في عيد ميلاده الأربعين، بدلاً من أن يحتفل الإمام أبو محمد بن حزم بهذه المناسبة، هنأه المعتضد بن عباد أمير إشبيلية على طريقته، وبعث له جنوده يقتحمون داره ينفذون بحقه الحكم بهدم منزله، ومصادرة أمواله وإحراق كتبه، وهو ما تم أمام عينيه الملتاعتين وزاد من المآسي التي كرّت على رأسه بلا هوادة منذ أن بدأ مُلك عائلته في التداعي؛ توفي والده ثم أخاه ثم زوجته، وأصابه مرض بطحاله أورثه آلامًا جمّة غيّرت من طباعه الأليفة وجعلته أكثر حِدة حتى قيل بحقه: «سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان».

وأخيرًا، اكتمل عقد الهم بنجاح أعدائه في تأليب الحاكم عليه واتخاذ قرارات عقابية بحقه، ربما كان أشنعها على نفسية ابن حزم كومة الكتب الضخمة التي أفنى عمره وعصَر عقله في كتابتها ورأها تحترق أمام عينه، فأنشد متألمًا:

وإن تحرقوا القرطاس، لا تحرقوا الذي .. تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلّـت ركائبـي .. وينـزلُ إن أنزلْ ويدفن في قبـري

أموي في عصر ملوك الطوائف

هو أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد القرطبي الأندلسي الظاهري، الإمام الفقيه، والأديب الشاعر، والعالم الفيلسوف، سليل الأسرة الأقدم إسلامًا في تاريخ الأندلس، التحق أجداده بخدمة آل أمية مبكرًا، فجده الأقصى هو يزيد، كان مولى ليزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي، أما أول من دخل الأندلس من أسرته فهو «خلف»، وكان بصحبة جيش الأمير عبدالرحمن الداخل[1].

شبَّ آل حزم على طاعة وخدمة بني أمية، وعاشوا في كنفهم ببلاد الفرنجة، وظلوا على تماسٍ معهم جعل من أحفاد «خلف» من أكابر الأندلس، وباتوا أهل قُربى وصلة،سكنوا القصور وتولوا أكبر مناصب الوزارة والقضاء.

في أواخر العصر الذهبي، وُلد أبو محمد في قرطبة 30 رمضان 384هـ، حيث كانت البلاد تستعد للسقوط في تشرذمات حقبة ملوك الطوائف (399 – 478هـ)، عاش شطرًا كبيرًا من حياته في قصر أبيه الوزير المقرّب عند الخليفة المنصور بن أبي عامر، ثم ابنه المظفر وأخيه من بعده، ونشأ في بحبوحة من العيش، أمّنت له يُسر تلقي العلم فحفظ القرآن في دار أبيه، وتلقى مختلف الدروس في مكتبته بالغة النفاسة، وكان له شيوخ تأثر بهم كل التأثر في التفسير والحديث والفقه المالكي والأصول وغيرها، كما كان مريدًا لمجالس العلم التي كان والده يستضيفها ويحضرها العلماء والشعراء.

بزغت شخصيته تتألق عالمًا ناشئًا يُبشر بموسوعية ومستقبل زاهر، فشبّ وله باع طويل في الشعر واللغة والبلاغة والأدب بفضل التنشئة الناعمة والرعاية المرهفة اللتين تلقاهما في صغره[2]، حتى قال لها لباجي أحد فقهاء الأندلس، يومًا: «إنك نلت العلم وأنتَ تسهر بمشكاة من الذهب، وأنا أسهر بقنديل بائتًا بالسوق».

تقلد أبوه الوزارة في أضعف فترات حُكم الأمويين، ولهذا لم يدم حكمه طويلاً، بعد ما أُبعد والده عن منصبه في عهد المهدي، وبعد اغتيال الأخير امتُحن بالاعتقال والسجن والتغريب ومصادرة الأموال، حتى مات وهو في هذه الشدة سنة 402هـ، وفي العام الذي يليه توفيت زوجة ابن حزم التي قال عنها: «كانت أمنية المتمني، وغاية الحسن خُلقًا وخلقًا، وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا الود، ففجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار»[3].

قرر ابن حزم أن ينصرف عن أمور السياسة بالكلية إلى العلم، ليعوضه عن ضياع منصب الوزارة، فأخذ يدرس الحديث والفقه حتى وصل فيهما إلى القمة، واعتقد أن الطريق الصحيح للفتوى يجب أن يكون عبر أخذ الأحكام من النصوص مباشرة، من غير بحث عن علة لها ولا تعرّف لغاياتها، فاختار المذهب الظاهري، وكان إمامه الثاني بعد إمامه الأول داوود الظاهري الأصفهاني، وقد تشدد فيه واشتُهر على يديه أكثر من صاحبه.

ظاهري أكثر من الظاهري

إن دين الله ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مشاحة فيه. واعلموا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر أو الأسود.
ابن حزم

يعتبر المذهب الظاهري أن التمسك بظاهر الكتاب والسنة يكفي لبيان الأحكام، ومن هنا أنكر ابن حزم كثيرًا من القواعد الفقهية التي ألزم بها سابقوه أنفسهم، فرفض الاعتداد بحجية القياس والتقليد، أما الإجماع الوحيد الذي اعتبره مُلزمًا لفقهه فهو إجماع الصحابة قبل تفرقهم من المدينة،أما إجماع الأمة لم يتصور حدوثه إلا في الضروريات الدينية التي سيلتزم بها كل مسلم بطبيعة الحال، وفي ذلك دعوة للاجتهاد من أوسع الأبواب دون تقليد أو اقتداء.

ورأى أنه لا يجب اتباع أحدٍ، حتى ولو كان صحابيًا، وهو ما انسحب بطبيعة الحال على من هم أدنى من الصحابة، فلم يقدِّس آراء أي شيخ، فرأى أنه ليس هناك أستاذ راسخ يُؤخذ عنه ويُلتزم بتفسيره دون تفنيد ونقدٍ لآرائه، ولو كان هو مؤسس المنهج الظاهري نفسه، الذي قال بحقه: «داوود شيخ من شيوخي، إن أصاب الحق فنحن معه اتباعًا للحق، وإن أخطأ اعتذرنا له واتبعنا الحق حيث فهمناه».

يقول الدكتور حسان محمد حسان في كتابه «ابن حزم الأندلسي: عصره وفكره»، إن الظاهرية كانت بلا شك في غاية الجرأة عندما حاولت الخروج من قواعد المذهبية، وأعطت لكل مسلم حق الاجتهاد مع حرية رفض التقليد والقياس، مؤكدًا أن «ظاهرية ابن حزم» امتدت من الفقه وأصوله إلى سائر جوانب فكره وفنه وعلمه وأدبه.

عارض ابن قرطبة كافة العلوم «الباطنية» التي يزعم أصحابها أنهم تلقوها عبر باب خلفي أو عبر إمام معصوم، معتبرًا كل ذلك لا دليل ولا صحة عليه، كما رفض مبدأ الجبر، إلا أنه في المقابل لم يعتبر الإنسان مخيرًا بشكل مُطلق، لأنه رأى أن الفعل البشري لا يكون نتيجة الاستطاعة وحدها، بل لابد من زوال موانع الله، فـ«القوة التي ترد من الله، تعالى، فيفعل بها الخير تُسمى بالإجماع توفيقًا وعصمة وتأييدًا، والقوة التي ترد من الله، سبحانه وتعالى، على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عزمًا أو قوة أو حولًا، لهذا يُقال لا حول ولا قوة إلا بالله»[4]، وبهذا فهو لم ينكر حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، وفي الوقت نفسه لم ينكر توفيق الله ومساعدته لعباده، لتتعانق حرية الإنسان مع مشيئة الله، ويتجسد السلوك معبرًا عن مسؤولية الفرد واختياره دون جبر مطلق أو حرية مطلقة.

أباح للعبد حق الملكية والزواج بـ 4 نساء، والتسري بمن شاء من الجواري، وأجاز للعبد امتلاك عبيد وإماء، كما أقرّ له على سيده حقه في الكسوة، وعدم التكليف بما لا يطيق، وعدم تسميته بألقاب تؤذي مشاعره، ويجوز له أن يتولى القضاء والإمامة في المسجد، وحُكمه في الكفالة والشهادة كالحر سواء.

كما أفتى بإمكانية أن تتولى المرأة الوظائف العامة إذا كانت صالحة قادرة مؤهلة لذلك، وفسّر حديث «لعن الله قومًا ولوا أمرهم امرأة» على أنه ينصب فحسب على الخلافة، أما فيما عدا ذلك المنصب، فمن حقها أن تولى القضاء والإفتاء، ليس هذا وحسب، بل رئاسة الرجال والتدريس لهم، لذا في عام 1910 عندما حاول أحد الكتاب المؤيدين لقاسم أمين (علي أفندي الحطاب) أن يدعم آراءه التحررية بحق المرأة، لم يجد خيرًا من ابن حزم ليستشهد باجتهاداته الفقهية في هذا الصدد ويقرنهما معًا، قائلاً[5]:

كلمات ابن حزم – على مكانه – متينة من الحزم، وقاسم أمين ليس بأقل منه، وحبذا لو جمعتهما في كتاب واحد، فوقع ذلك عندي موقع الاستحسان.

فقيه الفتنة

الدافع الأساسي للسلوك طرد الهم، والمحرك الأساسي للاقتصاد الطمع.
ابن حزم

كان ابن حزم «إنسانًا اجتماعيًا» يدعو إلى التغيير بكل الطرق الممكنة، ولم يكن بالفيلسوف الذي يرصد الواقع ويستسلم له، ويجعله المعيار الثابت الذي تستمد منه المعايير، بل كان يرفض هذه الواقعية، ويعمل على أن يحكم الواقع بالقيم، لا أن يحكم القيم بالواقع[6].

لذا لم يكن بالفقيه الذي ينعزل عن قضايا عصره، وينشغل بقشريات الدين عن حوائج الناس الفعلية، فتبنى وجهات نظر اجتماعية واقتصادية أقرب إلى الروح الاشتراكية[7]، انحاز فيها إلى الفقراء وهو ابن القصور، وأنصف المرأة والعبد وغيرهما، وهو في ذلك ابن عصر طوائف تقاتل فيه الملوك على الحكم، فاتخذ منهم أجمعين موقفًا معارضًا بلسانه وفقهه في قضايا شتى.

رأى أن ملوك الطوائف تحولوا من حكام راشدين إلى أصحاب إقطاعيات عمهم الثراء الكبير، دون مبالاة بأوضاع الرعية أو بأنواع الظلم التي تحيق بهم من كثرة الضرائب، علاوة على قيامهم في بعض الأحيان باغتصاب أراضي الفلاحين البسطاء، فحرّم تأجير الأرض الزراعية، واكتفى فقط بنظام المزارعة أو المشاركة، أو يتولاها صاحب الأرض بنفسه دون إيجار، كما أنه ومن منطلق اعتباره أن «الطمع» هو الدافع الرئيسي للتكالب على احتكار احتياجات الناس، منع بيع الماء باعتباره مصدرًا للحياة، بأي وجه من الوجوه، لا في ساقية أو نهر، ولا في عين أو بئر، ولا في صهريج أو قربة.

كانت فتاواه السياسية بدورها ابنة عصره، فلأنه اعتبر أن ملوك الطوائف خونة، تجب الثورة عليهم لأنهم ساعون في الأرض بالفساد، أحلَّ الخروج على الحاكم الظالم ولو بـ «العنف الدموي»، معتبرًا أن الحكام الزائغين عن كتاب الله وسنة رسوله «قتلهم واجب»، كما أفتى بأن العهود مع المشاركين لا تصح إلا إذا وافقت تعاليم الإسلام، نقدًا منه للأسلوب الذي جرى وقتها بين الزعماء وبعضهم بعقد تحالفات مع ملوك النصارى حمايةً لعروشهم على حساب بعضهم البعض، كما أنه وضع ضمن شروط الإمامة العامة أنها لا تجوز إلا لواحد في العالم كله، وإذا بُويع خليفتان في الدنيا وجب قتل الثاني منهما، وهنا نلمح تأثره بالأوضاع السياسية المتناحرة في أندلسه، التي جعلته يفضل الوحدة على الفوضى.

اعتبر أن الدولة مُلزمة بأن توفر لمواطنيها الحد الأدنى من المستوى المعيشي الكريم للإنسان، ولو استقطعت من ثروات الأغنياء عنوة أزيد من نسب الزكاة والضرائب،يقول:

فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين به، فيقام لهم بما يأكلون به القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك.[8]

وهو ما يتماشى مع فتواه الفريدة بأنه لا يحل لمسلم أن يضطر لأكل الميتة أو لحم الخنزير وهو يجد طعامًا عند آخر سواء لمسلم أو ذمي، لأنه فرض على صاحب الطعام إطعام الجائع، وله أن يقاتل على ذلك فإن قُتل فعلى قاتله القوْد (القصاص)، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله لأنه طائفة باغية.

آمن الرجل بأن كافة علوم الدين والدنيا يجب أن تُدرَّس وتتكامل في نفس المسلم، أما الذي يُغلق الباب على الثقافات الأخرى، فهو بمنزلة من ليس في يده من الطعام إلا الملح، ويظن أنه ليس هناك أفضل منه، لذا اشترط ألا تتوقف دراسة الفقيه عند علوم الشريعة فقط، وإنما يجب أن تمتد إلى دراسة الحساب والتشريح، والأفلاك والميتافيزيقا، كما نادى بأن يكون التعليم إجباريًا للجميع، ليس حتى مرحلة محو أمية القراءة والكتابة، بل إلى مرحلة أعلى من ذلك، والتي يجب أن تكون إلزامية تفرضها الدولة بقوة القانون، لا يستطيع أحد من الناس الإفلات منها: الأحرار والعبيد والإماء.

خلال 50 عامًا من التوهج الفكري، ألف ابن حزم كتبًا يزيد حجمها على 80 ألف صفحة، حينما حاول الأديب البحريني عبدالله الزايد إحصاء مؤلفاته في كتابه «ابن حزم أصوليا» احتاج إلى 13 صفحة ليذكر فقط عناوينها.

تراث ضخم كان كفيلاً بأن يضع صاحبه في مكانة لا يقربها أحد، إلا أن إصراره على الأموية وتمسكه بالظاهرية أورثاه سلسلة متلاحقة من الأزمات، فلقد كان موقفه السياسي متمسكًا بأهداب حلم قديم، فقد جذوره وأصوله، كما أن موقفه المذهبي مخالف لمالكية الأندلس، وهكذا عاند الملوك والأمراء ولاءً لبني أمية، وناظر الأشاعرة والفقهاء التزامًا بالظاهرية، ورد على اليهود والنصارى تمسكا بالإسلام، فلاحقته اللعنات من كل حدب وصوب بعد ما ابتُلي بمعارضة الكثرة ولم ينل تأييد القِلة، فتنقل بين قرطبة والمرية وميورقة ثم غادر الأندلس إلى القيروان بضع سنين حتى ضاق به فقهاؤها، فاضطر للعودة لبلاده من جديد، وهذه المرة لم يجد ملجأ إلا أصل أسرته، قرية «لَبْلَة» غرب الأندلس، التي سكن فيها جده ومنها خرج إلى قرطبة منذ مئات الأعوام، حيث أمضى بقية حياته في ذلك الركن الهادئ بضيعة صغيرة إلى أن تُوفي يوم 28 شعبان 456 هـ.

المراجع
  1. دكتور غالب خلايلي، ابن حزم الأندلسي، الحب فاق الحقد بعد ألف عام
  2. سامح كريم، موسوعة أعلام المجددين في الإسلام
  3. ابن حزم، طوق الحمامة في الألفة والألاف
  4. ابن حزم، طوق الحمامة في الألفة والألاف
  5. مقدمة الدكتور طاهر أحمد مكي في: ابن حزم، الأخلاق والسير في مداواة النفوس
  6. دكتور عبدالحليم عويس، ابن حزم الاندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري
  7. الشيخ محمد أبو زهرة،ابن حزم حياته وعصره
  8. ابن حزم، المحلى (6/156)