محتوى مترجم
المصدر
Philosophy Now
التاريخ
2017/02/01
الكاتب
Hamid Andishan

هل سبق وأن سمعتَ عن شخص يحب ويكره شيئًا في آنٍ واحد؟ يمكن أن يؤدي هذا إلى الجنون، أو على الأقل، إلى معاناة شديدة. ويصبح الوضع أسوأ إذا كان هذا الشيء هو الوطن. لقد عانى جان بول سارتر من مثل هذه الحالة. فقد كان فيلسوفًا فرنسيًا معاديًا لفرنسا. تأثر سارتر برينيه ديكارت وكان معجبًا بأونوريه دي بلزاك، وحارب من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكان أسير حرب في ألمانيا؛ ولكن بعد الحرب تحوَّل إلى واحد من أكثر المنتقدين للسياسة الفرنسية. لماذا؟

شهد سارتر كيف كانت فرنسا – أرض الحرية والمساواة والإخاء – بمثابة المفترس الاستعماري في الجزائر، والكاميرون، والهند الصينية. في افتتاحية مجلة «Les Temps Modernes» في عام 1945، أعلن سارتر وأستاذ الفينومينولوجيا موريس ميرلو بونتي أنَّ أفراد المقاومة الفرنسية الذين قاتلوا لتحرير فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، الذين هم الآن في الهند الصينية، كانوا مثل الجنود الألمان الذين يقاتلون من أجل الفاشية. بحسب سارتر، كانت باريس رمز الحرية ضد آلية الفاشية (انظر كتاب: تحرير باريس، 1945م)، ولكن بعد أسبوع من موت هتلر، أرسلت مدينة الرومانسية والحرية القوات لارتكاب مجزرة دموية في مدينة سطيف الجزائرية، نتج عنها ذبح الآلاف من الجزائريين. وفي السنوات التي تلت ذلك، واصلت فرنسا المتحضرة القمع الوحشي للحركة المناهضة للاستعمار، وكثيرًا ما حكمت على الناس بالموت في محاكم عسكرية. كل هذا دفع سارتر إلى الإعلان: «نحن جميعًا قتلة» في مقال بهذا العنوان نشرته المجلة، في العدد رقم 145، عام 1958:

في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1956، زرع فرناند إفيتون، وهو أحد أعضاء «جبهة التحرير الوطني» «جماعة ثورية أسسها الحزب الشيوعي الجزائري» قنبلة في محطة كهرباء الحامة، وهو عمل تخريبي لا يمكن بأي حال أن يتساوى مع عمل إرهابي. أثبت التحليل أنها كانت قنبلة موقوتة موضوعة بدقة بحيث لا يمكن أن يحدث الانفجار قبل مغادرة الأفراد العاملين بالمحطة. ولكن دون جدوى: اعتُقل إفيتون، وحُكِم عليه بالإعدام، ورُفض إرجاء تنفيذ العقوبة، وتمَّ إعدامه في النهاية. وبدون أدنى تردد: أعلن هذا الرجل، وأثبت أنه لم يكن يرغب في قتل أي شخص، ولكننا أردنا قتله، وفعلنا ذلك دون تردد.

يرى سارتر أنَّ فرنسا لم تعد نصيرة الحرية؛ بل على العكس من ذلك، كانت ضد الحرية. لقد كانت فرنسا تلعب لعبة مزدوجة؛ فهي تحاول القيام بدور قيادي في خطاب حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه تقمع السكان الأصليين في أراضيها المستعمرة. وفي مقدمته لكتاب فرانز فانون عام 1961 «معذبو الأرض»، يقول سارتر، إنَّ فرنسا يجب أن تتخلص من فرنسا. وهذا يعني أنه يجب على فرنسا الحرة والمثالية فصل نفسها عن فرنسا الاستعمارية.

كان رينيه كاسان، أستاذ القانون الفرنسي، الممثل الفرنسي في لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعمل على إعادة النظر في المسودة الأولى منذ سنوات ما بعد الحرب. ولو رأى سارتر هذه المسودة لانتابته موجة من الغثيان والاشمئزاز؛ لأنها أعلنت أنَّ حقوق الإنسان تفترض وجود درجة عالية من الحضارة، وبالتالي لا تنطبق على أناس في المراحل «البدائية» للتنمية. تشير هذه الإعلانات إلى أنَّ حقوق الإنسان ليست لجميع البشر، ولكن فقط لأولئك الذين هم أكثر إنسانية (أذكر هنا إعلان الخنازير في رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات»: «كل الحيوانات متساوية، لكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من الآخرين»).

على أي حال، تأرجح سارتر، على مدى ثلاثة عقود، نحو وبعيدًا عن فكرة حقوق الإنسان؛ لأنه تشكّك في نزاهة نظرية حقوق الإنسان تجاه ما يسمى الشعوب غير المتحضرة البائسة. ولكن لو صدر الإعلان من قِبل إمبراطوريات استعمارية مثل فرنسا وبريطانيا، هل حقًا كان سيكون سلميًا، ولائقًا وحسن النية؟ وراء هذه الابتسامة الإنسانية الجميلة، هل كان هناك أسنان حادة؟

في بعض الأوقات دافع سارتر عن الإعلان، لأنه رأى أنّه على الرغم من قصوره، إلَّا أنّه يعزز الحقوق الأساسية التي ينبغي أن يتمتع بها كل إنسان. في بيانه «عن الإبادة الجماعية» في الجلسة الثانية من محكمة جرائم الحرب الدولية، التي أسسها برتراند راسل، في عام 1967، عبِّر عن قلقه العميق إزاء حقوق الإنسان العالمية، وأدان الولايات المتحدة لانتهاكها تلك الحقوق في فيتنام.

ولكن باعتباره ماركسيًا، كان سارتر قلقًا أيضًا مما رأى أنها عناصر برجوازية ضمنية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونزعة فردانية متطرفة بشكل خاص. كما ينتقد «البرجوازية» لاستخدام منهج تحليلي لتفسير كل شيء، وأنّه يجب اختزال كل واقع مركَّب إلى عناصر بسيطة. مثل اختزال الماء إلى أكسجين وهيدروجين، يريد التحليل البرجوازي اختزال المجتمع الإنساني في أفراد معزولين. وفي تقديمه لمجلة «Les Temps Modernes» (أعادت مطبعة جامعة هارفارد نشره تحت عنوان: «ما هو الأدب ومقالات أخرى») قال سارتر، إنه يعتقد أنَّ هذا المبدأ سيطر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كذلك. ولكن عندما يفقد شعب ما أراضيه، وتجارته، وشبابه، ولا يكون لديه أي شيء باستثناء كينونته الخاصة، فهذا الشعب لا يحتاج إلى ممتلكات فردية وخاصة؛ بل على العكس من ذلك، إنه بحاجة إلى الجماعية بدلًا من الفردانية، وإلى العودة إلى الجماعية التقليدية والحق الجماعي في تقرير المصير.

إذا كان سارتر مفكرًا يساريًا فحسب، لكان موقفه ضد الفردانيِّة المطلقة واضحًا. لكنه كان وجوديًا أيضًا. إنَّ الفردانية هي واحدة من الركائز الرئيسية للوجودية. في محاضرته «الوجودية هي الإنسانوية» عام 1945 [ترجمها عبد المنعم الحفني إلى العربية بعنوان: «الوجودية مذهب إنساني» – إضاءات]، أعلن سارتر أنَّ «نقطة الانطلاق للوجوديّ هي، في الواقع، ذاتية الفرد – لا لأننا بورجوازيون، ولكن لأننا نسعى إلى بناء عقيدتنا على الحقيقة». وفي كتابه «الكينونة والعدم» (1943)، جادل سارتر أنَّ كل فرد مسؤول وجوديًا عن خوض وخلق طريقه/ طريقتها للحياة. هذا هو نوع الوجود الذي يطلق عليه كيركيغارد التفرّد أو الفردية. يجب أن نلاحظ أنّه بحسب سارتر، فإنَّ التفرّد أو الفردية تختلف عن الفردانيِّة؛ فالنزعة الفردانيِّة المتطرفة هي نفيٌ للهوية الجماعية؛ ومع ذلك، يمكن أن تندمج الفردية مع الآخر.

وعلى الرغم من أنَّ سارتر ينتمي إلى الجانب الأيسر من النقاش حول حقوق الإنسان، إلَّا أنَّ انتقاداته لا تتوافق بالضبط مع المفكرين اليساريين المعاصرين مثل سلافوي جيجك في مقالته «ضد حقوق الإنسان» (2005). يربط جيجك نظرية حقوق الإنسان بالرأسمالية الليبرالية، تمامًا كما فعل سارتر. ومع ذلك، يأخذ في الاعتبار ظاهرة جديدة – ظاهرة التدخل الإنساني. في الآونة الأخيرة، شهد بعض النقَّاد مثل جيجك الطريقة المدمرة التي تتدخل بها الدول الغربية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا في بلدان العالم الثالث تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان. وفي هذا الصدد، يكتب جيجك: «على سبيل المثال، فمن الواضح أن الإطاحة بصدام حسين بقيادة الولايات المتحدة، المشرعنة بحجة إنهاء معاناة الشعب العراقي، لم تكن بدافع مصالح سياسية واقتصادية واقعية، ولكنها اعتمدت أيضًا على فكرة الظروف السياسية والاقتصادية التي تمَّ بموجبها تسليم «الحرية» للشعب العراقي: إدخال الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية في اقتصاد السوق العالمي، الخ».

لذلك، ليس من السهل القول بأنَّ سارتر كان مؤيدًا لنظرية حقوق الإنسان، ولا ضدها تمامًا. وهنا أود أن أذكر نقطتين مهمتين. أولًا، نظرية حقوق الإنسان لديها العديد من الإمكانات الإنسانية؛ لدرجة يمكن للمرء أن يدَّعي أنها تحتوي على بذور المساواة في الحقوق بين جميع البشر. ثانيًا، إذا لم نُعِر اهتمامًا كافيًا بنزعة المؤسسة الاستعمارية الرأسمالية لحماية المصالح السياسية والاقتصادية، متجاهلين حقوق الإنسان عندما تتعارض مع تلك المصالح، فإنَّ نظرية حقوق الإنسان يمكن أن يُساء استخدامها بسهولة من قِبل تلك القوى.

يمكن القول من خلال الجمع بين هذه النقاط الإيجابية والسلبية، إنه على الرغم من أن سارتر ونشطاء العالم الثالث قد يثيرون حقوق الإنسان في مطالباتهم بالمساواة والكرامة الإنسانية، إلَّا أنَّ تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يبيِّن لنا أنه في البداية كانت الحقوق مكتوبة دفاعًا عن المواطنين الأوروبيين ضد الإرهاب النازي، وليس دفاعًا عن غير الأوروبيين ضد الاستعمار الأوروبي.