رأينا في مقالنا السابق الرحلة الشاقة التي استمرت لأكثر من خمسة أشهر كاملة قضاها ابن فضلان والوفد المرافق له متنقلاً في أراضي الدولة العباسية والسامانية والأتراك الغز والقفجاق، لاقى فيها من المشقة ما كشفه بجلاء وصدق في رسالته.

وكما برع ابن فضلان في وصف الأخطار التي أُحدقت به، برع أيضًا في وصف البلدان التي مرّ بها، ورأينا كيف كان وصفه لبرد أقطار وسط آسيا، حتى إن الرجل إذا أراد أن يمنح صديقه جميلاً أضافه على نار طيبة عنده يستدفئون بها سويًا في أسمار الليالي الطويلة.


في أرض الصقالبة .. الروس والبلغار

بعد رحلة عاصفة وشاقة في أراضي القبائل التركية الوثنية، تمكن ابن فضلان من الوصول إلى بلاد الصقالبة البلغار، والحق أن ابن فضلان خصّ بلاد البلغار والروس بوصف محيط دقيق، حيث أفاض في مراسم الاستقبال وفي عيش القوم، وجلوس الملك، وطريقة الأكل مما يخالف حياة العرب ومأكلهم، ووصف المائدة، وقد جلس مليكهم فأخذ سكينا، وقطع قطعة من اللحم المشوي وأكلها، ثم دفع قطعة إلى غيره، فلا يمد أحد يده إلى الأكل حتى يناوله الملك قطعة، وكان كل أحد له مائدته الصغيرة التي لا يُشاركه فيها غيره.

ووصف ابن فضلان قصر الليل وطول النهار في تلك البلاد حين حار في تأدية صلاة المغرب مع صلاة الصبح وقرب طلوع الفجر، وذكر أن القوم يأكلون لحم الدابّة، وأنهم لا يجدون موضعًا يجمعون فيه الطعام، فيعمدون إلى آبار يحفرونها في الأرض ويجعلون فيها الطعام، ولا تمضي عليه أيام حتى يتغيّر وينتن، وليس عندهم زيت وإنما يستعملون زيت السمك.

وذكر دفن الموتى عند المسلمين منهم، يكون بعد الغسل بأن يحملوا الميت في عجلة وأن يواروه اللّحد، ويجعلون بعد ذلك سلاحه عنده حول قبره، ولا يقطعون البكاء عليه سنتين.

ووصف الروس في أبدانهم، فرأى أنهم شُقر حُمر، وأن الرجل منهم يحمل سيفًا وفأسًا وسكينًا لا تفارقه، والمرأة تجعل على ثديها حقّة مشدودة من حديد أو فضة أو نحاس أو ذهب على قدر غناها، وفي كل حُقّة سكين مشدودة، وفي عنقها طوق أو طوقان على قدر ثروتها كذلك.

وذكر أنهم يجتمعون على السكنى في بيت واحد عشرة أو عشرون ولكل منهم سرير يجلس عليه، وحياتهم الزوجية عجيبة مكشوفة لا حياء فيها ولا عار، على قذارة في الثياب والأبدان، فهم يغسلون وجوههم في طست واحد يُطاف عليهم به يرسلون فيه كل ما يخرج من أفواههم وأنوفهم، وأنهم يسجدون لخشب ركزوه في الأرض وقد صُنع على شكل صور، يستشفعون إليه ويتضرعون وله يتصدقون.

وقد وصف ابن فضلان بعض قدماء الروس الذين شاهدهم في مكان على نهر الفولجا حين قدموا للتجارة مع البلغار، وكتب المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي في هذا الصدد أن ابن فضلان كان دقيق الملاحظة فوصف حفلة دفن زعيم روسي وصفًا مفصلاً دقيقًا، فقد ذكر تفصيلات الحرق عند الروس في ذلك الزمان، حتى لقد استقى منها الفنان الروسي هنري سميرادسكي مادة غنية للوحة الدفن، إذ تُزيّن اليوم أزهى متاحف الروس في ليننغراد وموسكو، رفعت اسم ابن فضلان إلى مراتب الخلود والشهرة [1].

ووصف ابن فضلان كذلك بعض صفات الروس الأخرى، ومنها انهماكهم في شرب الخمر «يشربونه ليلاً ونهارًا، وربّما مات الواحد منهم والقدح في يده»[2].

وربما وصف ابن فضلان مشهد الشفق القطبي المصحوب بعواصف الشمال بطريق طريفة حقا؛ إذ قال:

ورأيتُ في بلده من العجائب ما لا أُحصيها كثرة. من ذلك: أن أول ليلة بتناها في بلدهِ رأيتُ قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء وقد احمرّت احمرارًا شديدًا، وسمعتُ في الجوّ أصواتًا شديدة وهمهمة عالية، فرفعتُ رأسي فإذا هو غيمٌ أحمر مثل النار قريب مني، وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه، وإذا فيه أمثال الناس والدواب … ففزعنا من ذلك، وأقبلنا على التضرع والدعاء، وهم يضحكون منّا ويتعجّبون من فعلنا[3].

وسعى ابن فضلان إلى القيام بعمله كرجل مؤمن فقيه بنشر الإسلام بين أولئك القوم؛ فهو يقول:

ولقد أسلمَ على يديّ رجلٌ يُقال له طالوت، فأسميتُه عبد الله، فقال: أريد أن تُسمّيني باسمك محمدًا، ففعلتُ. وأسلمت امرأته وأمه وأولادُه، فسُمّوا كلهم «محمدًا». وعلمته (الحمد لله) و (قل هو الله أحد). فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة[4].

كما وصف ابن فضلان الخزر وهم أعداء البلغار يقطنون في المناطق الجنوبية القريبة منهم ومن الروس، قال عن ملكهم:

يُقال له خاقان الكبير، ويُقال لخليفته خاقان به، وهو الذي يقود الجيوش ويسوسها، ويُدبّر أمر المملكة، ويقوم بها، ويظهر ويغزو، وله تذعن الملوك الذين يُصاقبونه[5].

وعن عاصمة الخزر التي كانت تقع على نهر الفولجا الجنوبي [6] يقول ابن فضلان:


جهود المستشرقين في نشر رسالة ابن فضلان

ولملك الخزر مدينة عظيمة على نهر إتل (الفولجا)، وهي جانبان، في أحد الجانبين المسلمون، وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه، وعلى المسلمين رجلٌ من غلمان الملك يُقال له خز وهو مسلم، وأحكام المسلمين المقيمين في بلد الخزر والمختلفين إليهم في التجارات مردودة إلى ذلك الغلام المسلم، لا ينظر في أمورهم ولا يقضي بينهم غيره[7].

كان المستشرقون أول من تنبّه إلى أهمية رسالة ابن فضلان، مذ قرءوا اقتباسات الجغرافي اللامع ياقوت الحموي (ت: 626هـ) في كتابه الأشهر «معجم البلدان» عن ابن فضلان، فبحثوا عنها في المراجع العربية، واستلّوا ما نقله ياقوت الحموي عن رحلة ابن فضلان وغيرها من المصادر الجغرافية العربية اللاحقة، وشرعوا في العناية بما كتب وترجمته إلى لغاتهم، ومنذ سنة 1800م نشر بعضهم ما جمعه الجغرافيون العرب عن الروس وفيهم الإدريسي والمسعودي وابن فضلان.

وفي سنة 1814م جمع المستشرق راسموسن مقاطع من هذه الفصول وترجمها إلى الروسية ونقلها عنه إلى الانكليزية نيكلسون بعد أربع سنوات، وفي سنة 1819م راح المستشرق الألماني فرهن يجمع مخطوطات ياقوت ليستخرج منها ما نقله عن ابن فضلان ونشرها تباعا سنة 1822، وهو كتاب جدير بالنقد والدراسة، فقد ذكر الرجل ما وقع لعلماء الآثار من النقود والأقمشة مما يلم بتاريخ تلك البلد منذ عصر المقتدر، فقد ذكر فرهن أن نقودًا عربية ما تزال محفوظة في متحف لننغراد ضُربت في عهد المقتدر، ولعلّها جاءت منذ زيادة ابن فضلان وبعثته إلى البلغار، وذكر الرجل خلال في تضاعيف هذا الكتاب ما قاله الجغرافيون والمؤرخون العرب عن هذه الأصقاع، وبحث عن البلدان الروسية مثل «كويابه» وهي «كييف» وغيرها.

وتتابعت دراسات المستشرقين الأوربيين وعلى رأسهم الروس والإسكندفايين لهذه الرسالة، لكن في سنة 1924م أصدر المستشرق الألماني ماركورات دراسة عن الرحّالة ابن فضلان في مدينة ليبتسك الألمانية، وفي تلك السنة وقع الحدث الأهم؛ إذ تسلّم المعهد الآسيوي للاستشراق في بطرسبورغ ورقتين مصورتين من النسخة الخطية التي اكُتُشفت في مدينة مشهد «طوس» من إيران، ووصلت بقية الأوراق مصورة بعد عشر سنوات إلى هذا المعهد، فتغيّر سير الدراسات عن الرحلة بعد الحصول على النسخة، وكانت جل الدراسات الاستشراقية قبل ذلك تعتمد كما ذكرنا على ما نقلته المصادر المتأخرة من رسالة ابن فضلان التي ظلت مفقودة حتى سنة 1924م.

ومنذ ظهور المخطوطة عكف على مراجعتها وتحقيقها ونشرها عدد من المتخصصين، فأول من نشرها بالعربية الدكتور أحمد زكي وليدي طوغان فأكمل ما فيها وقابلها على ياقوت وغيره، وطبعها سنة 1939م، وفي السنة نفسها صدرت دراسة بالروسية برعاية المستشرق الكبير اللامع كراتشكوفسكي في مدينة موسكو، وقد جاءت مقدمتها الروسية في دراسة الرحلة وصاحبها على إحدى وخمسين صفحة، ثم تلتها إلى الروسية في مائة وعشرين صفحة، في ملاحظات قيّمة ثمينة جداً، وهذه الدراسة التي قام بها كراتشكوفسكي تعد من أهم وأفضل الدراسات والنشرات لرحلة ابن فضلان، وتعليقاته أفضل وأصح التعليقات وأقربها إلى فهم النص، وخاصّة فيما يُلم بالبلغار وروسية [8].

على أن نشرة الدكتور سامي الدهان التي صدرت عن المجمع العلمي في دمشق سنة 1959م كانت بإيعاز وتحفيز علامة الشام الدكتور محمد كرد علي الذي نصح الدكتور الدهان بإعادة تحقيق هذه الرحلة، فأعاد نشرها بصورة أفضل كثيرا مما قام به الدكتور الوليدي.

وبعدُ، فقد وقفنا في هذه المقالات الثلاث مع رحلة ابن فضلان وبعثته الاستكشافية التي تذكرنا بالبعثات الاستكشافية الغربية لبلادنا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أما بعثة ابن فضلان فكانت خدمة للدين والخلافة العباسية، بنشر الإسلام بين أولئك القوم، وقد تمكن ابن فضلان بوصفه الدقيق للعادات والتقاليد والجغرافيا أن يُضيء جزءًا مهماً من تاريخ الأتراك والروس والبلغار والخزر في القرن العاشر الميلادي قبل ألف عام، وإننا نأسف لأن جزءًا مهمًا من الرسالة أو الرحلة لا يزال مفقودًا، فلا نعرف كيف كانت طريق رجوعه، وما الصعاب التي لاقها، وما هي المدة التي قضاها في بلاد الصقالبة، ومع ذلك تظل رسالته من أفضل وأقوى ما كُتب في معرفة عادات وتقاليد وتاريخ تلك الأقطار آنئذ، وحسب هذه الرحلة أهمية، هذه الدراسات التي لا تنقطع عنها منذ القرن الثامن عشر وإلى الآن في كل من أوربا والولايات المتحدة فضلاً عن العالم العربي والإسلامي.


[1] زكي محمد حسن: الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ص31.[2] رحلة ابن فضلان ص156.[3] رحلة ابن فضلان ص123.[4] رحلة ابن فضلان ص135.[5] رحلة ابن فضلان ص169.[6] يُقال إنها كانت بالقرب من سراي التي اتخذها مغول القفجاق أو مغول القبيلة الذهبية عاصمة لهم شمال بحر قزوين.[7] رحلة ابن فضلان ص172 وهذه الجملة آخر ما وصلنا من رحلته.[8] مقدمة الدهان لرحلة ابن فضلان ص44 – 50.