية سيخلص الكثير من الوظائف الجديدة

مستقبلك هو عملك مع الحاسوب، وليس استبدالك بحاسوب
هل سيكفي هذا لاستبدال وظائف الملايين المهددين؟

بالطبع لا، لكن المستقبل القادم حتمي، وبدأت بشائره الآن بالفعل ولا مفر هنا. يجب أن نغير اتجاه بوصلة تفكيرنا خارج الإطار التقليدي بشكل كامل، لو كنت تخطط أن تعمل كسائق أجرة أو عامل في مصنع خلال عشر سنوات من الآن، ثق بأنك ستجلس للأبد في المنزل. يقول علاء عبد الفتاح في مقال بعنوان «مخاض عالم رائع جديد: بين أوبر واللوديين»:

بريطانيا، فجر الثورة الصناعية: تجمهرات غاضبة لنساجين وحرفيين مهرة تقتحم مصانع النسيج الحديثة وتخرِّب الآلات البخارية والأنوال المميكنة التي تهدد أرزاقهم واستقرار حياتهم. ينشغل المجتمع بمتابعة أخبار حركة اللوديين (نسبة لأحد قياداتهم) لوهلة قصيرة إلى أن ينهزموا تمامًا ولا يبقى لهم أثر ولا ذكرى إلا كعبرة. صارت «اللودية» لفظة شائنة تُطلق للحطِّ من كل من يطالب بالتباطؤ في التقدم والحداثة، أو بالتراجع عنهما- تذكيرًا بعبثية تحدي العلم والتكنولوجيا. وحدهم اللوديون يقفون أمام التغيير. ما أغباهم!

ينتهي المقال بمقولة:

لا أغبى من الواقفين ضد التاريخ إلا المنبطحين تمامًا أمامه. هؤلاء لا يبقى لهم أثر ولا ذكرى، ولا حتى كعبرة كاللوديين