فإذا سكتم بعد ذاك على الخديعةِ وارتضى الإنسانُ ذلَّهْ
فأنا سأُذبحُ منْ جديدْ
وأظلُّ أُقتلُ منْ جديدْ
وأظلُّ أُقتلُ ألف قتلةْ
    ..
سأظلُّ أُقتلُ كلما سكتَ الغيورُ
وكلما أغْفى الصبورْ
سأظلُّ أُقتلُ كلما رغِمتْ أنوفٌ في المذلَّةْ
ويظل يحكمكم يزيدٌ ما .. ويفعل ما يريد
وولاته يستعبدونكم وهُم شر العبيد
ويظل يلعنكم وإن طال المدى جرح الشهيد
لأنكم لم تدركوا ثأر الشهيد
عبد الرحمن الشرقاوي: مسرحية «ثار الله»

عبد الرحمن الشرقاوي : الحسين ثائرًا وشهيدًا

بدموع منهمرة أتذكر كيف أنهيت قراءتي الأولى لمسرحية الكاتب المصري عبدالرحمن الشرقاوي عن الحسين وأنا في منتصف سن المراهقة. هنا تبدو خبرة البكاء أثناء قراءة ذلك العمل الأدبي مشتركة ومتكررة بين من أعرف كما صارحني أحد أقربائي.

صدرت مسرحية «ثأر الله» بجزأيها «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا» في عام 1969، وهي تتناول رفض الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، إعطاء البيعة ليزيد بن معاوية عام 60 من الهجرة، وتطورت أحداث ذلك الرفض وصولًا إلى لحظة استشهاد الحسين على أرض كربلاء في العراق.

 كتب الشرقاوي نص مسرحيته الملحمي بعد هزيمة عام 1967، التاريخ هنا له أهمية في فهم المشترك بين الماضي والبعيد والماضي القريب، الظلم والاستبداد والقمع السياسي الذي تتناوله الرواية هو نقطة البداية الموغلة في التاريخ التي تنبع منها كل مشاكل الحاضر الذي عاصره الكاتب، والذي أدى بنهاية المطاف إلى الهزيمة المريرة في عام 1967.

العودة الإحيائية إلى البدايات والجذور والتراث في مسرحية الشرقاوي، تزامنت مع بدايات صحوة دينية في المجتمع المصري منذ نهاية ستينيات القرن الماضي وتنامت بشكل واضح في سبعينيات ذلك القرن. وانعكست في اهتمامات كاتب المسرحية صاحب روايتي «الشوارع الخلفية» و«الأرض» التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير من إخراج المخرج المصري يوسف شاهين؛ إذ اقتصرت مؤلفات الشرقاوي حصرًا بعد ذلك التاريخ على السرد التاريخي التراثي، كما نجد في كتبه «علي إمام المتقين، ابن تيمية: الفقيه المعذب، الفاروق عمر، أئمة الفقه التسعة».

تبدأ مسرحية «ثأر الله» بحدث وفاة معاوية بن أبي سفيان، وأخذ البيعة ليزيد ابنه بالترغيب والترهيب من المسلمين، الموقف الذي ولدت منه بطولة الحسين من بين أضلع تلك المأساة السياسية الكبري، حيث وقف موقفًا مبدئيًا ضد هذه البيعة التي ستتحول معها الخلافة في الإسلام إلى ملك وراثي.

 بشكل بديع تتناول المسرحية الحوارات وأحاديث النفس بين الحسين وآل البيت وبني أمية، حيث يقرر بعد منام رآه أن يقف في وجه السيل، ويتحدى ما هو قادم.

كما تتناول المسرحية ببيان بليغ طلب بني أمية البيعة من الحسين ورده عليهم: 

الوليد .. نحن لا نطلب إلا كلمة ..
فلتقل بايعت واذهب بسلام إلى جموع الفقراء
فلتقلها واذهب يا ابن رسول الله حقنًا للدماء
فلتقلها ما أيسرها إن هي إلا كلمة ..

الحسين (منتفضًا): كبرت كلمة
وهل البيعة إلا كلمة
وما دين المرء سوى كلمة
وما شرف الله سوى كلمة

ابن مروان (بغلظة): فقل الكلمة واذهب عنا ..

الحسين .. أتعرف ما معنى الكلمة
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو كلمة
الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور
الكلمة نور ..
وبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم ..
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو كلمة
شرف الله هو الكلمة.

كما يستنطق الشرقاوي شخصية الحسين بن علي، رضي الله عنه، ويخاطب من خلالها ضمير المسلمين الصامتين الساكتين عن قول الحق في كل زمان ومكان.

ويطلب الشرقاوي على لسان الحسين أن يتذكره الجميع أن يدركوا ثأره من خلال عدم تخليهم دومًا عن طلب العدل والحق:

يا أيها العصر الرزي لانت غاشية العصور
قد آل أمر المتقين إلى سلاطين الفجور
قل أي أنواع الرجال جعلتهم في الواجهات؟
قل أي أعلام رفعت على البروج الشاهقات؟
فلتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين ..
بل اذكروني بانتشال الحق من ظفر
بل فاذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال
بل فاذكروني بالنضال على الطريق
لكي يسود العدل فيما بينكم
فلتذكروني بالنضال
فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها
حيرى حزينة
فلتذكروني عندما تجد الفضائل نفسها
أضحت غريبة
وإذا الرذائل أصبحت هي وحدها الفُضلى الحبيبة
فاذكروني
فلتذكروني حين تختلط الشجاعة بالحماقة
وإذا المنافع والمكاسب صرن ميزان الصداقة
والحق فى الأسمال مشلول الخطى حذر السيوف
فلتذكروني حين يختلط المزيف بالشريف
فلتذكروني حين تشتبه الحقيقة بالخيال
وإذا غدا البهتان والتزييف والكذب المجلجل هن آيات النجاح
فلتذكروني في الدموع
وإذا تحكم فاسقوكم في مصير المؤمنين
وإذا اختفى صدح البلبل في حياتكم ليرتفع النباح
وتلجلج الحق الصراح
فلتذكروني
وإذا شكا الفقراء واكتظت جيوب الأغنياء
فلتذكروني عندما يُفتِى الجهول
وحين يستخزى العليم
وعندما يهن الحكيم
وحين يستعلى الذليل
وإذا تبقى فوق مائدة امريء ما لا يريد من الطعام
وإذا اللسان أذاع ما يأبى الضمير من الكلام
فلتذكروني
فلتذكروني إن رأيتم حاكميكم يكذبون
ويغدرون ويفتكون
والأقوياء ينافقون
والقائمين على مصالحكم يهابون القويّ
ولا يراعون الضعيف
والصامدين من الرجال غدوا كأشباه الرجال

كيف رسم العقاد وطه حسين وخالد محمد خالد صورة الحسين التاريخية؟

اهتم الكثير من الكتاب والأدباء المصريين في التاريخ الحديث والمعاصر بقضية استشهاد الحسين، وأُلفت في هذا الإطار العديد من الأعمال الكلاسيكية التاريخية والأدبية، من أبرزها كتاب «أبو الشهداء: الحسين بن علي» لعباس محمود العقاد، وكتاب «الفتنة الكبرى» لطه حسين بجزأيه الأول والثاني، وكتاب «أبناء الرسول في كربلاء».

لكي نفهم جانب من صورة الحسين في الخيال المصري والعربي الحديث التي تكونت عبر أعمالهم الأدبية والتاريخية، نجد على سبيل المثال الكاتب والأديب المصري عباس محمود العقاد يذهب في كتابه المشار إليه إلى أن الأوضاع في عهد يزيد بن معاوية بلغت حداً لا يعالجه إلا الاستشهاد، ويقول في هذا السياق إن الدعاة المستشهدين يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنهم يمدون دعوتهم بأسباب البقاء، فتظفر بنهاية المطاف بكل شيء حتى المظاهر العرضية والأرضية.

فصحيح أن يزيد قد انتصر في معركة كربلاء وهزم الحسين، إلا أن دعوة الأخير ظلت باقية وقام عليها ملك العباسيين والفاطميين، واستند عليها ملك الأيوبيين والمماليك بشكل أو بآخر وصولًا إلى عهد العثمانيين.

فالشهادة حسب تعبير العقاد إن كان خصمًا ضعيفًا في اليوم والأسبوع والعام، إلا أنها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والقرون ومدى الأيام، في هذا الإطار أصبح الحسين بن علي الشهيد ابن الشهيد، ليس مجرد رجل طلب الحكم وصارع من أجله، وإنما رمز لصراع من أجل الحق والثبات على المبدأ رغم الخيانة، ومثالًا ورمزًا على هذا المستوي ليس فقط للمسلمين ولكن في التاريخ الإنساني برمته.

الانحيازات ذاتها التي يتبناها العقاد يتبناها أيضًا طه حسين وخالد محمد خالد في كتابيهما، وهو اتجاه ليس استثنائياً بطبيعة الحال في الأدبيات السنية التاريخية، فالحسين من منظور معظم أهل السنة والجماعة مذهب الغالبية الساحقة من المصريين المعاصرين، هو بطل وشهيد، وهو سيد شباب أهل الجنة كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، ولذلك لا يعد أهل السنة والجماعة في هذا الإطار امتدادًا تاريخيًا للأمويين، الذين يُعد كثير منهم «نواصب» حسب التعبير التراثي الاصطلاحي.

 لذا غني عن القول إن الحسين لا يعد بطلًا يستأثر به الشيعة وحدهم، ولكنه بطل وشهيد عند أهل السنة والجماعة أيضًا، ورمزًا إنسانيًا للثورة على الظلم والظالمين في كل مكان وزمان.