نعم إنها ليست إلا تفريعة جديدة لن يؤدي مجرد شقها إلى تعمير محور القناة وسيناء، كما أنها ليست في حد ذاتها مشروعًا تنمويًا يعود مردوده بسرعة على الشعب المصري كافة. نعم إنها تفريعة تمت بأموال المصريين وبأيدي أبناء مصر من العمال والمهندسين وفي زمن قياسي، ولكن لا يُخفي هذا الإنجاز في حد ذاته ما تغرق فيه مصر من أزمة سياسية واقتصادية، بل والأهم: أزمة اجتماعية وأخلاقية، والأكثر خطورة: الأزمة الأمنية منذ 3/7/2013.

نعم إن الاحتفالات الجارية منذ ما قبل الافتتاح بشهر على الأقل تدفع عنوة بقناة السويس وتنمية محور القناة وتعمير سيناء إلى عقل ووعي المصريين، ولكن ليس على النحو الذي يعالج آثار الانقطاع بين الوادي وسيناء عقودًا ممتدة سابقة أو يعالج الصورة الذهنية الحالية عن كون سيناء هي الإرهاب والمخدرات والسلاح والتهديد لأمن مصر كلها.

نعم إن الاحتفالات الجارية تقحم -بافتعال واصطناع- قناة السويس أمام أعين وآذان المصريين، ولكن على نحو يقترن بثورة توقعات غير مسبوقة؛ من أنها ستكون منطلق التنمية والرخاء للشعب المصري وللعالم من ناحية. كما يقترن -من ناحية أخرى- بنزعة استقلالية على اعتبار أن “قناة السويس الجديدة” هي هدية مصر للعالم، في حين أنه ما كان يمكن أن يتحقق هذا الإنجاز في هذا المدى الزمني دون الاستعانة بتكنولوجيا متقدمة لا تمتلك منها مصر النزر اليسير ولكن قدمتها شركات عالمية وإماراتية بتكلفة مالية باهظة!!

نعم إن الاحتفالات الجارية تلقي بقناة السويس في طريق كل مصري الآن، ولكن بصورة نفعية مادية ومحاطة بسياج من هستيريا التأكيدات الأمنية بأن جيش مصر (هيحميكم)، ومغلفة بحالة من تأليه الزعيم المنقِذ للبشرية.

نعم إن الاحتفالات الجارية منذ شهر تتم في غياب تام لأية أعمال عنف مثل التي شهدتها موجة يونيو، ولكن تكشف الحملة الإعلامية المتشنجة حقيقة الأزمة التي تملأ قلوب وعقول الأذرع الانقلابية بالقلق والخوف لدرجة تدفعهم إلى حمى وهستيريا المبالغة في قيمة ومغزى افتتاح التفريعة والاستماتة في دعوة الناس للفرح والأمل والاحتفال والحشد وعدم الخوف.

…إنها الهستيريا التي تكشف أزمات عدة يحاول أن يخفيها النظام، ولذا فإن الهستيريا الزائدة في الاحتفال متعددة الأوجه، وخاصة الوجه الأمني، تبين أن النظام يتجمل لأنه يكذب؛ ولأنه في أزمة؛ ومن هنا أهمية الأوجه الأخرى للعملة الواجب الانتباه إليها لفهم أسباب ودلالات هذه الهستيريا في الاحتفالات:

  1. نظام مصر يحتفل ويزغرد لحاله فقط وفي أضيق حدوده الجغرافية، وباستسلام شديد لمعنى شوفيني للوطنية: أنا وما بعدي الطوفان حتى ولو كان جواري العربي. وبهذا فهو يحتفل على نحو يزيد من تهديد أمن مصر القومي؛ لأنه يقطع صلته بجواره القومي والحضاري. فكيف نجري هذه الاحتفالات وجميع هذه الدماء تسيل من حولنا وجميع هذا الخراب يمتد ويتفاقم من حولنا؟ ألم تعد مصر على هذا النحو كبير الأقزام!! وماذا يفعل كبيرهم هذا لهم؟!!
  2. ألم نتساءل: لماذا يتحرك مشروع تنمية محور القناة وامتداداته في سيناء على هذا النحو الآن مع نظام 3/7، هذا بفرض أن التفريعة سيعقبها مشروع التنمية المزعوم، والذي لا أحد يتحدث بصورة رسمية وعلنية عن تفاصيله أو جدواه على نحو علني حتى الآن؟ ألم نتساءل: لماذا بدأ يتحرك وعلى هذا النحو الجذري هذا المشروع الذي لم نسمع عنه منذ 1982 أي منذ استكمال تحرير سيناء إلا في مناسبات الاحتفال بهذه الذكرى؟ ألم يكن هذا المشروع في الدرج –كما يدعي الانقلابيون- منذ أيام مبارك ولم يجرؤ على تنفيذه الآن إلا صاحب الرؤية الزعيم الملهم حامي الأمن القومي المصري؟ معروف من تقارير وبحوث دولية أن العائق الأساسي أمام تنمية سيناء كان الاعتراضات الإسرائيلية، ناهيك عن قيود اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية. ويبدو أن التحالف الاستراتيجي غير المسبوق بين السيسي وإسرائيل قد فتح الطريق أمام تنفيذ هذا المشروع في ظل تزايد الوجود العسكري المصري في سيناء تحت ذريعة محاربة الإرهاب.

ولهذا، وإذا كان د.مرسي قد اتُّهم بالخيانة والتخابر مع حماس وقطر لبيع سيناء مما يهدد أمن مصر، أليس تحالف السيسي مع إسرائيل وبيع سيناء للإمارات والشركات العالمية (الواجهة لإسرائيل)، تهديدًا لا يقل خطورة إن لم يكن أكثر؟ وهل محاربة الإرهاب تقدم الذريعة والمبرر؟ وما هو نمط مشروعات تعمير محور القناة؟ وما علاقتها بتعمير بقية سيناء وبمستقبل التزامات اتفاقية كامب ديفيد الأمنية؟ أليس لسكوت إسرائيل على هذه الاحتفالية العسكرية لتأمين القناة من مغزى إضافي على كل ما سبق؟ إن تصريحات جون كيري عن الدور المصري خلال الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري الذي تم إحياؤه وتجديده بعد انقطاع سنوات منذ ثورة 25/1 لتؤكد أنه دور يندرج في مشروع صهيوني أمريكي للمنطقة برمتها وليس للسلام المصري الإسرائيلي فقط.

  1. ألم نتساءل: من الذي يستفيد من مشروعات تنمية محور قناة السويس التي يتم التخطيط لها؟ ومن الذي يتصدى للقيام بها؟

إن افتتاح التفريعة ليس المتطلب الضروري الذي لا غنى عنه لتدشين مشروع التنمية في محور القناة وسيناء. ولكن للعملة وجهًا آخر مفاده على سبيل المثال: الأنفاق تحت القناة لنقل المياه… إلى إسرائيل: هل ما لم يقدر على تنفيذه السادات ومبارك من ترعة السلام يُقدِم السيسي وبجرأة على تنفيذه خدمةً لحليفه الاستراتيجي: إسرائيل؟ ولعل هذا هو ثمن التسوية الهادئة التي وقعها السيسي في إثيوبيا منذ عدة أشهر وانتهت معها المواجهة الصريحة مع إثيوبيا حول سد النهضة. إنه من المعروف أن إسرائيل ذات نفوذ قوي في إثيوبيا وحول بناء سد النهضة… فما الذي جرى وراء الكواليس بين مصر وإسرائيل وأثيوبيا والولايات المتحدة حول أمن مصر المائي؟

ومن ناحية أخرى: احتفال افتتاح التعريفة يتم تحت الرعاية المالية لكبار رجال أعمال الفلول ومن ادّعى منهم مساندة ثورة 25/1. وفي ظل عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية التنموية لنظام 3/7 (حيث يتأرجح خطابه بين إرث ناصر الاجتماعي وبين إرث مبارك الرأسمالي)، وفي ظل مناورات السيسي المعلنة وغير المعلنة مع رجال الأعمال سواء الطامحين لخدمته أو الطامحين للقيام بدور إلى جانب العسكر أو المنزعجين من استيلاء العسكر وسيطرتهم على سوق قطاع الأعمال… في ظل ذلك كله، تظل قائمة قضية توزيع عوائد مشروع تنمية محور قناة السويس، ناهيك بالطبع عن قضية توزيع الكعكة في الأصل بين رجال الأعمال المصريين ورؤوس الأموال الخليجية، وخاصة الإماراتية.

ورغم كل ما سبق من أسئلة، فإن الإجابة تتوقف على الشفافية والرقابة حول طبيعة من يعد مشروع التعمير، ومن سينفذ، وكيفية توزيع عوائده؟ وهي الأمور غير المتوفرة حاليًا ولذا لا نسمع إلا هجومًا مسبقًا أو دفاعًا أعمى هستيريًّا…

  1. إن هستيريا حملة الاحتفال تخفي أوضاعًا شديدة التأزم، شديدة الدلالة بالنسبة للخطورة على مستقبل الحياة السياسية في مصر منذ 3/7. فرغم ما يدعيه النظام من إنجازات ليؤكد شرعيته ومشروعيته داخليًا وخارجيًا، وأن ما حدث في مصر في 30/6 كان ثورة، وإضافة إلى سيل خطابات السيسي وقراراته بقوانين طوال أشهر مايو ويونيه ويوليو التي شهدت أحداثًا جسامًا (أحكام الإعدام على د.مرسي وقيادت الإخوان، اغتيال النائب العام، الهجوم على الشيخ زويد، حادث القنصلية الإيطالية…) استغلها النظام لإحكام قبضته ولتعبئة المساندة الخارجية له ضد الإرهاب، إلا أن خطابات الاحتفالية الجارية ذات دلالات واضحة على درجة ما وصلت إليه عسكرة الحياة السياسية والاقتصادية المصرية (ناهيك عما حدث أيضًا من عسكرة الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي…)، وعما وصلت إليه الجهود الانقلابية التي مازالت تلهث بحثًا عن “الشرعية”.

وتتعدد العلامات على هذه الحالة العامة؛ ومنها على سبيل المثال ما يلي:

  • ناحية: تلاعب قيادة النظام وأذرعه الإعلامية بوعي المصريين للتعظيم من الإنجاز؛ وذلك بالحديث الذائع والمنتشر والمتداول عن “قناة السويس الجديدة” وليس عن شق تفريعة جديدة. ولقد أعطى السيسي ذاته الضوء الأخضر لهذا الخطاب “المزيف” منذ إعلانه في كلمة افتتاح تدشين الحفر عن “مشروع قناة السويس الجديدة تحت الرعاية الكاملة للجيش…!

من ناحيةٍثانية: المطابقة بين الحدث وبين السيسي مما يؤكد اتجاهات الشخصنة للسياسة والتأليه للرئيس القائد العسكري، وأنه الأساس في كل إنجاز. حقيقةً كل إنجاز يتطلب قيادة واعية، ولكن شتان بين هذا وبين احتكار السلطة والانفراد بها وادعاء أن رؤية القائد هي تعبير عن رؤية وإرادة الشعب.

من ناحية ثالثة: الشعبوية الغامرة: فبدون مردود مباشر وسريع يحسِّن من أحوال “الشعب” إلا أنه من المطلوب منه أن يثق ويؤيد ويبايع ويشرعن. ومن ثم فالأذرع الإعلامية لا تكف عن التعبئة والتوجيه الهستيري لهذا الشعب: افرح، اخرج للاحتفال، انتظر المستقبل، لا تخف “الجيش هيحميك”. فالاحتفال في حد ذاته هو الهدف والغاية والمناسبة الملائمة للتوظيف السياسي خدمةً لنظام مازال لا يثق بنفسه وبشرعيته. وهو يحتاج وفق رؤية كل مستبد، لاحتفال موسمي للتعبئة ولتزييف الوعي وإخفاء الحقائق والتجمل.

– ومن ناحية رابعة: بعد التأليه للزعيم والتعبئة والتزييف للوعي العام يأتي دور تأكيد “العسكرة”: الجيش هو الراعي الأول للمشروع بأكمله منذ أن قدم اعتراضاته وتحفظاته على تنفيذ حكومة د.مرسي لنفس المشروع معتبرًا إياه تهديدًا للأمن القومي المصري (بالطبع بسبب من ينفذونه وليس لطبيعة المشروع)، ومنذ أن أطلق السيسي الدعوة لحملة الاكتتاب وطلب التنفيذ في عام واحد. بعبارة أخرى: الجيش يؤكد على دوره كصاحب المشروعات القومية القادر بمفرده -دون غيره- على سرعة الإنجاز ودقته وفعاليته، على نحو يدمر الفرص ويقطع الطريق على قطاع رجال الأعمال فلا يعملون إلا برعايته ووصايته وموافقته. فرغم أن هذا الدور الخِدمي المدني للجيش كان قائمًا منذ عقود إلا أنه أفصح عن نفسه بجرأة وعلانية غير مسبوقة منذ 3/7.

فأين أدوار الجيش الأخرى في حماية الأمن القومي من الأعداء الخارجيين؟ فلم يعد ظاهرًا بقوة إلا دوره في مواجهة الأعداء من الداخل: (الإرهاب)؛ والذي تمت المطابقة بينه وبين المعارضة لتبرير استئصالها. فلقد تغيرت عقيدة الجيش حين أصبح مصدر التهديد هو “الإرهاب”؛ وهو الأمر الذي أثر على طبيعة توظيف قدراته وإمكانياته في الداخل أساسًا: خدميًا أو أمنيًا.

ومن هنا دلالة مزدوجة لحمى هستيريا حملة الاحتفال: استعلاء عسكري متزايد على المدني، سواء في قطاع الأعمال أو الأمن، وتركيز شديد على دور الجيش في تأمين الاحتفال وتأمين قناة السويس. ويتكرر في الإعلام -وبصورة مكثفة ومستمرة- الفيلم التسجيلي الذي أعدته الشئون المعنوية تحت عنوان: “الجيش هيحميكم لا تخافوا”. إن خطابات القيادات العسكرية للوحدات المعدّة لتأمين الاحتفال هي من طبائع الأمور، فهذا هو دور الجيش، لا داعي للتذكرة به كل لحظة والإعلان عنه كل ثانية، كما لو كان أمرًا غير طبيعي أو لابد من الإقرار بفضله وبحمده.

وإذا كان المقصود –كما يعتقد البعض –من وراء هذه التعبئة الأمنية هو استعراض قوة يعطي الانطباع للخارج- وخاصة المستثمرين- أن الدولة تحكم قبضتها لإقرار الأمن، إلا أن طريقة إخراج الحملة ومضمونها يدلان على أن التهديدات المحتملة للاحتفال كبيرة، وأنه لا يتحقق الأمن إلا بقبضة حديدية. وجميعها وسائل تحقق عكس المرجو منها.

إن هذه المشاهد التعبوية تتناسى أمرين:

أولهما– أن الذي حفر التفريعة وسيعمل بها هم “المصريون” المدنيون. ولقد عجبت جدًا من عبارة قالها الفريق مميش: أنا تعاملت مع مدنيين واكتشفت قدراتهم الرائعة، كما لو كان يعتقد أنه لا قدرات إلا في الجيش.

الأمر الثاني- أن الذي دافع عن القناة ومدنها حين اندحرت الجيوش في 1956 كان أهل بورسعيد، وفي 1967 كان أهل سيناء، وفي 1973 (الثغرة) كان أهل السويس، كما دافع أهل مصر جميعهم عن استقلال مصر حين اشتعلت المقاومة ضد الجيش الإنجليزي في القناة قبل الجلاء. ولقد كان عصبًا من أعصاب انتصار 1973، شباب مصر من المهندسين والفنيين الذين التحقوا بالجيش المهني.

إن جيش مصر هو جزء من أهلها وحامي أمنها، ولكن ليس الوطن أو الدولة أو الشعب. ومن ثم فإن سعي نظام 3/7 لاكتساب الشرعية بعد انقلاب ليس إلا مزيدًا من العسكرة وتأزيمًا وتعقيدًا للعلاقات العسكرية-المدنية على حساب ما هو مدني وشعبي وسلمي وتنموي لصالح ما هو عسكري ومسلح وأمني. ومن ثم ضد كل ديموقراطية ومواطنة وحرية ونقد. وليس هذا هو النمط الذي يبني دولاً قوية ومجتمعات متوازنة وحرّة، حتى ولو افتتحوا كل يوم تفريعة جديدة لقناة السويس.