يظن الكثيرون أن تجارة المخدرات التي تنتمي بطبيعتها إلى عالم الظل، عملية تحدث على هامش الاقتصاد المعاصر، ولا تؤثر بشكل حقيقي على الاقتصاد الكلي في عالمنا الراهن، إلا أن هذا الاعتقاد هو اعتقاد خاطئ إلى حد كبير، حيث لعبت وتلعب تجارة المخدرات دورًا كبيرًا في النشاط الاقتصادي العالمي برمته.

في هذا التقرير المليء بالحقائق الصادمة والمفاجآت، سنحاول أن نكشف طبيعة الدور الخفي الذي تلعبه تجارة المخدرات في الاقتصاديات الحديثة، ومدى عمق دورها المؤثر والفاعل في مواجهة نقص السيولة إبان الأزمة المالية العالمية في عامي 2008/2009؟


كيف تتم عمليات غسل أموال المخدرات؟

خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، بلغت المبيعات السنوية للأنواع الرئيسية الثلاثة من المخدرات (الهيروين ، الكوكايين، الماريجوانا) ما يقدر بـ250 مليار دولار، بينما قدرت التجارة العالمية فيها في الفترة نفسها بحوالي 500 مليار دولار، وهو ما طرح سؤالًا بديهيًا على جميع المعنيين في عالم تجارة المخدرات وخارجه في ذلك الوقت، كيف يمكن أن يظل مبلغ من الأموال القذرة بهذا الحجم أن يظل خارج نطاق التعاملات الشرعية؟[1]

كانت الإجابة المباشرة على هذا السؤال هو إنشاء مجموعة من المؤسسات المصرفية الضخمة صممت بها خصيصًا أقسام للعمليات المالية لغرض إدارة الأموال الناتجة عن الأنشطة غير الشرعية كتجارة المخدرات.[2]

كانت الشبكة المصرفية البريطانية في هذا الإطار هي الشبكة المصرفية الوحيدة حتى ذلك الوقت التي يمكن أن تتعامل مع تلك المبالغ الهائلة الخارجة عن نطاق الشرعية، بفضل خبرتها في هذا الأمر التي تبلغ حوالي قرن ونصف من الزمان، وذلك بسبب حجب سجلاتها عن الحكومات المعنية بتلك النشاطات، ولتحكمها في التجارة الدولية للذهب والماس، التي يمكن أن تستخدم في إخفاء تدفق الأموال الناشئة عن النشاطات غير المشروعة.[3]

تتركز الحسابات البنكية الخارجية التابعة لبريطانيا في الجزر التابعة لها حول بحر الكاريبي، وفي جزر الباهما وكايمان، ويتم غسيل الأموال في تلك الحسابات وذلك بإدماجها في الحسابات البنكية للشركات التي لها رؤوس أموال كبيرة مثل شركات الملاهي وحلبات السباق والأندية الرياضية الكبرى وسلاسل المطاعم الشهيرة.[4]

بمجرد أن تتم التحويلات إلى البنوك الخارجية تختفي الأموال القذرة في متاهة إلكترونية من الأعمال الحسابات المصرفية المتشابكة والمعقدة، بحيث يستحيل متابعتها ورصدها حتى لو كان لسلطات التحقيق وسيلة قانونية لتعقب تلك الحسابات الخارجية.[5]

تمثل هونج كونج نقطة الاختفاء الرئيسية بنهاية المطاف لتلك الأموال، حيث يقبع للمفارقة مركز التحكم المصرفي التاريخي الذي أنشأه البريطانيون بعد حرب الأفيون الثانية، وهو بنك تجاري عالمي له فروع في مختلف أنحاء العالم الآن، وهو بنك «HSBC» المعروف.[6]

كان ذلك البنك خلال الحقبة الاستعمارية يتحكم في سوق الأفيون بشكل كامل، وكان أخطبوطًا ماليًا يمول مختلف عمليات الإنتاج والنقل والتوزيع للأفيون في آسيا، وكان في هذا السياق يستقبل الإيداعات الزائدة عن طاقة البنوك الصغيرة الكثيرة،بحيث عمل بمثابة بنك مركزي شبه رسمي لإمبراطورية التاج البريطاني في تلك البقعة من العالم.[7]
حرب الأفيون، بريطانيا
British troops at the Battle of Amoy, 1841

جدير بالذكر أن من العناصر المهمة في تمويل تجارة المخدرات، استخدام الذهب والماس في التغطية على مسارات تحويلات الأموال (من النقطة A إلى النقطة Z مثلًا)، حيث يمثل تحويل رصيد نقدي إلى ذهب أو ماس ثم تحويله مرة ثانية إلى رصيد نقدي أشبه بعبور نهر لتجنب تعقب الكلاب البوليسية المدربة.[8]

وقد كانت سوق الذهب في هونج كونج تسيطر عليها في ذلك الوقت شركة يمتلك بنك HSBC ما نسبته 51% منها، أما سوق الماس فقد كان يتحكم فيه بشكل كامل بنك الاتحاد الإسرائيلي المُمول من بنك ليومي أكبر مؤسسة إسرائيلية للتمويل، التي تقع بدورها تحت سيطرة بنك باركليز البريطاني.[9]

وقد صرح في هذا الإطار أحد الخبراء البريطانيين يدعى «تيموثي جرين» في خطاب له في أحد المؤتمرات الاقتصادية المنعقدة في لندن في أكتوبر عام 1972 بأن:

«لا مفر من أن نعترف أنه في عامي 1970 و1971 مر ما لا يقل عن 500 طن من الذهب (ما يمثل نصف إنتاج جنوب أفريقيا الكلي – المصدر الرئيسي للذهب في العالم- أو 40% من الإنتاج الكلي للذهب في العالم غير الشيوعي في تلك الفترة) من خلال قنوات غير رسمية وغير شرعية لأماكنها المستهدفة، تبدأ عادة من أسواق الذهب العالمية في سنغافورة وهونج كونج ودبي».[10]


كيف يعتمد الاقتصاد العالمي على أموال المخدرات غير المشروعة؟

وفقًا لبعض الاقتصاديين؛ تعد التجارة العالمية في المخدرات غير المشروعة جزءًا أساسيًا من النموذج الاقتصادي السائد عالميًا، والحرب المعلنة التي تقوم بها الحكومات على المخدرات هي وسيلة للحفاظ على التجارة وتنظيمها، بدلًا من استئصالها.[11]

في هذا السياق يجمع محققو الكونجرس الأمريكي والمصرفيون السابقون وخبراء البنوك الدوليون على أن البنوك الأوروبية و الأمريكية تغسل سنويًا ما بين 500 مليار دولار وألف مليار أي تريليون دولار من الأموال القذرة، نصفها يتم غسله في بنوك الولايات المتحدة بمفردها، علمً بأن هذا لا يشمل أموال الزعماء السياسيين الفاسدين، والأموال الناجمة عن الفساد في دول العالم الثالث.[12]

ونحن نتحدث هنا فقط على المبالغ التي تتدفق خلال عام واحد فقط، وهو ما يعني أننا نتحدث على مدار السنوات عن حسابات وودائع مالية تقدر بتريليونات الدولارات، ويعطينا هذا مؤشرًا واضحًا على أهمية ومكانة أموال المخدرات والأنشطة غير المشروعة للمصارف واقتصاد الولايات المتحدة، وفي الغرب بوجه عام الذي دخل بمثل تلك الأنشطة وغيرها في مرحلة أخرى من نمط التراكم الرأسمالي بعد نهاية الحقبة الكولونيالية.

جدير بالذكر أن تلك التدفقات تغطي جزءًا من عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة، والذي يصل إلى مئات البلايين سنويًا، فدون تلك الأموال لن يستطيع الاقتصاد الأمريكي تغطية ديونه الخارجيه، وهو ما سينعكس على مستوى المعيشة المواطن الأمريكي، وعلى مكانة الدولار كعملة، ويتقلص حجم الاستثمار المطروح ورأس المال المتوفر للقروض.[13]

مضخة للنفط جنوب ميدلاند بولاية تيكساس الأمريكية

لإعطاء فكرة عن حجم وأهمية هذه الأموال القذرة للاقتصاد الغربي في أوروبا والولايات المتحدة مقارنة بغيرها، يكفي أن نعلم أن هذه الأموال تتجاوز العوائد الصافية لكل شركات تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وتتجاوز كل التحويلات الصافية العائدة من منتجي البترول والصناعات العسكرية ومصانع الطائرات.[14]

تقدر إحصاءات صناعة غسيل الأموال بما يصل إلى حوالي 2.7% من إجمالي الناتج المحلي العالمي سنوياً (ما يقدر بنحو 1.6 تريليون دولار في عام 2009)، وقد لعبت في تلك الصناعة بعض البنوك الكبرى دورًا كبيرًا. وعلى رأس تلك البنوك التي قامت بجني أرباح طائلة من أموال المخدرات تم اكتشاف بنكين رئيسيين هما «HSBC» و«Wachovia»، اللذين أدارا حسابات لصالح «Sinaloa Cartel» المكسيكي، وقاما بغسل مئات المليارات فيما بينهما.

حيث قام بنك «واكوفيا» أكبر رابع مصرف في الولايات المتحدة، الذي يعمل فيه فيه حوالي 122 ألف موظف، بغسل ما يقرب من 420 مليار دولار أمريكي لصالح “سينالوا كارتل” بين عامي 2003 و2008، وفي عام 2010، وبعد تحقيق دام 22 شهرًا، عوقب المصرف بـغرامات ومصادرات بقيمة إجمالية 160 مليون دولار فقط، تمثل 2٪ فقط من أرباحه في ذلك العام.[15]

يذكر في هذا السياق أيضًا أن أعضاء ذلك الكارتل أودعوا مئات الآلاف من الدولارات كل يوم في فروع بنك HSBC البريطاني،وتم تغريم ذلك البنك بنهاية المطاف 1.9 مليار دولار لأنشطة غسل الأموال، ورغم أنها من بين أكبر الغرامات المصرفية في التاريخ، فإنها لا تمثل عمليًا سوى جزء صغير من أرباحه السنوية.

وقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز: «أن السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات اختارت عدم توجيه الاتهام إلى بنك HSBC، الذي يقع مقره في لندن ، بتهمة غسيل أموال واسعة وممتدة، خوفًا من تعرض النظام المالي بأكمله للخطر».

اللافت هنا في هذه الملاحقات الجنائية أنها كشفت لنا في الأخير عن تآمر وتواطؤ عميق بين البنوك الكبرى ومهربي المخدرات يمتد إلى عقود من الزمن، إن لم يكن قرونا، حيث تشير الكثير من الأدلة إلى أن نشاطات البنوك الكبرى في غسل الأرباح من المنظمات الإجرامية تعود إلى قرابة قرنين من الرأسمالية الغربية.

ويحتاج فهم العلاقة المعقدة بالكامل بين البنوك والحكومات وتجارة المخدرات إلى العودة لتاريخ الحقبة الاستعمارية الأوروبية، وتتبع مراحل تطور التاريخ العالمي لتلك التجارة التي كانت تحظى بدعم ورعاية حكومية رفيعة المستوى، تسبب في وقت من الأوقات في دخول الإمبراطورية البريطانية في حروب لضمان أمن وحرية تلك التجارة.


الدور الذي لعبته أموال المخدرات خلال الأزمة المالية العالمية في 2008

النفط، تيكساس، الولايات المتحدة الأمريكية
النفط، تيكساس، الولايات المتحدة الأمريكية

يقول رئيس مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أنطونيو ماريا كوستا في عام 2009، إن أموال الجريمة المنظمة كانت هي رأس المال الاستثماري السائل الوحيد الذي ساعد المصارف في تعويض نقص السيولة المالية في أعقاب انهيار الأسواق المالية خلال عام 2008. [16]

وقال، إن معظم الأرباح التي تحققت خلال العام التالي للأزمة وهي تقدر بحوالي 352 مليار دولار، كانت من أموال تجارة المخدرات التي تم استيعابها في النظام المصرفي بشكل شرعي.

مثل أي نشاط اقتصادي آخر، فقد تم عولمة الجريمة المنظمة، وكانت تجارة المخدرات أكثر القطاعات ربحية له، حيث تقدر منظمة (FATF) التابعة لمجموعة الدول الصناعية السبع الصناعية الكبرى (G7) في هذا السياق، أن الأموال الناتجة عن عمليات غسيل أموال تجارة المخدرات عبر العالم سنوياً، تقدر قيمتها بما يعادل المبلغ الكلي للأموال المستثمرة بشكل قانوني في اقتصاديات الأسواق الناشئة في العام الماضي. [17]
بابلو سكوبار
بابلو سكوبار

وتشكل تجارة المخدرات على سبيل المثال أنجح أعمال التصدير في أمريكا اللاتينية، وأكبر مصادرها للسيولة النقدية، ولإعطاء فكرة عن أهمية أموال المخدرات في كولومبيا مثلًا، فقد اقترح «كارتل ميديلين» الذي كان يتزعمه في السابق تاجر المخدرات الكولومبي الشهير «بابلو اسكوبار»، للمرة الثانية، سداد الديون الخارجية للبلاد مقابل إسباغ صفة الشرعية على أنشطته، وهي صفقة أوقفتها منذ سنوات الولايات المتحدة الأمريكية.

المراجع
  1. د.صلاح عبد الكريم، النظام العالمي الجديد، المجلد الثاني، سفير الدولية للنشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 2008، ص 586
  2. المصدر السابق
  3. المصدر السابق
  4. المصدر السابق
  5. المصدر السابق
  6. المصدر السابق
  7. المصدر السابق
  8. المصدر السابق
  9. المصدر السابق
  10. المصدر السابق
  11. ends on Illegal Drug Money: Part I: Free Markets, Financial Regulations & Money Laundering
  12. المصدر السابق
  13. المصدر السابق
  14. المصدر السابق
  15. المصدر السابق
  16. Drug money saved banks in global crisis, claims UN advisor ,Rajeev Syal, THE Guardian
  17. Diane Coyle, Drugs trade `the third largest economy, Independent