أثار مشهد من مسلسل «الاختيار» الذي يذاع في رمضان 2020 على الفضائيات المصرية، ويرصد حياة الضابط الشهيد أحمد المنسي، والضابط المنشق هشام عشماوي الذي تم إعدامه، مؤخراً، غضب بعض المتابعين، خاصة من السلفيين، حيث تعرّض المشهد لذكر مسألة التترس، أي أن يؤدي قتال العدو غير المسلم إلى قتل مسلمين، وقد استدل الإرهابي في المسلسل على جواز ذلك بأن ابن تيمية أفتى بذلك، وقال: «يبعثون على نياتهم»، أي أن المسلم الذي يسقط خطأ في الجهاد هو ضحية تبعث على نيتها الحسنة.

بداية، يحمل المشهد خطأ في التفاصيل، فمقولة «يبعثون على نياتهم» ليست من كلام ابن تيمية، وإنما هي جزء من حديث مروي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، يتحدث فيه عن جيش سوف يغزو الكعبة، وأن الله سيخسف الأرض بهذا الجيش، ولما سئل النبي عمن قد يكون ضمن هذا الجيش من المسلمين دون إرادة منه لذلك، قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم».

لم يخطئ صناع المسلسل في مجرد ذكر ابن تيمية على لسان الجهاديين، فهذا مما هو معروف بالفعل عن الجهاديين. ليست هذه هي المرة الأولى كذلك التي يظهر فيها ابن تيمية كمفتٍ للمتطرفين في دراما مصرية، فقد ورد ذكره في سياق قريب في مسلسل «المال والبنون»، وتحديدًا في الجزء الثاني.

لكن صناع المسلسل بما أنهم قد وضعوا أنفسهم في سياق تسجيل وقائع تاريخية قريبة، وبمنطق مواجهة مباشرة مع الجهاديين وأفكارهم، كان من المفيد ألا ترد تلك الإشارات بهذا الشكل العرضي وأن توضع في سياق نقاشات أكثر كشفاً.

ذلك أنه يجب أن نميز بين واقع أن السلفية الجهادية كثيرًا ما تستشهد بفتاوى ابن تيمية فعلاً، وبين صحة استدلال الجهاديين بفتاواه فقهيًا، فهل فتاوى ابن تيمية مسئولة فعلاً عن مذهب السلفية الجهادية، على الأقل في مسألة «التترس»؟

ابن تيمية الفقيه

أغلب ما شذّ فيه ابن تيمية «فقهيًا» كان في اتجاه التيسير لا التشديد، وهذا بخلاف مواقفه في العقائد والفلسفة، ولاجتهاداته في تلك القضايا مسار خاص يحتاج إلى مساحة خاصة لتحليله. وكمثال على شذوذ ابن تيمية الفقهي فتواه بأن الطلاق بالثلاث يقع طلقة واحدة، وليس ثلاث طلقات كما هو إجماع الفقهاء من قبله الذي نقله أكثر من واحد من الفقهاء. وتسببت تلك الفتوى في سجن ابن تيمية ستة أشهر بعد أن كان قد جاوز الستين.

كذلك مما شذ فيه ابن تيمية فتواه بأن الحُقَن بمختلف أشكالها والقطرة ونحوهما مما يدخل الجوف من غير المدخل الفموي لا يفطر، وهذا خلاف مذاهب الجمهور، ومذهب ابن تيمية في ذلك أيسر كما هو واضح.

وأغلب ما تنسبه السلفية الجهادية لابن تيمية في فقه الجهاد مسائل مطروحة في الفقه الإسلامي منذ ما قبل ابن تيمية، ولم يخالف ابن تيمية فيها مذهب الجمهور، ولا اختار المذهب الأكثر تشددًا في تلك المسائل بالضرورة، ومن ذلك مسألة التترس.

المقصود بالتترس هو اتخاذ العدو درعًا بشرية من المسلمين، أو من الذميين (غير المسلمين الذين في ذمة المسلمين) والمستأمنين والمعاهدين (غير المسلمين الذين بينهم وبين المسلمين عهد بعدم الحرب أو أعطاهم المسلمون أمانًا)، وكذلك من لا يجوز الاعتداء عليهم كالنساء والأطفال والشيوخ ممن لا قدرة لهم على القتال وكذلك الرهبان الذين يعتزلون القتال.

رأى جمهور الفقهاء أنه لا يجوز رمي العدو في حال تترسه، وخالف في ذلك الأحناف وبعض المالكية، لكنهم اتفقوا كذلك في المجمل على جواز رميهم حال الضرورة الكلية؛ والضرورة كأن يكون عدم رمي العدو في تلك الحالة يؤدي إلى تمكن العدو من المسلمين، والكلية معناها أن يكون الضرر سيعود على كل المسلمين أو أغلبهم، أما إذا كان الضرر عائداً على فصيلة مثلاً من جيش المسلمين فهنا لا يجوز لها رمي العدو المتترس بمسلمين أو من في حكمهم ولو كان ذلك يؤدي إلى استئصال الفصيلة، لأنهم لا يجوز لهم افتداء أنفسهم بغيرهم من المعصومين.

النقل الشهير عن ابن تيمية في ذلك الصدد هو كالتالي: «وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترس بمن عنده من أسرى المسلمين، وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم» (مجموع الفتاوى، 28/ 548).

وهذا القول لابن تيمية مسبوق كما قلنا ولم يختص به ابن تيمية، وهو أقرب هنا إلى الناقل منه إلى مقرر حكم جديد، بل نجد أقوالًا أشد عند الأحناف والمالكية كما سبق أن ذكرت كقول ابن همام الحنفي في شرحه لكلام الفقيه الحنفي المرغيناني: «قوله: (ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر) بل ولو تترسوا بأسارى المسلمين وصبيانهم سواء عُلم أنهم إن كفوا عن رميهم انهزم المسلمون أو لم يعلموا» (فتح القدير، 5/ 431). والكمال بن الهمام ومن يشرح كلامهم من فقهاء الحنفية كلهم ماتوا قبل أن يولد ابن تيمية، وكلامهم أشد من كلامه.

قصة مسألة التترس

بدأ نقاش التترس عقب أحداث 11 سبتمبر، حيث إن عمليات التفجير الضخمة تلك أثارت مشكلة وقوع كثير من الأبرياء كضحايا. وبحسب رواية «أبو حفص الموريتاني» الذي كان مفتيًا للقاعدة في أواخر التسعينيات، فإن مشروعية تلك الهجمة كانت محل نزاع داخل تنظيم القاعدة نفسه، وعارضها أبوحفص الموريتاني نفسه مع قيادات ذات وزن ثقيل، كسيف العدل، الضابط المصري الذي كان يتولى الأمن داخل التنظيم؛ لكن ابن لادن أصر على تنفيذها.

تم تبرير سقوط الضحايا الأبرياء في الهجمات الإرهابية اللاحقة بأنهم «ترس»؛ لكن التوسع الفعلي وقع لاحقًا مع بروز «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» بقيادة أبومصعب الزرقاوي. فهجمات تنظيم الزرقاوي التفجيرية على القوات الأمريكية في العراق كان من الصعب أن تتجنب سقوط ضحايا عراقيين، مما جعل الزرقاوي يلجأ إلى مسألة التترس معتمدًا على كتاب «فقه الدماء» (طبع باسم «مسائل في فقه الجهاد») لأستاذه «أبوعبدالله المهاجر» (شيخ مصري اسمه عبدالرحمن علي تعرف الزرقاوي عليه في أفغانستان أو باكستان).

وصل هذا الكتاب الذي يتوسع في عرض أساليب القتل المختلفة ومنها جز الرأس، وإثبات مشروعيتها، إلى العراق بعد معركة الفلوجة الثانية عام 2004. لم أطلع على الكتاب لأحكم إلى أي مدى كان طرح المهاجر مختلفًا أو موافقًا لما هو في كتب التراث الفقهي في تلك المسألة؛ إلا أن من الواضح أن حالة الهجمات التفجيرية في البلدان الإسلامية تختلف كثيراً عن حالة رمي حصون العدو الذي يتخذ من بعض المسلمين درعًا بشرية اختلافًا واضحًا، وأنه ما من ضرورة، بل ما من فائدة أصلاً، تجعل هدر دماء الضحايا في تلك العمليات مباحًا (هذا على سبيل الجدل مع الجهاديين، وإلا فنحن لا نعتقد بالتأكيد جواز قتل أي شخص سواء كان عسكريًا أو غير عسكري، مسلمًا أو غير مسلم، إلا في إطار المقاومة المشروعة شرعًا وقانونًا لجيوش الاحتلال).

لعب كتاب المهاجر الدور المركزي نفسه في تبرير ممارسات تنظيم الدولة (داعش) لاحقاً، وإن خبا الحديث عن التترس نسبيًا نظرًا إلى أن التنظيم صار أقرب إلى تكفير جموع المسلمين واستباحة دمائهم بحجج أخرى كثيرة.

لماذا يستدل الجهاديون بابن تيمية بالذات؟

السبب الأول، هو أن نشأة التيار الجهادي كما نعرفه اليوم تمت في مصر الخمسينيات والستينيات على يد مجموعة من السلفيين بالأساس، ويحكى أن الشخصية الجهادية الأولى التي نعرف عنها بعض المعلومات، وهي شخصية الشاب المصري نبيل البرعي، اتجه إلى الجهاد بعد اطلاعه بالصدفة على رسالة في الجهاد لابن تيمية في منتصف الخمسينيات، ثم كان أحد أبرز من نظموا المجموعات الجهادية الأولى هو إسماعيل طنطاوي، وهو شاب سلفي اعتقل في السبعينيات وناظر التكفيريين في السجن اعتمادًا على كتاب الإيمان لابن تيمية، ثم اختفى ذكره.

ومن المعروف أن المصريين لعبوا دورًا مبكرًا في نشر تراث ابن تيمية وترويجه، فنشر الشيخ الشامي المتمصّر محمد رشيد رضا مجموعة من رسائل ابن تيمية، كما أسهم الشيخ محمد حامد الفقي والشيخ الأزهري أحمد شاكر في ذلك.

بالفعل، خرجت المجموعة الأولى لتنظيم الجهاد من رحم دروس أنصار السنة المحمدية في الستينيات، وعلى رأسها أيمن الظواهري، ثم كان أهم منظري الجهاد، محمد عبدالسلام فرج (صاحب كتاب «الفريضة الغائبة») والدكتور فضل (الاسم الحركي لسيد إمام، منظر تنظيم الجهاد المصري، وهو المعروف حركيًا كذلك بالشيخ عبدالقادر عبدالعزيز، وهو صاحب كتابي «العمدة في إعداد العدة»، و«الجامع في طلب العلم الشريف»)، سلفيين.

ومن المفيد هنا التمييز نظريًا على الأقل بين التيار الجهادي العام الذي يمكن أن يضم مجموعات غير سلفية (قطبيين متطرفين مثلاً، وربما «الجماعة الإسلامية» المصرية في بعض مراحلها وأجنحتها)، وهؤلاء لا يحتاجون إلى شرعنة ممارساتهم من خلال تراث ابن تيمية بالضرورة، وبين السلفية الجهادية التي يحتل ابن تيمية لديها المكانة الرمزية الضخمة التي يحتلها لدى السلفيات العلمية والحركية الأخرى.

السياق الثاني، كان سياق المعركة في سورية بين الإخوان المسلمين وتنظيم الطليعة المنشق عنهم ونظام حافظ الأسد في سوريا السبعينيات والثمانينيات، حيث تحول الصراع السياسي على السلطة بين الطرفين إلى معركة طائفية بين السنة والعلويين، وهناك استدعى بعض الجذريين من تنظيم الطليعة فتوى ابن تيمية عن الفرقة النصيرية (العلويين) وجواز قتالهم، كما يظهر ذلك في الشهادة التي أخرجها المنظر الجهادي أبومصعب السوري (مصطفى عبدالقادر ست مريم، ويعرف حركيًا أيضًا بعمر عبدالحكيم، ويطلق عليه بعض الجهاديين: بروفيسور الجهاد) في كتاب من جزءين عن تجربة الطليعة في سوريا قبل 1982.

أما السياق الثالث لتبلور السلفية الجهادية، فكان المرحلة الأفغانية التي نشطت في الترويج للجهاد فيها السلفية السعودية، وتأثر كثير من الشباب الإسلامي بالسلفية السعودية في تلك المرحلة، وخرج بعدها منظرون سلفيون جهاديون بارزون من بينهم أبوقتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان) وأبومحمد المقدسي (عصام البرقاوي من الأردن) وأبوبصير الطرطوسي (عبدالمنعم مصطفى حليمة، من سوريا).

ويبدو أن الجناح الأكثر تسلفًا في التيار الجهادي كان أشد عنفًا وأقل سياسة من الجناح القادم إليه من الإخوان المسلمين، كما نلاحظ في التجربة الجزائرية والشهادة التي سجلها عنها أبومصعب السوري، القادم من تنظيم الطليعة الإخواني في سوريا، ناقدًا الدور السلبي الذي لعبه المنظر السلفي أبوقتادة الفلسطيني في تنظيراته للجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية التي صدرت أولاً في مقالات بعنوان جامع هو «بين منهجين» ثم صدرت مجموعة في كتاب في الأردن بعنوان «الجهاد والاجتهاد». كذلك، نجد ذلك النقد للتطرف السلفي في كتاب «أبومصعب السوري» الضخم الذي سماه «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، وظهر على الإنترنت قبيل القبض عليه في باكستان في منتصف العقد الأول من الألفية.

أخيراً، يجب أن نضيف أن بعض مواقف ابن تيمية التاريخية مثلت تراثًا مناسبًا للسلفية الجهادية، خاصة موقفه من الفرق الإسلامية غير السنية وتشدده في ضرورة مواجهتها، وإن كانت تلك المواجهة بالسلاح؛ لكن تلك المواقف لابن تيمية هي وليدة سياقات تاريخية وصراعات يجب فهمها لفهم مواقف ابن تيمية كذلك وتمييزها عن الموقف المعاصر، وهو ما نرجو أن نقوم به لاحقًا.