في مجلس ببيت العلامة محمود شاكر رحمه الله سنة ١٩٨٨م قال له تلميذه العلامة الدكتور محمود الطناحي رحمه الله: «في تاريخنا التراثي الذين اشتغلوا باللغة أمدَّ الله في أعمارهم، أبو علي الفارسي قطع التسعين، وابن الشجري قطع التسعين». وضحك وقال: «وأنا إن شاء الله سأقطع التسعين، وأنت إن شاء الله ستقطع التسعين».

لم يكن لصاحب هذه المقولة من نبوءته نصيب، فقد مات بعد أن قارب شيخه محمود شاكر التسعين بستة أشهر فقط، وكان عمره هو ٦٤ عاما، ولكن نبوءته صدقت على أحد شيوخه من حضور هذا المجلس أيضًا، وهو شيخه الدكتور حسين نصار الذي توفي يوم الأربعاء ٢٩ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أن قطع التسعين كما تنبأ تلميذه.

والدكتور حسين رحمه الله عالم ملأ الدنيا علما بمؤلفاته التي بلغت ٤٤ كتابًا، وتحقيقاته التي بلغت ٢٤ كتابًا، وترجماته التي بلغت ٩ كتب، وملأ الدنيا علمًا أستاذًا جامعيًا، ومذيعًا بالإذاعة المصرية، ورئيسًا لقسم اللغة العربية، ولقسم اللغة الفرنسية، ولقسم اللغات الشرقية بكلية الآداب، وعميدًا لكلية الآداب وغيرها من المعاهد العلمية، ومديرًا لمعهد المخطوطات العربية وعضوًا بمختلف المجالس والاتحادات واللجان الثقافية في مصر.

ولد سنة ١٩٢٥ بمحافظة أسيوط، وتخرج في قسم اللغة العربية بكلية الآداب سنة ١٩٤٧، ثم حصل على الماجستير سنة ١٩٤٩ عن رسالته «نشأة الكتابة الفنية في الأدب العربي»، وحصل على الدكتوراه سنة ١٩٥٣ عن رسالته الرائدة «المعجم العربي نشأته وتطوره».

ولست بصدد التعريف بالدكتور حسين نصار رحمه الله، فقد تكفل بهذا كثيرون، أذكر منهم، الدكتور عادل سليمان جمال الذي أشرف على الكتاب التذكاري «ثمرات الامتنان دراسات أدبية ولغوية مهداة إلى الأستاذ الدكتور العلامة حسين نصار بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين»، والأستاذ حسام عبد الظاهر في كتابه «العطاء العلمي والثقافي للأستاذ الدكتور حسين نصار»، وأذاعت قناة دليل حلقات مسجلة في بيت الدكتور حسين نصار روى فيها سيرته الذاتية ببرنامج أوراق العمر.

ولكن أحب أن أبصِّر ببعض ما وقفني في سيرته العلمية الطويلة.


نهاية مشرقة لبداية تقليدية

كان الإمام ابن عطاء الله السكندري يقول: «من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة»، والمطلع على سير العلماء يجد أن بدايتهم في العلم كانت تبدأ من طفولتهم، يحفظون القرآن دون العاشرة، يطالعون الكتب والمتون، ويلزمون أهل العلم، أو يكون لهم دليل من أقاربهم يدلهم على طريق العلم.

لكن نشأة الدكتور حسين نصار لم تكن نشأة محرقة، بل كانت نشأة تقليدية جدا، لم يكن فيها أي بشرى بنبوغ في الأدب أو اللغة، فقد نشأ في عائلة تشتغل بالتجارة، ولم تهتم بنشأته العلمية قبل التحاقه بالمدرسة، بل لم تهتم بإلحاقه بالكتاب، وهو لا يذكر أنه واظب على حضور الكتاب وهو صغير، بل إن محفوظه من القرآن الكريم حين سأله المحاور كان جزء عم فقط ليصلي به، فهو لم يحفظ القرآن حتى وفاته.

وفي المرحلة الثانوية التحق بالقسم العلمي، وكان من المقرر أن يلتحق بكلية الطب بالإسكندرية، ولكن حال دون ذلك سوء الأحوال في الإسكندرية بسبب الحرب العالمية الثانية.

إذن كيف صار الأستاذ إلى ما صار إليه؟

كان الدكتور حسين يبالغ في الثناء جدًّا على التعليم في عصره في كل مراحله الابتدائية والثانوية والجامعة.

ففي الابتدائية كان مدرس اللغة العربية الدرعمي يأخذ منهم كل شهر جزءًا يسيرًا من مصروفهم الشخصي ليشتري لهم كتبًا يقرؤونها، ويطلب منهم أن يبكِّروا في الحضور ساعة عن موعد الدراسة ليناقش موضوعات الإنشاء التي يكتبونها (مادة التعبير الآن).

وحين أراد الالتحاق بكلية الآداب قدم لمسابقة المجانية، وكانت امتحانا في عدة كتب تقرر على المتقدمين لهذه المسابقة، فكان الدكتور زكي مبارك يتعرض لهذه الكتب بالتحليل والنقد في مجلة البلاغ!

وفي الجامعة تتلمذ على كبار العلماء والأدباء مثل أمين الخولي وأحمد الشايب ومصطفى السقا وأحمد أمين وغيرهم من العلماء.

وكان يذهب وهو طالب إلى دار الكتب المصرية للمطالعة! فما حال دار الكتب الآن؟

وعندما تخرج في كلية الآداب اختار هو القسم الذي يريد أن يعين فيه، واختار بنفسه المشرف على رسالتي الماجستير والدكتوراه.

يروي رحمه الله قصة عن صديقه الدكتور شكري عياد رحمه الله، يقارن فيها بين تعليمهم وتعليمنا، يروي أن الدكتور عياد عرض على حفيدته أن يساعدها في دروس اللغة العربية بدلا من أن تأخذ فيها درسًا خصوصيًّا، فلما بدأ الدرس قالت له: أنت تعلمني اللغة العربية، وأنا أريد أن أتعلم ما سيأتي في الامتحان لا اللغة العربية.

وحين تخرج في كلية الآداب اتخذ أستاذه العلامة مصطفى السقا رحمه الله شيخا له فلازمه ملازمة الابن لأبه، وشاركه في كثير من أعماله، وكان الأستاذ السقا يذكر ذلك في مقدمات شاكرا لتلميذه مشاركته. وأفاده الأستاذ السقا في دراسته، وأشرف على رسالتي الماجستير والدكتوراه، وأعانه على نشر كتبه وعرفه بعلاقاته على أصحاب دور النشر، وأوصى أبناءه أن مكتبته تؤول للدكتور حسين بعد وفاته يأخذ منها ويدع ما يشاء.

فكان للأستاذ السقا أكبر الأثر في التكوين النفسي للدكتور حسين.


عطاؤه العلمي لطلابه وقاصديه

كنت في وقت الدراسة الجامعية في كلية دار العلوم حريصا على اقتناء أفضل طبعات دواوين الشعراء الجاهليين، فوقع لي ديوان عبيد بن الأبرص صاحب المعلقة العاشرة «أقفر من أهله ملحوبُ»، كانت طبعة مصطفى الحلبي ١٩٥٧م بتحقيق الأستاذ العلامة حسين نصار رحمه الله، وكان اسم الدكتور حسين نصار مقترنًا في ذهني بأسماء كبار المحققين مثل محمود شاكر وعبد السلام هارون ومحمد أبو الفضل إبراهيم وغيرهم من أعلام هذا المجال، فاطمأننت لهذه الطبعة من الديوان ولجودتها، قرأت الديوان وعندما بلغت قصيدة عبيد بن الأبرص البائية «لمن الدار أقفرت بالجناب» ووصلت لقوله:

وإذا الخيل شمرت في سنا الحرب :: وصار الغبار فوق الذؤاب واستجارت بنا الخيول عجالا :: مثقلات المتون والأصلاب مصغيات الخدود شعث النواصي :: في شماطيط غارة أسراب مسرعات كأنهن ضراء :: سمعت صوت هاتف كلاب لاحقات البطون يصهلن فخرا :: قد حوين النهاب بعد النهاب

وجدت تعليقا للمحقق د. حسين نصار يقول: يبدو أن القصيدة ناقصة، إذ لم يرد جواب «إذا»، إلا إذا كان محذوفا لقيام القرائن عليه في البيت الأخير.

شغلني أمر هذه القصيدة، واحتمال نقصانها في الطبعة التي اعتمدها د. حسين في نشرته، وهي طبعة المستشرق الإنجليزي ليال (ت ١٩٢٠م).

ثم وجدت على موقع مكتبة جامعة الملك سعود، نسخة مخطوطة من ديوان عبيد بن الأبرص عنوانها «مختارات من شعر عبيد بن الأبرص بن عوف» جمعها جميل بك العظم، فراجعت القصيدة في هذه المخطوطة فوجدت البيت الناقص الذي أشار د. حسين إلى احتمال وجوده وهو:

فسرني ما وصلت إليه، وظننت أنني وقفت على شيء، وتمنيت لو أمكنني أن ألتقي بالدكتور حسين نصار لأطلعه على هذه المخطوطة ذات الخط الجميل، وذات الزيادات الكثيرة على نشرته، وطفقت أنشر خبر هذا البيت الساقط من ديوان عبيد على المنتديات العلمية كملتقى أهل الحديث، ومنتدى المجلس العلمي.

ثم قابلت الدكتور حسين بعد ندوة أقامتها كلية دار العلوم في أبريل ٢٠١٠م لمئوية الشاعر محمود حسن إسماعيل كان الدكتور حسين من المحاضرين فيها، استطعت أن أكلمه بعد الندوة وأخبرته بأمر المخطوطة التي عثرت عليها وما بها من زيادات في ديوان عبيد بن الأبرص. فوجدت منه اهتمامًا كبيرًا وأعطاني رقم هاتف بيته للتواصل معه.

زاد اهتمامي بالمخطوطةِ «الاكتشافِ» التي أوصلتني للدكتور حسين نصار أحد أكبر القامات الأدبية والعلمية في العالم العربي والإسلامي، فبحثت عن جامعها وعن زياداتها التي انفردت بها في كتب الأدب، فوجدتها ضمن مشروع لجميل بك مصطفى العظم الأديب السوري (ت ١٩٣٣) «ديوان العرب» جمع فيه ما وقف عليه من شعر العرب، غثه وسمينه، ورتبه على الحروف ولم يتمه، فوضع فيه أشعارا غير صحيحة النسبة، ونسب أشعارا لغير قائليها. ووجدت زياداته على ديوان عبيد كلها غير صحيحة النسبة لعبيد بن الأبرص، فلم يؤثر هذا على ثقتي بأهمية النسخة لأن فيها البيت الناقص في القصيدة البائية.

وهاتفت د. حسين نصار لمقابلته، واتفقنا على اللقاء في مكتبه بكلية الآداب، وحين قابلته واطلع على المخطوطة، علم بخبرته أنها لا قيمة لها، فكم حقق من دواوين وكم عاين من مخطوطات، وقال لي: هذه مخطوطة حديثة لا يمكن اعتمادها في التحقيق. فلما ذكرت له البيت الناقص، قال لي: هذا يمكن العثور عليه في مصادر الشعر. فذكرت له أنني خرَّجت كل زيادات المخطوطة، ونسبتها إلى قائليها، فشكر لي هذا العمل، وعرض علي أن ينشره لي باسمي في مجلة من مجلات التراث.

فقلت له: كيف هذا وأنا طالب في السنة الثالثة؟

فقال لي: وما الإشكال؟

فاعتذرت له، واستكثرت على نفسي هذا العرض السخي منه، وانتهى لقاؤنا وأنا سعيد به، وسعيد بعرضه متعجب منه، كيف لطالب أن ينشر بحثا باسمه في مجلة علمية؟ ولماذا عرض علي هذه الخدمة العظيمة علي اليسيرة عليه دون سابق معرفة بي، ولست من تلامذته، عرفت حينها هذا الملمح عن شخصيته، وأن عطاءه لم يكن لأخصائه أو طلابه فقط، بل كان لكل قاصديه.

وأظن أن ما فعله معي في اللقاء الوحيد الذي جمعني به كان ثمرة من غرس أستاذه مصطفى السقا، وأن عطاءه لطلابه وقاصديه كان من عطائه له، ليكون عَوْدًا على بدء شيخه.


عرفان ونكران

طويت بيضنا فحنت وغنت :: ناهلات دم العدا كالشراب

أهدى الدكتور حسين مكتبته لجامعة أسيوط عرفانًا لجميل محافظته التي ولد فيها عليه، وأبقى جزءًا يسيرًا جدًا من مكتبته أهداه إلى جامعة أخرى لا داعي لذكرها، وجدت هذه الكتب المهداة لهذه الجامعة تباع على الرصيف، واشتريت من المعروض أكثره، وكان على أكثر الكتب إهداءات من كبار العلماء والكتاب، أذكر منها إهداء من العلامة كوركيس عواد، وإهداء من العلامة محمد مهدي علام، وإهداء من العلامة أحمد عبد الغفور عطار، وأكثر من خمسين كتابا آخر وأعداد من السنوات الأولى لكثير من المجلات، اشتريتها بثمن زهيد جدا.

لا شك أن لكل عالم الحق في التصرف في مكتبته كيف شاء، لكن في عصور الانحطاط العلمي كعصرنا هذا، يكون تداول الكتب ببيعها خيرا من حبسها بإهدائها إلى المكتبات الخاصة في الجامعات أو بيعها لمكتبات دول الخليج فتظل حبيسة الأرفف لا يصل إليها الباحثون.

وفي سيرة الدكتور حسين نصار ما يدعو للتأمل غير ما ذكرت، وستنشر دار الكتب المصرية سيرته الذاتية «التحدث بنعمة الله» التي كتبها بنفسه، وأرجو أن تكون حافلة بالجديد عن تاريخ عصره، وعن حياته العلمية.

هذه المقالة إسهام ضمن فعاليات أسبوع اللغة العربية.

أسبوع اللغة العربية
أسبوع اللغة العربية