شاهدتُ معه في ظاهر [خارج] دمشق كثيرًا من النبات في مواضعه، وقرأتُ عليه أيضًا تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنتُ أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جدًا.
موفق الدين ابن أبي أصيبعة في وصفه لأستاذه ابن البيطار

لا تفتأ دراسات الحضارة الإسلامية، خاصّة الجانب العلمي منها، تأخذ بلبّ القارئ والباحث؛ ذلك أنها تفتح لك آفاقًا من التجارب الواسعة، وتضيء ومضات من عقول العلماء النابهين، وتوقفك على الجانب الإبداعي والعقلي من هذه الحضارة من خلال النظر إلى بصمات ونظريات وتجارب علمائنا الأكابر.

ومن هؤلاء المبدعين الكبار في العصر الإسلامي الوسيط، نجد العالم الأندلسي أبا محمد ضياء الدين عبد الله بن أحمد المشتهر بـ «ابن البيطار»، والمولود في مدينة مالقة في جنوب الأندلس في حدود سنة 593هـ/1197م.


ابن البيطار تلميذًا

تشرّب ابن البيطار علم النبات من أستاذه ابن الرومية الإشبيلي الذي درس الكثير من أصناف النباتات غير المعروفة، ووقف على كثير من غوامضها.

تتلمذ ابن البيطار على يد أستاذه عالم النبات الأندلسي الشهير ابن الرومية الإشبيلي (ت 637هـ) أحمد بن محمد بن مفرج الأموي، المعروف بالعشَّاب، والنباتي. وكان ابن الرومية قد مال إلى علم النبات ودراسته، وتمييزه، وتصنيفه، وتجوَّل من أجل ذلك في ربوع الأندلس، والمغرب وإفريقية، ثم رحل إلى المشرق، بعد سنة 580هـ، وتجول في مصر والشام والعراق والحجاز، فدرس الكثير من أصناف النباتات غير المعروفة، ووقف على كثير من غوامضها. قال ابن عبد الملك: «حتى وقف من ذلك على ما يقف عليه غيره، ممن تقدم في الملة الإسلامية، فصار واحد عصره فردًا، لا يجاريه فيه أحد بإجماع ذلك الشأن».

ووصفه ابن الخطيب بأنه «عجيبة نوع الإنسان في عصره، وما قبله، وما بعده في معرفة علم النبات، وتمييز العشب، وتحليلها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها بمشرق أو بمغرب، حسًّا، ومشاهدة وتحقيقًا، لا مدافع له في ذلك ولا منازع، حجة لا ترد ولا تدفع. قام على الصنعتين لوجود القدر المشترك بينهما وهما الحديث والنبات، إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان وغير ذلك».

وكان إلى ذلك ورعًا، زاهدًا، وكان بعد أن عاد من رحلاته الدراسية بالمشرق قد استقر ببلده إشبيلية، وافتتح متجرًا لبيع الأعشاب الطبية. قال ابن الأبار: «وهناك رأيته ولقيته غير مرة»[1].


ابتعاث إلى بلاد الإغريق والرومان

عمل ابن البيطار بنصيحة شيخه، وانتقل إلى بلاد الإغريق ثم إلى أقاصي بلاد الروم، يتعلم من علمائها الأصول التي وضعها اليونان في الصيدلة.

لذا، انتقل ابن البيطار حينما بلغ العشرين من عمره إلى مدينة إشبيلية ليتلقى علوم النبات على شيخ العارفين بها ابن الرومية، ومعه تعلم أصول البحث ومناهجه في علم النبات، وطرائق وصفها، وأماكن وجودها، وما تختصّ به نباتات المناطق الحارة عن غيرها، وفوائدها العلاجية، وآليات تكوين الأدوية منها، والفرق بين الأدوية المفردة التي تتكون من نبات واحد، وبين الأدوية المركبة التي تكون خليطًا لأنواع نباتية عدّة.

ولم يكتف ابن البيطار بالتلمذة على شيخه ابن الرومية الإشبيلي، وهو الذي جال معه في ربوع الأندلس لاستكشاف أنواع النباتات بها، وفوائدها، وإنما نصحه شيخه بالرحلة في طلب العلم. وكانت أولى جولات ابن البيطار خارج الأندلس إلى بلاد المغرب، وهناك التقى بالعالم أبي الحجاج الذي صحبه قليلاً ثم نصحه أبو الحجاج بالسفر إلى بلاد الإغريق وأقاصي الروم؛ فمنشأ علوم النبات بها، وبالفعل أخذ ابن البيطار نصيحة شيخه المغربي على محمل الجد، وانتقل إلى بلاد الإغريق ثم إلى أقاصي بلاد الروم، ومكث فيها زمنًا يتعلم من علمائها الأصول التي وضعها اليونان الأقدمون في هذا المضمار.

يقول تلميذه النجيب ابن أبي أصيبعة الدمشقي: «سافر [ابن البيطار] إلى بلاد الأغارقة وأقسى بلاد الرّوم، ولقي جماعة يُعانون هذا الفنّ، وأخذ عنهم معرفة نبات كثير، وعاينه في مواضعه، واجتمع أيضًا في المغرب وغيره بكثير من الفضلاء في علم النَّبات، وعاين منابته وتحقّقَ ماهيته، وأتقنَ دراية كتاب ديقوريدس إتقانًا بلغ فيه إلى أن لا يكاد يوجد من يجاريه فيما هو فيه»[2].


صيدلي العصور الوسطى الأعظم

عاد ابن البيطار من بلاد الروم بحرًا إلى الإسكندرية في مصر، وهو محمّل بخبرة طويلة ثقيلة، ونبوغ مبكر. لقد أفاد ابن البيطار من شيخه ابن الرومية الإشبيلي أولاً حسّه التوصيفي والتجريبي، كما أفاد منه حسّه النقدي حين كان يراجع الدراسات السابقة عليه في علم النبات، بل وقدرته على شرح الغوامض، والتوسّع فيما كتبه كبار علماء النبات في العالم البيزنطي واليوناني مثل ديسقوريدس.

ورجل بمثل هذه المكانة، سبقته شهرته إلى الآفاق، كان من الطبيعي أن يلتقفه السلطان الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، سلطان الأيوبيين الشهير، ويقرّبه من بلاطه، ويجعله من حاشيته، ويموّل مشاريعه البحثية في مصر وبلاد الشام.

والحق أن السلطان الأيوبي الكامل كان من أشهر ملوك عصره عناية بالعلم والعلماء، وقد وفد عليه جلّة من هؤلاء في بلاطه بقلعة الجبل في القاهرة، فكان يكرمهم، ويخصص لهم المرتبات المالية الجزيلة، بل كان «يبيتُ عنده جماعة من الفضلاء (العلماء) يأنسُ بهم … وكانت تُنصب لهم تخوت (أسرِّة) إلى جانب تختِه ينامون عليها، ويُسامرونه، ويجارونه في العلوم والآداب»[3]، وذلك كما يذكر ابن واصل الحموي المؤرخ للعصر الأيوبي.

انتقل ابن البيطار في أثناء بحثه عن الأنواع الجديدة من النباتات إلى الشام، وهنالك التقاه تلميذه النجيب، والطبيب العربي الشهير موفق الدين ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1267م)، صاحب التصانيف الكثيرة، وأشهرها «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، ويحدد ابن أبي أصيبعة تاريخ ذلك اللقاء في سنة 633هـ/1232م.

لقد رآه ابن أبي أصيبعة علاّمة في النبات لا يشق له غبار، فقرر التلمذة على يديه، وخرج معه في رحلات علمية لتفقد أنواع النباتات في مواضعها في بلاد الشام كتطبيق عملي لتعلم هذا العلم التجريبي، ووقف معه على كيفية استخراج الأدوية منها، قال: «شاهدت معه في ظاهر (خارج) دمشق كثيرًا من النَّبات في مواضعه، وقرأت عليه أيضًا تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جدًا».

ويصف لنا هذا التلميذ منهجية أستاذه في تدريس علم النبات بصورة نظرية في قاعة الدرس والمحاضرة بقوله: «وكنت أحضر لدينا عدَّة من الكتب المؤلّفة في الأدوية المفردة مثل كتاب ديسقوريدس وجالينوس والغافقي وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفنّ، فكان يذكر أولاً ما قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم، ثم يذكر مجمل ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله، ويذكر أيضًا ما قاله جالينوس فيه من نعته ومزاجه وأفعاله وما يتعلق بذلك، ويذكر أيضًا جملاً من أقوال المتأخِّرين، وما اختلفوا فيه، ومواضع الغلط والاشتباه الَّذي وقع لبعضهم في نعته، فكنت أراجع تلك الكتب معه، ولا أجده يغادر شيئًا مما فيها».

أي أن ضياء الدين ابن البيطار كان يتحدث اللغة اللاتينية التي كتب بها كل من ديسقوريدس وجالينوس في علوم النبات، ثم كان يشرح لطلبته ما ذكر في هذه الأمهات، ولا يتوقف عند ذلك بل يصحح ما وقعوا فيه من أخطاء، وما اختلفوا فيه من توصيفات وشروح، وبلغ من دقة ابن البيطار أنه «كان ما يذكر دواء إلَّا ويعين في أي مقالة هو من كتاب ديسقوريدس وجالينوس وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة»[4].

ونجد في مقدمة كتابه «الجامع لمفردات الأدوية» أنه ألّفه استجابة لطلب السلطان الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الكامل الأيوبي، وفي هذا الكتاب الكبير والمرجعي تمكن ابن البيطار من جمع «كل ما عرفه المسلمون في علم النبات في موسوعة عظيمة غزيرة المادة ظلت هي المرجع المعترف به في هذا العالم حتى القرن السادس عشر، ورفعته إلى مقام أعظم علماء النبات والصيادلة في العصور الوسطى»[5].


وفاةٌ على ذمة الإبداع

كان ابن البيطار يتحدث اللاتينية، ويشرح لطلبته ما ذكر في هذه الأمهات، ويصحح ما وقعوا فيه من أخطاء، وما اختلفوا فيه من توصيفات وشروح.
اعتمد ابن البيطار في مؤلفاته على 150 عالمًا تقريبًا، وعرّف من العقاقير 1500، منها 400 غير معروفة عند الإغريق أدخلها العرب فيما بعد على دستور الصيدلة.

لقد قام ابن البيطار في كتاب «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»، ومن خلال 1500 فقرة، بعرض مجمل المعارف عن علم العقاقير في عصره، مستندًا إلى ديوسقوريدس وجالينوس، وكتاب «النباتات الطبية» للغافقي، ودراسات مفقودة حتى يومنا هذا لأستاذه أبي العباس النباتي الملقب بابن الرومية، والعديد من مؤلفات علم النبات والزراعة. أما عدد المؤلفين الذين ذكرهم واعتمد عليهم فهو 150 تقريبًا، والعقاقير التي عرفها 1500، منها 400 غير معروفة عند الإغريق أدخلها العرب فيما بعد على دستور الصيدلة [6].

ظل ابن البيطار عاكفًا حتى نهاية عمره على دراسة تطورات علم النبات، وعلوم الصيدلة والعقاقير، غير أنه توفي فجأة في أثناء تلك التجارب في شهر شعبان من سنة 646هـ/1245م وهو في الثالثة والخمسين من عمره ودفن بمقابر دمشق، تاركًا خلفه تلاميذ نجباء في هذا المضمار، فضلاً عن عدد مهم من الكتب العلمية المتخصصة في علمي النبات والصيدلة نذكر منها «الإبانة والأعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام»، و«شرح أدوية كتاب ديسقوريدس»، و«المغني في الأدوية المفردة»، و«الجامع في الأدوية المفردة»، وهذا الكتاب كما يذكر تلميذه «ذكر الأدوية المفردة وأسمائها وتحريرها وقواها ومنافعها، وبين الصحيح منها وما وقع الاشتباه فيه، ولم يوجد في الأدوية المفردة كتاب أجلّ ولا أجود منه»[7].


[1] ترجمته في التكملة رقم 304، وفي الإحاطة لابن الخطيب (ط 1956) 1/215 – 221.[2] ابن أبي أُصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا، مكتبة الحياة، بيروت، ص601.[3] ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيّوب، الجزء الخامس، تحقيق حسنين محمد ربيع وسعيد عبد الفتاح عاشور، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 5/164.[4] ابن أبي أصيبعة: السابق ص601.[5] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود وآخرين، دار الجيل – بيروت، 1988م، 13/359.[6] توفيق فهد: علم النبات والزراعة، ضمن موسوعة تاريخ العلوم العربية، إشراف رشدي راشد، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية – بيروت، 2005م، 3/1044.[7] ابن أبي أُصيبعة: السابق.