في السادسة من مساء الأحد الموافق 26 فبراير، اتفق المستوطنون القريبون من بلدة حوارة جنوبي نابلس، على تشكيل مسيرة والتوجه بها إلى داخل أحياء البلدة الصغيرة للهجوم على منازلها وإحراقها.

اعتاد أهالي حوارة على اعتداءات المستوطنين المتكررة، لكن الأمر يومها كان أشبه بحرب بها طرف أعزل محاصر بين الجدران وآخر أُطلقت يداه بكل أنواع السلاح أهونها الرصاص وأخطرها الحقد الذي أحرق الأخضر واليابس.

تحدث «إضاءات» مع عدد ممن تعرضوا للاعتداء في هذه الليلة، أجمعوا على أن المختلف في هذا الهجوم هو الأعداد الكبيرة للمستوطنين بحماية جيش الاحتلال، خصوصًا بعد الإجراءات الأخيرة لحكومة الاحتلال التي سمحت بتجرؤهم وتفاخرهم بحمل السلاح في وجه أصحاب الأرض.

أغلب المنازل التي تعرضت للهجوم في حوارة، استمر التعدي عليها من ساعة ونصف إلى الساعتين، هكذا طوال فترة الهجوم الذي بدأ في نحو السادسة مساءً وحتى العاشرة من مساء نفس اليوم.

وصية الأب لابنه: دافع عن إخوتك حتى الموت

«داري قريب من مستوطنة على بُعد 5 كيلومترات، يستعمرون أعلى الجبل ونحن في البلدة بالأسفل عُرضة لاعتداءاتهم المتكررة»، هكذا بدأ أيمن طلال حديثه ليصف صعوبة العيش في الوضع الطبيعي، لكن ليلة الأحد المشؤومة كانت أمرًا آخر، يقول أيمن: «تجمّع أكثر من 60 مستوطنًا أمام كل بيت وأحرقوا السيارات وخلعوا الأبواب في محاولة لدخول المنازل وحرق من بداخلها».

كان أيمن خارج فلسطين يوم وقوع الأحداث، فوجئ باتصال من أسرته، وعلم أن مجموعات المستوطنين يُهاجمون المنزل بالحجارة والقنابل الحارقة، وتمكنوا من إحراق سيارته ومنعوا نجله من إطفائها.

طلب أيمن من ابنه فتح الكاميرا ليرى الوضع بعينه، وحاول إرشادهم بقدر المستطاع إلى ما يُمكن فعله، رغم محاولته تهدئة ابنه خلال الاتصال قائلًا «مش مشكلة يا بابا البيت بيتعوض وتغور السيارة المهم سلامتكم»، إلا أنه أوصاه بالدفاع عن والدته وشقيقاته حتى الموت في حال تمكن المستوطنون من دخول الدار «يموت واحد بس وهو بيدافع عن الستة» يقول أيمن.

وصل لهيب حرق السيارة إلى المنزل، مصحوبًا بأدخنة المواد الحارقة، تمكن المستوطنون من خلع الباب الرئيسي، بعدها قاموا بالهجوم على منزل آخر خاص بابنه، سريعًا ما غادروه بعد أن تأكدوا من خلوه من أي أثاث أو تجهيزات، إلا أنهم تركوا بصماتهم عليه بتدمير جميع الزجاج والنوافذ، «أظن أن في حرب الـ48 ما صار هيك!» هكذا وصف أيمن ما رآه بعد عودته للبلدة.

غادر المستوطنون وتركوا الأسرة في حالة اختناق وصدمة مما حدث، جاءت طواقم الإسعاف وأجرت اللازم لمعالجة الاختناق، ما لم تقدر عليه حتى الآن، هو إعادة الشعور بالأمان للأم وأبنائها، يوضح أيمن: «من الحالة النفسية بعد الحريق لا كانوا بياكلوا ولا يشربوا».

عن سبب التحركات العدائية المكثفة من المستوطنين ضد حوارة تحديدًا، يرى أيمن أن البلدة تُعد شريانًا يربط شمال الضفة الغربية بجنوبها، كما أن للبلدة تاريخًا نضاليًا منذ الانتفاضة الأولى، «بيحقدوا على حوارة ولا ينسوها»، يُضيف أن للبلدة اقتصادًا يُعين أهلها على العيش، حيث تحوي أكثر من 700 محل تجاري، وفي رأيه أن ذلك يُعيق خطتهم لمحوها من الوجود كما صرح وزير المالية الصهيوني، يقول أيمن: «حوارة العين عليها بدهم يمحوها ويخربوا علينا حياتنا على أساس الواحد يبيع أرضه ويرحل.. لكنهم فشلوا في ذلك.. منزلي ورثته عن أبي وأبي ورثه عن جدي وإحنا صامدين ومُرابطين».

نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة
نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة

المقاومة بالجِرار الفارغة

السيدة «إسراء» زوجة أيمن طلال، حكت عن لحظات الرعب التي مرت عليهم داخل المنزل، «حاولوا يحرقونا.. الدخنة ملت البيت والجيش بيساعدهم ويضرب غاز مسيل على المنزل.. وضعنا كان كتير صعب»، كانت إسراء «بين نارين» كما قالت، بعد إصرار ابنها على مقاومة المعتدين، بخاصة أن كل ما استطاع المقاومة به هي «جِرار غاز» فارغة.

سمعت إسراء من قبل أن البصل يُقلل من تأثير الغاز المسيل، فحاولت تطبيق التجربة، تقول: «بقينا نشم البصل لكن على الفاضي لأن المسيل كان كتير وفاسد».

تُعاني إسراء حتى اليوم من صُداع مزمن أخبرها المسعفون أن استنشاق الغاز والأدخنة بكمية كبيرة قد يكون السبب.

«أكياس النايلون» طوق أخير للنجاة!

كان الهجوم الذي رآه «يوسف» على بلدته يفوق الوصف، بخاصة أسلوبهم في حرق السيارات بحماية جيش الاحتلال، يقول: «لما هجموا على البيت قاومناهم بالحجارة والأشياء البسيطة الموجودة لدينا.. عندها أطلق جنود الاحتلال الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع باتجاه الدار».

يسكن يوسف مع شقيقه في منزل واحد، يحكي كيف تصرفت زوجته عندما ارتعبت على أسرتها، بخاصة وأن لديها طفلة في عمر 6 أشهر وأخرى عامين وطفل عمره 4 سنوات والابنة الكُبرى 8 سنوات، وبحركة سريعة أدخلتهم جميعًا إلى حمام الدار، يوضح: «سكرت عليهم الحمام بالنايلون والبلاستيك» لمنع وصول الدخان والغاز إليهم، وهو نفس التصرف الذي اهتدت إليه أسرة شقيقه.

نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة
نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة
نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة
نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة

مزارع الزيتون شاهدة عليهم

اعتاد أهالي حوارة هجوم المستوطنين بشكل أسبوعي كما أكد معتز قصراوي ابن البلدة «بيكسروا سيارات الناس وهم راجعين من شغلهم».

في يوم الأحد 26 فبراير، كان معتز بمنزله، ومع قدوم الساعة الثامنة والنصف مساءً، بدأ تجمع المستوطنين أمام الدار «بلشوا يتجمعوا قرب مزارع الزيتون.. كانوا أكثر من 150 مستوطنًا وبدأوا بضرب النار والغاز وكسروا وخربوا في حماية الجيش».

يملك معتز ورشتين، واحدة لبيع قطع غيار السيارات والثانية للتصليح «ورشة قطع السيارات كلها انحرقت والثانية حاولوا يقتحموها ليحرقوها»، لم يتمكن معتز من الدفاع عن مكان عمله، لبقائه في المنزل مع أسرته.

في المنزل لم يكن الوضع أفضل حالًا، يقول: «لأكثر من ساعة ونصف بيحاولوا يدخلوا البيت»، صعد معتز بأسرته إلى أعلى نقطة بالمنزل، ليكون وأطفاله أبعد ما يمكن عن المعتدين، وظل هذا الوضع حتى تمكن بعض الجيران من تجميع أنفسهم والتوجه إلى منزله لإنقاذهم.

نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة
نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة

«أنا انتهيت»

يستأجر مراد النوري محالًا تجارية بعمارته التي يقطن طابقها الثالث، يوم الهجوم كان مراد في المنزل، «إحنا دائمًا على خط النار مع المستوطنين»، هكذا وصف الوضع في حوارة، وفي هذا اليوم تجمع قرابة 80 مستوطنًا أمام عمارته، وكالعادة في حماية جيش الاحتلال، يقول: «كان فيه قناصة لحمايتهم وكنا نرى الليزر الخاص ببنادقهم».

اعتمد المهاجمون سيناريو مشابهًا أمام كل منزل، يتجمعون بالعشرات حتى يُقللوا فرصة مقاومة الأهالي، يبدأون في خلع الأبواب الرئيسة، وعند دخول ساحات المنازل أو الورش يبدأون في التخريب والحرق، وهو ما فعلوه بـ«منجرة»- ورشة نجارة- أسفل العمارة، يوضح مراد «عندي مستأجر لمنجرة كلها مواد قابلة للاشتعال.. العامل كان بداخلها بين الحياة والموت».

المسافة بين بيت مراد والورشة لا تتعدى الأمتار، لكنه عجز عن النزول إلى الطوابق السفلى لمساعدة العامل داخل المنجرة، ومع أن العامل نجى بأعجوبة من الحريق، إلا أن مراد لا ينسى كلماته وقت الهجوم «قالي أنا انتهيت».

داخل منزله وجد مراد أن الأسلم هو البقاء في «الصالة»، بدلًا من الغُرف المُطلة على الشارع لكونها هدف سهل لرصاصات وزجاجات المستوطنين الحارقة، عاش الأطفال في حالة رعب بخاصة أن الأسرة ظلت لسنوات خارج فلسطين ولم يمر الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من سنة إلى 16 سنة بمثل هذه المواقف من قبل. 

يوضح مراد أن أغلب منازل بلدة حوارة مُسيجة النوافذ والأبواب، بسبب اعتداءات المستوطنين المتكررة، «نستعين بالزجاج والألمونيوم والحديد على الشبابيك عشان ما يوصلوا إلنا».

 الحرب ألطف من هيك ليلة!

خسارة كبيرة لحقت بورشة بيع السيارات التي يملكها أحمد لطفي، التي لا يفصلها عن منزله سوى سور، يحكي أحمد ما حدث: «هجموا فوق 200 مستوطن بلشوا بكسر بوابات البيت والورشة.. حرقوا كل سيارات الشغل»، أكثر من 200 سيارة أصبحت عبارة عن هياكل محترقة، إضافة إلى ثلاث سيارات بساحة منزله.

كان أحمد لطفي خارج البلدة وقت الهجوم، ولم يكن هناك ليُدافع عن مكان عمله ولو بالجِرار الفارغة أو بالحجارة كما فعل البقية، تُركت والدته وزوجة أخيه مع الأبناء وحدهم داخل المنزل، احتموا داخل غرفة لمدة ساعة، وكالعادة تدخل الجيش في ذروة الهجوم وقام بسحب المستوطنين.

نُقلت الأسرة إلى المستشفى لتلقي الإسعافات بعد إصابتهم بالاختناق والأطفال بالرعب، «الحرب ألطف من هيك ليلة» هكذا وصف أحمد ما حدث.

لا يُهون الفاجعة عليه سوى سلامة أسرته من الهجوم، لكنه بات بلا خطة أو رؤية عن مستقبل عمله، وسط وعود بتعويضات يراها غير مضمونة.

نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة
نماذج حرق الممتلكات في بلدة حوارة

التخفي في ملابس عدوك هو الحل

بينما كان عُدي راضي عائدًا من محل عمله في نابلس إلى حوارة، بلغه في الساعة الخامسة مساء أن المستوطنين يستعدون لتنظيم مسيرة ينوون بعدها تصعيد الأمور للهجوم على البلدة، وصله اتصال من زوجته، يقول: «أول ما فتحت التليفون وصلني صوت زوجتي وأطفالي وهم بيصيحوا تعالوا احمونا فيه ناس بيكسروا في البيت».

لم تعلم أسرة عُدي في البداية هوية المعتدين، ظنوا أنهم يتعرضون للسرقة، لكن صوت الصراخ أثار توتر عُدي وعلم أن الأمر ليس بغرض السرقة عندما أصر جنود الاحتلال على إغلاق الحاجز الفاصل بين نابلس وحوارة ومنعهم من المرور، يصف هذه اللحظات: «كنا فاكرينهم حرامية لغاية ما تجادلنا مع الجنود واضطررنا لسلك طريق أبعد عن البيت بأكثر من ساعة».

على أحد الحواجز إلى المنزل، رفض الجنود السماح له بالمرور، فطلب منهم عدي وشقيقه أن يأتي بعض الجنود معهما إلى المنزل ليتأكدوا من تعرضهم للهجوم فرفضوا «تجادلنا معهم صاروا يضربوا فينا ورفعوا السلاح.. في هاي اللحظة ما ضل شي نخسره»، أصر عُدي على المرور وأكمل هو وشقيقه طريقهما حتى جاء صوت أحد الضباط يأمر الجنود بالسماح لهما بالعبور.

وصل عُدي إلى منزله ليُذهل من عدد المستوطنين المتجمعين أمام الباب «كان المنظر مُخيف»، كان الهدف الوحيد لديه هو وصولهما إلى داخل المنزل لحماية الأسرة، تنكرا بتغطية رؤوسهما بنفس الطريقة التي اعتاد عليها المستوطنون للإفلات من كاميرات المراقبة، يُضيف: «حكيت لأخوي لا تحكي ولا كلمة عربي وزي ما بيعملوا اعمل حتى نوصل».

تمكنا من دخول الساحة التي تجمع ثلاثة منازل خاصة بالعائلة «كان مع المستوطنين زجاجات حارقة ومواد إذا حاولت تحط عليها ماي بتزيد ما بتطفي»، وعلى باب المنزل اكتشف المعتدون هويتهما وعلموا أنهما من أصحاب الدار، يقول عن هذه اللحظة: «ضربوني بالحجار وحاولوا يلحقوا بي ما عرفوا.. وضربوا أخي بحجر كسروله كتفه».

عثر عُدي على والدته وجدته التي تفوق الـ86 عامًا على الأرض في حالة إغماء جراء استنشاق الأدخنة والغاز المسيل، في هذه اللحظة استخدم ما تعلمه في دورة الإسعافات الأولية لإنقاذهما ونقلهما إلى غرفة أخرى، ثم عاد إلى شقيقه ليُكمل مُهمة إنقاذ المنزل الآخر، ليجدهم أحرقوا السيارات ومنزلًا ثالثًا صغيرًا يُستخدم كمضيفة «صرت أنا وأخوي نفوت على المطبخ ونرمي عليهم الصحون والكاسات لنبعدهم».

في نفس اللحظات كانت زوجته وزوجة شقيقه وأطفالهما يختبئون داخل الحمام، يقول عُدي: «سكّروا على حالهم الحمام وشغلوا الشفاط ليطلع الدخان لبرة»، زاد هجوم المستوطنين بمجرد أن سمعوا صرخات الأطفال والنساء وعندما طلب عُدي من الجنود إبعاد المهاجمين أطلقوا باتجاهه قنابل صوت وغاز.

يعلم أهالي بلدة حوارة أن هذا الهجوم لن يكون الأخير، بخاصة مع التصريحات العدائية الصادرة عن مسؤولين في حكومة الاحتلال، آخرها تصريحات وزير المالية الصهيوني، بتسلئيل سموتريتش، التي دعا فيها إلى «محو» بلدة حوارة ووصفها بأنها «تحريض على العنف والعداء» حتى وإن تراجع عنها واعتبرها «ذلة لسان»، فالواقع أثبت أن هذا ما ينوي عليه الاحتلال بالفعل، ليبقى الحل الوحيد أمام الأهالي هو الصمود والمقاومة.