«أحمد بن فضلان بن العبّاس بن راشد بن حمّاد» فقيه أديب متمرس، حفظت لنا رسالته في بدايات القرن الرابع الهجري حال بلدان شمال ووسط أوربا منذ ألف عام، وقد كان لهذه الرسالة صدى ثقافي كبير منذ الاهتمام الغربي بها في القرن الثامن عشر وحتى اليوم، ويكفي أن أحد أفلام هوليوود الشهيرة «المحارب 13» قد استلهم شخصية ابن فضلان، وصوّرت من خلاله شجاعة ذلك الفارس العربي الذي ينضم إلى اثني عشر فارسًا أوربيًا لمواجهة أعداء الشمال، في نادرة تنصف العربي على الشاشة الغربية!

لقد وصلت الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ذروتها في كافّة الأصعدة، ولم يكن ذلك ليتكئ على أصالة مرتكزات الحضارة الإسلامية؛ القرآن الكريم والسنة المُطهّرة فقط، وإنما اعتمد على استفادة علماء الحضارة الإسلامية من ميراث الأمم السابقة في العلوم العقلية وتطويرها، الأمر الذي جعل بغداد قبلة الجميع في القرن الرابع والخامس الهجريين وحتى منذ بدايات الدولة العباسية، ويكفيك أن ترجع لأول مصدر من مصادر الببليوغرافيا العربية وهو «الفهرست» لمحمد بن محمد النديم المتوفى سنة 380هـ لتقف على أكثر من 8 آلاف مصنف من المصنفات العربية التي كُتبت في كل الفنون والمعارف في بغداد فقط آنذاك، حتى تتيقن من الحركة الدءوبة والنشطة التي كانت تحياها الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، وفي العاصمة الإسلامية بغداد!


الحضارة العباسية في القرن الرابع

إن أهم ما يُميز الحضارات هو قدرتها على استيعاب الطاقات والعقول، وتميزها في وحدة الجميع تحت مظلتها دونما تفرقة أو خوف، وفي ما بين القرنين الثاني والرابع الهجري تسنّمت الحضارة الإسلامية ذروتها، على مستوى العلوم النقلية والعقلية، وقدرتها الفذّة على تحقيق هذه الوحدة والإبداع بين شعوبها، وقد صدق المستشرق الألماني آدم متز حينما قال:

كان المسلمُ يستطيعُ أن يرتحل في داخل حدود هذه المملكة [العبّاسية] في ظل دينه وتحت رايته، وفيها يجد الناسَ يعبدون الإله الواحد الذي يعبده، ويُصلّون كما يُصلِّي، وكذلك يجد شريعة واحدة وعُرفًا واحدًا وعادات واحدة. وكان يوجد في هذه المملكة الإسلامية قانون عملي يضمنُ للمسلم حقَّ المواطن، بحيث يكون آمنًا على حريته الشخصية أن يمسَّها أحد، وبحيث لا يستطيع أحد أن يسترقَّه على أي صورة من الصور. وقد طوَّف [الرحّالة الفارسي] ناصر خسرو في هذه البلاد كلها في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) دون أن يُلاقي من المُضايقات ما كان يُلاقيه الألماني الذي كان ينتقل في ألمانيا في القرن الثامن عشر بعد المسيح (عليه السلام)[1].

وترتّب على هذه الوحدة الثقافية، وحرية الحركة والتلاقي كمًا فائقًا بارعًا في الإنتاج العلمي الإسلامي، الأمر الذي جعل بغداد قبلة الوفود من البلدان والشعوب غير الإسلامية، فضلا عن الشعوب الإسلامية بطبيعة مركزية بغداد آنذاك!


وفود إلى البلاط العبّاسي

ومن هنا كانت بغداد العبّاسية مقصدًا للأفراد والجماعات والقوافل والرحّالة والبحّاثة وطلبة العلم والتجّار وكل ما يخطر على بال القارئ حول عاصمة عالمية كبغداد آنذاك.

إننا يُمكن أن نقف مع الخطيب البغدادي (ت463هـ) في «تاريخ بغداد»[2] -في اقتباس طويل ومهم- لنرى كيف كانت حُلّة الخلافة العباسية زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله (282 – 320هـ)، وهو يستقبلُ أحد سفراء الدولة البيزنطية الذي لفرط عظمة الاستقبال كان يظنّ أن الموظفين الأقل شأناً من الخليفة كالحاجب ثم الوزير هما الخليفة العبّاسي في كل مرة يقابلهم فيها، قال الخطيب:

تلك حالة الخلافة والخليفة والوزير والجند والمراسم قبل أربع سنوات من سفر ابن فضلان وخروجه من بغداد، فهذا الجاه والثروة والغنى والمنعة والقوة وبراعة التمثيل سيكون له أكبر الأثر عند مبعوث الخليفة ومؤرخ الرحلة ابن فضلان؛ فهو بعد أن عرف وعايش ما في عاصمته ومملكته من ترف وحضارة، أصبح يستصغر أحوال الممالك التي رآها، وخاصة أوربا الشمالية فرسمها رسمًا غريبًا يُشعرنا بأنه كان ينظرُ إليها في عجب كما ينظر بعضُ سفراء الغرب اليوم إلى من يسمّونهم بسكان البلدان المتخلّفة، بلدان العالم الثالث [10]!


أسباب سفارة ابن فضلان

وردَ رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله، ففرشت الدار[3] بالفروش الجميلة، وزينت بالآلات الجليلة، ورُتِّب الحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم، على أبوابها ودهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها، ووقف الجندُ صَفّين بالثياب الحسنة، وتحتهم الدواب بمراكب الذهب والفضة، وبين أيديهم الجنائب على مثل هذه الصورة. وقد أظهروا العُدد الكثيرة والأسلحة المختلفة، فكانوا من أعلى باب الشماسية إلى قريب من دار الخلافة، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص الدارية والبرانية إِلَى حضرة الخليفة، بالبزة الرائقة والسيوف والمناطق[4] المحلاة. وأسواق الجانب الشرقي [من بغداد] وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظارة، وقد اكتري كل دكان وغرفة مشرفة بدراهم كثيرة، وفي دجلة الشذاءات والطيارات والزبازب والزلالات والسميريات[5]، بأفضل زينة وأحسن ترتيب وتعبئة. وسار الرسولُ ومن معه من المواكب إِلَى أن وصلوا إِلَى الدار، ودخل الرسول فمر به على دار نصر القشوري الحاجب. ورأى ضففا كثيرا ومنظرا عظيما، فظنه الخليفة، وتداخلته له هيبة وروعة، حتى قيل له: إنه الحاجب، وحمُل من بعد ذلك إِلَى الدار التي كانت برسم[6] الوزير، وفيها مجلس أَبِي الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بن الفرات[7] يومئذ، فرأى أكثر مما رآه لنصر الحاجب، ولم يشك في أنه الخليفة، حتى قيل له: هذا الوزير، وأُجلس بين دجلة والبساتين في مجلس قد عُلِّقت سُتوره، واختيرت فروشه، ونُصبت فيه الدسوت[8]، وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف. ثم استُدعي، بعد أن طيف به في الدار، إِلَى حضرة المقتدر بالله، وقد جلس وأولاده من جانبيه، فشاهد من الأمر ما هاله، ثم انصرف إِلَى دار قد أُعدت له[9].

مع عاصمة الدولة الأولى عالميًا آنذاك، كان من المتوقع أن يخطب ودّها الجميع، فهي على المستوى السياسي إمبراطورية عظمى، وعلى المستوى الديني يمثّل الخليفة العبّاسي رمز الوحدة الدينية للمسلمين في كل أصقاع العالم، فهو المعوّل عليه في إزاحة الأخطار، وطلب النجدات، والتماس المطالب.

وبينما كان العبّاسيون على هذه المكانة، أرسل بلغار الفولجا -وعاصمتهم آنذاك على مقربة من قازان اليوم في خط يوازي مدينة موسكو [11]– رسولاً من قبلهم إلى بغداد يرجون العون ضد خطر الخزر عليهم من الجنوب، وأن يُنفذَ إليهم من يفقههم في الدين، وذكر ابن فضلان أن مليكهم ألمش بن يلطوار طلب إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله أن يرسل إليه بعثة من قبله تعرفه شرائع الإسلام، وتبني له مسجدًا، وتنصب له منبرًا يُقيم عليه الدعوة للخليفة في جميع مملكته وسأله إلى ذلك أن يبني له حصنًا يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له، وقد بسط ابن فضلان أمر هؤلاء المخالفين.

ولقد اهتمّ علماء الشمال الأوربي وروسيا بهذه الرحلة القيمة والنادرة عن وصف أقطارهم في وقت اتسمت فيه هذه الأقطار بالجهالة والضحالة والبداوة كما يصوّر ابن فضلاًن، وذكر المستشرق الروسي البارع كراتشكوفسكي مجهود من سبقوه من المستشرقين في دراسة هذه الرحلة وما جاء فيها، ومحاولاتهم الحثيثة والجادة بربط ما جاء فيها من أماكن وبلدان وأنهار بجغرافيا اليوم، فهو يقول مثنيًا:

يقدم [ابن فضلان] صورة حياة للظروف السياسية في العالم الإسلامي والعلاقات بين بلاد الإسلام والبلاد المتاخمة لها في آسيا الوسطى أو الأصقاع النائية التي كانت تمثّل أطراف العالم المتمدن آنذاك مثل حوض الفولجا. وتحفل الرسالة بمادة إثنوجرافية قيمة جدًا ومتنوعة بصورة فريدة، وهي تمسّ عددًا من القبائل التركية البدوية القاطنة آسيا الوسطى وعددًا من الشعوب التي كانت تلعب آنذاك دورًا أساسيًا في تاريخ أوربا الشرقية كالبلغار والروس والخزر[12].

لذا تُعدّ الرسالة (دراسة حالة) نادرة عن شعوب روسيا وشمال أوربا منذ ألف عام، ولا تكمن أهمية هذه الرسالة في كونها وصف أدبي ممتع لمرحلة تاريخية مضت فقط، بقدر ما تكشفُ لنا كيف نظر العربي المتقدم إلى ذلك الأوربي المتراجع حضاريًا في حالة – للعبرة والالتفات – معكوسة اليوم، وذلك ما سنقف معه في مقالنا القادم إن شاء الله.


[1] متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة 1 /22. دار الكتاب العربي، الطبعة الخامسة – بيروت.[2] ينقل البغدادي هذه الرواية عمن سبقوه من مؤرخي القرن الرابع الهجري مثل مسكويه في «تجارب الأمم».[3] المقصود بالدار هنا؛ دار الخلافة العباسية، وكانت في قلب العاصمة بغداد آنذاك، وعن وصف هذه الدار التي كانت بمثابة مدينة ملكية مستقلة لها سورها الخاص وأبوابها المحروسة، ونظامها الأمني والخدمي المستقل انظر ملاحق كتابنا «آخر أيام العباسيين» المنشور ضمن كتاب «رحلة الخلافة العباسية». من منشورات مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة.[4] جمع مِنطقة وهو الحزام الذي يلف وسط الفارس.[5] أسماء لأنواع مختلفة من القوارب والمراكب الصغيرة والكبيرة التي كانت تطوف نهر دجلة آنذاك.[6] الرسم هو التخصيص، وكانت دار الوزارة ودور كبار الموظفين العباسيين مخصصة بأمر الخليفة لسكنى هؤلاء، حتى إذا أقيلوا من وظائفهم سكنها الموظفّون الجدد.[7] الوزير ابن الفرات من أشهر وزراء الدولة العباسية في عصر المقتدر؛ فهو مؤسس دولته ومدبّرها، وقد ترجم له جل مؤرخي هذه المرحلة مثل الصابي والخطيب البغدادي وابن الجوزي وعريب القرطبي وابن الأثير وغيرهم. وللتعرّف عليه انظر: الزركلي: الأعلام 4 /323، 324. دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر.[8] جمع دست وهو الكرسي المتسع.[9] البغدادي: تاريخ بغداد 1 /417، 418. تحقيق بشار عوّاد، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى – بيروت، 2002م.[10] راجع المقدمة النفيسة للدكتور سامي الدهّان محقق رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة ص21، 22. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق.[11] الدهّان، مقدمة الرسالة.[12] إغانطيوس كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان 1/186. مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر التابعة لجامعة الدول العربية، 1961م.