الزم الاقتداء والاتباع، ولا تطأ مكانًا لا ترى فيه قدم نبيك، فضع قدمك على قدمه، إن أردت أن تكون من أهل الدرجات العلى.

هكذا أوصى الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، مشددًا على ضرورة اتباع النبي لمعرفة الله وشريعته والعقيدة الواجبة فيه.

الصوفي الشهير محيي الدين ابن عربي، اشتهر كواحد من أشهر أهل العرفان الصوفي، ويُتَّهَم من البعض بالزندقة والبعد عن الشريعة، وذلك لشهرته الواسعة فيما عرف بعلوم الباطن، أو ما يسميه الصوفية بـ«علم الحقيقة».

إلا أن المدقق في تراث الرجل، ولاسيما في سفره الأعظم «الفتوحات المكية» يجده أيضًا فقيهًا سنيًا مهمومًا بالشريعة معتزًا بها، ويوصي باتباع سنة النبي، بجانب كونه عارفًا صوفيًا.

ابن عربي أو الشيخ الأكبر تربى تربية دينية سنية كلاسيكية، فقد قرأ القرآن بالقراءات السبع على شيخه أبي بكر محمد بن خلف بن صاف اللخمي، وروى الحديث النبوي مسندًا عن البخاري من ثلاث طرق، وعن مسلم والترمذي والبيهقي من طريقين، وعن أبي داوود وأحمد بن حنبل وابن ماجة وابن حبان ومالك عن طريق واحد، وبناءً على ما سبق كانت لابن عربي اجتهادات فقهية كثيرة، جعلت البعض يصفه بـ«الإمام المجتهد».

وكان ابن عربي يبدي اعتزازًا بالشريعة، وعنها يقول: «الشريعة هي المَحَجَّة البيضاء، محَجَّة السعداء، وطريق السعادة، من مشى عليها نجا، ومن تركها هلك».

وفي الشريعة أيضًا قال بيته الشعري:

إن الشريعة حَدٌّ ما له عِوَجُ … عليهِ أهلُ مَقامات العُلَى دَرَجُوا

ويهاجم ابن عربي الرأي الذي يحاول البعض نسبه إلى الصوفية عن التحلل من التكليف الشرعي بعد الوصول لدرجة عالية من التحقق والعرفان الصوفي، حيث يقول:

«من المحال رفع التَحجير والتَكْلِيف مادامت الدنيا وما دام من فيها».

طالما كان ابن عربي مُتَشرِّعًا، فما مذهبه الفقهي، وما محدداته؟ هذا ما نلقي الضوء عليه، ونتبعه ببعض المسائل التي اجتهد فيها، خلال سطورنا التالية.

مذهب ابن عربي الفقهي: ليس ظاهريًا

اهتم ابن عربي بالفقه وله آراؤه الخاصة، رغم أن البعض ينسبه إلى مذهب ابن حزم الظاهري، ولكنه ينفي ذلك، مؤكدًا على استقلال مذهبه المستنبَط من القرآن والسُنّة مباشرة، فيقول:

نَسَبوني إلى ابن حزم وإني … لستُ ممن يقول: قالَ ابن حزم
لا ولا غَيرُه فإنَّ مقالي … قال نَصُّ الكتاب ذلك عِلْمي
أو يَقُولُ الرسول أو أجمَعَ الخَلقُ … على ما أقول ذلك حُكمِي

لكن البعض فهم معنى كلمة «الظاهر» التي يرددها ابن عربي في كتاباته على أنه ينتمي إلى المذهب الظاهري، وهو ما ينفيه في شعره السابق، وبالتالي فإن مقصوده بـ«الظاهر» هو اللفظ اللغوي الظاهر للنص الديني دون محاولات تأويله.

وعمومًا وافق ابن عربي الظاهرية في أمور وخالفهم في أخرى، فمثلًا وافقهم في عدم جعل القياس أصلًا من أصول الفقه، ولكنه خالفهم في انتقادهم للمذاهب الأخرى التي جعلت القياس أصلًا من أصول الفقه.

كما خالفهم في تعارض الآية من القرآن مع خبر الواحد الصحيح، وقال إن الخبر عنده «مظنون الدلالة» حتى ولو «ثبت نصه»؛ ففي أصول الظاهرية يتعاملون مع مدلول ألفاظ الرواية (وهذا المدلول هو ما يقود إلى الحكم الفقهي) على سبيل اليقين بظاهر ألفاظها، أما ابن عربي فلا يعتبر الأخبار والمرويات نصوصًا شرعية في دلالتها إلا وفقًا لقصد قائلها وأحواله وسياقات الرواية، فهي عنده قابلة للتأويل دائمًا.

كما اختلف معهم في كثير من المسائل الفرعية، ومنها حكم لمس النساء الذي يعتبر الظاهرية أنه ينقض الوضوء في أي وضع ومع أي شخص، حتى ولو كان بين الأب والأم والابنة والابن، وهو ما يخالفه ابن عربي.

وكذلك خالفهم في حكم الصلاة على من قتل نفسه حيث يمنع الظاهرية الصلاة عليه، بينما يبيحها ابن عربي، معتبرًا أن الحديث المنسوب إلى النبي عن قاتل نفسه «خالدًا مخلدًا في النار» بأنه جاء على سبيل الزجر والتخويف، وليس على سبيل الحقيقة، كما سنبين بتفصيل أكثر خلال المقال.

في كثير من المسائل يوافق ابن عربي الأئمة الفقهاء المشاهير، وعلى رأسهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن حزم الظاهري، ويسرد آراءهم ويخالفهم في مسائل أخرى.

وكثيرًا ما يعتمد آراءً سابقة عليه ولا يجتهد في إثباتها، باعتبار أنهم أثبتوا من قبله توافقها مع القرآن والسنة، ولكنه حين يختلف ويفتي برأيه الخاص يوثق رأيه من واقع المصادر الشرعية وعلى رأسها القرآن، وفقًا لفهمه لها.

وبشكل عام، ربما من واقع خلفيته الصوفية، يميل ابن عربي إلى التيسير في آرائه، حيث يختار دائمًا الرأي الأيسر على الناس، طالما اتفق مع أصول الدين.

ويرى عمومًا أن أصل وضع الشريعة في العالم كان بهدف «طلب صلاح العالم ومعرفة ما جُهِل من الله، مما لا يقبله العقل، أي لا يستقل به العقل من حيث نظره، فنزلت بمعرفة هذا الكتب المنزلة ونطقت به ألسن الرسل والأنبياء، فعلم العقلاء عند ذلك أنهم نقصوا من العلم بالله أمورًا تممها لهم الرسل والأنبياء».

وفي هذه المقولة يعتبر ابن عربي أن الفلاسفة، ومن في حكمهم من المفكرين، معارفهم ناقصة، وأن الشرائع التي جاء بها الرسل من الله هي المُكَمِّل لنقصانهم.

وهو هنا وإن كان خرج جزئيًا عن الحديث المباشر عن الفقه والأحكام إلى قضية فلسفية جدلية فإنه يُعَرِّف بها مفهومه لهدف وجود الفقه والشريعة، وهو «صلاح العالم».

أصول الفقه: مع الكتاب والسنة ولا يعترف بالقياس

مصادر الفقه المعتبرة عند كل فقهاء أهل السنة هي: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، وكذلك هي عند ابن عربي، في ما عدا القياس فهو يقول «لا أقول به ولا أقلد فيه جملة واحدة».

كذلك فالإجماع بالنسبة إليه هو إجماع الصدر الأول، أي إجماع الصحابة فقط، وما عدا عصرهم فليس بإجماع، وكذلك يربط ابن عربي الإجماع بالنص، فأي إجماع يدَّعيه عالم هو غير معتبر بالنسبة له ما لم يستند إلى نص من القرآن أو السنة.

وعنده إذا تعارضت آيتان من القرآن أو خبران صحيحان، فإنه يتدرج في استخدامهما وفقًا للآتي:

أولًا: محاولة استعمالهما معًا، وذلك في حال احتواء أي منهما على استثناء أو زيادة على النص الآخر، حيث يعمل بالاستثناء أو بالزيادة.

ثانيًا: إن لم توجد زيادة أو استثناء في أي من النصين، وتعارضا تعارضًا تامًا، ينظر إلى زمن نزول أو صدور النص، سواء كان نصًا قرآنيًا أو نبويًا، ويأخذ بالنص الأخير، باعتبار أنه ينسخ ما قبله.

ثالثًا: إذا جُهِل زمن نزول الآية أو قول الحديث، يأخذ بأيسرهما، أو أقربهما إلى رفع الحرج عن الناس، استنادًا لآية «ما جعل عليكم في الدين من حرج».

أما إذا تعارضت آية مع حديث صحيح من جميع الوجوه من أخبار الآحاد، وجُهِل التاريخ، أخذ بالآية وترك الحديث، لأن الآية القرآنية أكثر موثوقية.

وعنده أن الحديث الضعيف أقوى من اجتهاد أي عالم، فإذا تعارض حديث مع قول فقيه مجتهد أخذ بالحديث ولو كان ضعيفًا.

هناك أحاديث رويت عن جمع من الصحابة تسمى «المتواترة»، وأخرى رويت عن صحابي واحد تسمى أحاديث الآحاد، وابن عربي يأخذ بهما إلا إذا تعارضا فيأخذ بالمتواتر.

في ما يتعلق بالرواة ومصداقيتهم هناك ما يعرف بعلم «الجرح والتعديل»، ومذهب ابن عربي فيهم أنه إذا ورد الخبر عن قوم مستورين ولم يتكلم أحد فيهم بجرح أو تعديل وجب الأخذ بروايتهم.

فإن جُرِح واحد منهم بجرحة تؤثر في صدقه تُرِك حديثه، وإن كانت الجرحة لا تتعلق بنقله للحديث وجب الأخذ منه، إلا شارب الخمر إذا تكلم في حال سكره، فإن عُلِمَ أنه روى الحديث في حال صحوه أخذ بقوله، طالما أنه كان غير مجروحًا، ويبدو هنا أنه لا يعتبر شرب الخمر من الأمور التي تجرح الرواة.

فتاوى ابن عربي: سعة صدر مع الجميع

طَرَق ابن عربي أغلب أبواب الفقه، وشملت فتاواه العبادات والمعاملات وحتى فقه الجهاد، صحيح أنها لم تكن بالتبحر الذي كان عليه أئمة الفقه الذين انكبوا عليه دون غيره، ولكنها كثيرة وواضحة.

وربما لم يتبحر ابن عربي في كل المسائل لأنه كان يعتمد على وجود سابقين له وافقت فتاواهم رأيه، لكنه في كثير من المسائل التي كانت تستوجب رأيًا خاصًا به كان يتعمق بشدة.

وفي السطور التالية نستعرض بعض النماذج من المسائل الشهيرة التي أفتى فيها وأبدى خلالها رأيه الخاص، وربما يبدو بعضها صادمًا للبعض، ولكن نلمس من أغلبها أنها كانت تميل إلى التوسيع على الناس وعدم التضييق، مع العلم أننا استبعدنا حشدًا ضخمًا من الفتاوى، لأنها تلتقي مع ما قال به آخرون من أئمة أهل السنة.

إمامة المرأة والفاسق جائزة

من المسائل التي اجتهد فيها ابن عربي في ما يتعلق بالصلاة، كانت إمامة الفاسق، فهو يراها جائزة على الإطلاق، سواء كان الناس يقطعون بفسقه أو يَشُكُّون فيه، وحجته في ذلك أنه «لا يقاوم الإيمان شيء مع وجوده في محل العاصي».

كما احتج ابن عربي بأن الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب صلَّى خلف القائد الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي، رغم أن هناك ما يشبه الإجماع على فسق الأخير.

ويقطع ابن عربي بأن المعاصي لا تؤثر في الإمامة، فما دام هذا الفاسق ليس كافرًا تجوز إمامته لأنه ليس بفاسق أثناء أداء الصلاة؛ فالحجاج لم يكن فاسقًا في حال أدائه الصلاة، ولكنه فاسقًا خارجها.

في الصلاة أيضًا أجاز ابن عربي إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء، مؤكدًا أن من يدعي غير ذلك ليس معه دليل يتحجج به، فلا نصًا يمنع ذلك. وهذه الفتوى لم يفتِ بها ابن عربي وحده بل سبقه إليها المزني من أئمة الشافعية، وأبو ثور، وقال بعض الحنابلة بجوازها في التراويح، ولكننا ذكرناها باعتبارها من المسائل الجريئة التي حرمها الأغلب الأعم من الفقهاء.

الصلاة على المُنْتَحِر تجوز

أجاز ابن عربي الصلاة على من قتل نفسه، رغم آية «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا»، وحديث «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جنهم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحَسَّى سُمًّا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يَتَحسّاه في نار جنهم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا».

ابن عربي لا ينكر هذه النصوص، ولكنه يرى أن الشفاعة جائزة مع أي معصية، وصلاة الناس على المنتحر قد تشفع له عند الله، مشيرًا إلى أن النصوص الواردة لم تحدد المؤمنين من غيرهم، ولم تحدد المنتحر الذي صُلِّي عليه من غيره.

كما يشير ابن عربي إلى أن الخلود في النار غير مذكور في القرآن بالنسبة للمنتحر، وبالتالي يحتمل أن تكون النصوص النبوية المذكورة في هذا الإطار قد جاءت على سبيل الزجر والتخويف لا على سبيل القطع بتحقيق ما جاء فيها.

ويتصوف ابن عربي في هذه المسألة ويقول إن من قتل نفسه، يجوز أنه فعل ذلك استعجالًا للقاء الله، وبالتالي يُترَك أمر آخرته لربه، وعلى المؤمنين الصلاة عليه.

الصلاة واجبة على أطفال الكفار

يرى ابن عربي أن الصلاة على أطفال الكفار واجبة، لأنهم على فطرة الإسلام، باعتبار أنهم لم يبلغوا التمييز ولا العقل الذي يمكنهم من اختيار دينهم، وبالتالي لا معنى من ترك الصلاة عليهم بالنسبة للمسلمين.

إقامة حد القتل على الصبي

في ما يتعلق بمعاملة الأطفال، حيث يرى أن الصبي الذي يَقتُل لا يقام عليه الحد، بل يُحبَس حتى يبلغ ويقام عليه الحد فيُقتَل، إلا أن يعفو ولي الدم عنه، ولم يتوسع ابن عربي في شرح أسباب فتواه.

عورة المرأة «السوأتين فقط»

يرى ابن عربي أن ستر العورة فرض في الصلاة وفي غيرها، وحَدّ العورة في الرجل السوأتان فقط «القبل، والدبر»، وكذلك المرأة، وفقًا لآية «وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة»، حيث سوَّى الله في الآية بين آدم وحواء في ستر السوأتين وهما العورتان.

وبالنسبة للصلاة فإن الستر فرض على المرأة، في ما عدا الوجه والكفين بالنسبة للمرأة الحرة، أما الجارية فهناك رأي يرى بجواز صلاتها مكشوفة الرأس والقدمين، وآخر يوجب تغطية رأسها، وآخر يستحب هذه التغطية.

ابن عربي هنا يستعرض آراء السابقين ولا ينكر عليهم، ولكنه يؤكد أن مذهبه ستر المرأة لجسدها في ما عدا الوجه والكفين، سواء في الصلاة أو في غيرها، فرأيه هنا عن تحديد عورة المرأة بالقبل والدبر، هو رأي فني يتعلق بالتسمية والوصف، وليس في وجوب ستر المرأة لجسدها.

كما أنه يرى أيضًا أن صوت المرأة ليس بعورة، لأن الآية تقول «ولا تَخضَعن بالقول فيَطمَع الذي في قلبه مرض، وقُلنَ قولًا معروفًا»، وفي هذه الآية إباحة كلام النساء مع الرجال بشكل خاص، ولكن النهي يتعلق بالخضوع في القول.

الطهارة: النية شرط والماء أنواع

جعل ابن عربي النية شرطًا لصحة الطهارة، والمنطق الذي ساقه لذلك خاض به، فهو يرى أن الأساس بها هو نية التطهر لا استعمال الماء نفسه، فالنية هنا تتعلق بالعمل نفسه لا الماء المستخدم لإنجاز هذا العمل وهو الوضوء.

ويوضح أن الماء إذا أضيف إليه شيء آخر وتغيرت صفته، صار شيئًا آخر غير الماء، وذلك على عكس آية التيمم التي قيد فيها التراب بكونه طيبًا «فتيمموا صعيدًا طيبًا»، أي اقصدوا التراب الذي لا يحتوي على نجاسة.

هو هنا يتحدث بجدل لغوي حول آيات القرآن، فيقول إن الله قال «اغسلوا»، والمعروف بداهة أن الماء هو أداة الغسيل، وبالتالي فأي ماء تطلق عليه صفة ماء يجوز الوضوء به.

ولذلك يرى ابن عربي أن كل الماء يجوز الوضوء به، حتى ماء البحر المالح الذي يحرمه الفقهاء.

وعن الماء الذي خالطته نجاسة يرى ابن عربي أن الماء طاهر في نفسه، وأن مخالطة النجاسة له لا تنجسه في ذاته بل تمنع استعماله في التطهر، لاستحالة فصل النجاسة عنه.

ويقسم ابن عربي الماء إلى أربعة أقسام: طَاهِر مُطَهِّر لغيره، طاهِر غير مُطَهِّر، غير طاهر ولا مُطهِّر، ومُطَهِّر غير طاهر، فهناك نوعان من الماء يجوز التطهر بهما من الأربعة، ويختلف الأمر على حسب درجة ومقدار اختلاط النجاسة بالماء، وإمكانية فصل النجاسة عنه.

المراجع
  1. «الفتوحات المكية»، ابن عربي
  2. «التجديد الفقهي عند الصوفية»، مراد بن فردية، وعلي محدادي
  3. «محاضرة الأبرار»، ابن عربي
  4. «الفقه عند الشيخ الأكبر»، محمود الغراب