ما هذا؟ أنت شاب مُهندم الزي وناجح في عملك… اللهم اكفنا الشر! وما هذا أيضًا؟ ترتدي ساعة في يدك… هل صرت إرهابيًا؟ «ليه كده يا ابني بس؟ لا حول ولا قوة إلا بالله».

ربما لو واجهت شابًا بهذه العبارات لظن أنك تسخر أو اعتقد أنك تريد أن «تلبّسه مصيبة»، وأي مصيبة! إنها الإرهاب.

هنا قد يواجهك هذا الشاب بأن الإرهابي هو شخص ذو لحية كثيفة، يرتدي جلبابًا قصيرًا وطاقية بيضاء، ويتحدث باللغة العربية الفصحى، وقد يتقمص الشاب شخصية عادل إمام في فيلم الإرهابي، أو ربما يغضب في وجهك وهو يتقمص شخصية أحمد عقل في فيلم الإرهاب والكباب حين قال بحدة للطفل الصغير: «ثَكَلَتْكَ أُمُك… خَسِئْت»، ويقلد ذلك وهو يضحك ويسخر من سخريتك.

لكن عليك أن تخبره بالحقيقة، فقد صار إرهابيًا حتى لو لم يكن إرهابيًا، فكل صفات الإرهابي الحديث تنطبق عليه؛ لأن الإرهابي «ممكن جدًا يكون شاب ناجح في عمله وابن طبقة اجتماعية جيدة»، وذلك بحسب وصف الكاتب إبراهيم عيسى لشخصية أحمد مالك في فيلمه (الضيف)، والتي تمثل الإرهابي الجديد، بعيدًا عن الشكل النمطي القديم للإرهابي،بحسب تصريحه.

هنا قد يفزع الشاب من كلامك، ويبدأ في التراجع، حينها قم بملاحقته واحتضانه، وبصوت الأب الحنون قل له: «لا تَخَف… أنا لن أسلّمك… أنا سأفهّمك».


الصورة النمطية

عام 1798 أطلق الفرنسي Firmin Didot لفظة (Stereotype) على الصفيحة المعدنية التي تُستخدم لتكرار طباعة السطور دون الحاجة إلى إعادتها، ثم في عام 1922 استخدم الصحافي الأمريكي والتر ليبمان هذه اللفظة ليعبر عن شعور الشخص تجاه حدث ما، اعتمادًا على تصوره الذهني أو اعتقاده الاجتماعي، وليس معرفته بالحدث.

بعدها تطورت اللفظة إلى مصطلح ذي معانٍ عدة، منها: «السمات الشائعة الثابتة التي تسري على شعب ما، وتأخذ شكل العقيدة العامة الجماعية، وتُصاغ على أساس متعصب وغير موضوعي»، أو أنها «اعتقاد مبالغ فيه يرتبط بفئة، وظيفته تبرير السلوك إزاء تلك الفئة»، أو أنهـا «رأي ثابت ذو طبيعة تقييمية وتعميمية، يشير إلى فئة من الناس».

ربما أن هذا السرد التاريخي أربكك، سأبسطه لك، انتبه جيدًا:

في حياتنا اليومية قد نلجأ إلى تشكيل وصف اجتماعي عام أو صورة نمطية؛ لوصف وتعريف مجموعة ما، وتفسير سلوكها، بناء على أحكام مسبقة مبالغ فيها أو واصمة، مبنية على تجارب خاصة نتعرض لها، أو تجارب عامة، كالتنشئة الاجتماعية في العائلة، والتعليم بالمدارس والمؤسسات الدينية، فتنتج صور نمطية على أساس ديني (المسلمون والمسيحيون واليهود) أو عرقي (السود والبيض)، أو جنسي (الرجال والنساء) أو سياسي (الفلول والثوار)، وهذا الأمر يؤثر على معتقداتنا التي تؤثر في اتجاهاتنا وسلوكنا وأحكامنا، وقد يُنتج سلوكًا عدائيًا أو كراهية.

لم تفهم؟ خذ مثالاً: «الإسلاموفوبيا»، وهي ظاهرة تصف السلوكيات المعادية للمسلمين نتيجة وجود معتقدات سابقة، وصورة نمطية معينة عنهم،وربما تعود تلك الصورة النمطية إلى حقبة العصور الصليبية، التي تنازعت فيها قوتان باسم الدين: العالم الإسلامي الشرقي والعالم المسيحي الغربي، بالرغم من أن السعي الرئيسي حينها لم يكن وراء تحقيق غلبة دينية بقدر ما كان قائمًا على أساس اقتصادي، وتوسيع الإمبراطوريات الحاكمة. وفي غضون هذه السنوات، نقل المستشرقون صورة نمطية عن المسلمين بأن رجالهم كثيرو الزواج، وحياتهم تتسم بالبذخ، كذلك عزّز السلوك المعادي للمسلمين الفتح الإسلامي للأندلس، ثم طرد المسلمين منها، بناءً على التمييز العنصري القائم على الصورة النمطية المتوارثة.


تماهي الصورة النمطية

ما سبق ليس هو الأزمة، إنما هو أصلها، أما الأزمة فهي أن التنميط يبدو في ظاهره فعلًا عفويًا أو غير تعسفيًا، إذ يظهر كطريقة لتبسيط نظرتنا للعالم، واختصاره إلى صور وأنماط للتعامل، إلا أنه يصبح مبررًا لتعصبنا الشخصي أو أداة في صراعنا السياسي؛ لقهر الخصوم، ووصمهم بصور نمطية سلبية، بهدف التنكيل بهم.

وتتسم الصورة النمطية بالتبسيط والتعميم، وقد تكون صورة غير مكتملة أو مشوهة، أو مبنية على شائعات وصور موجهة تنقلها وسائل الإعلام، لكنها تصير قوالب جامدة تقاوم التغيير حتى لو كانت خاطئة؛ وذلك بسبب شيوعها، كما تتسم بالتماهي، إذ يتسع مجالها ويتماهى أكثر فأكثر دون وصول إلى تحديد واضح.

جانب آخر مهم يؤدي إلى تماهي الصور النمطية، وهو اختلاط الدراسات والبحوث الأدبية والاجتماعية والسياسية والنفسية في هذا المجال؛ إذ تهتم كل دراسة بجانب من جوانب الصورة النمطية الذي يتوافق مع طرحها وحقلها الأكاديمي، فضلًا عن تداخل عدة عوامل تساهم في تكوينها وتطورها، منها عوامل تاريخية ونفسية وثقافية واجتماعية، إلى جانب الصراعات الدولية والمحلية، وتطور وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، والتي ساهمت في انتشار وشيوع وتشكيل الصور النمطية.


الفِراسة: «سيلفي» العرب القدماء

ربما ما ساعد على انتشار الصور النمطية في وطننا العربي، هو براعة أجدادنا العرب في تحليل الشخصية باستخدام الفِراسة أو ما يُعرف بعلم قراءة الوجوه، والذي كان من أهم العلوم والمعارف التي برع فيها العرب، إذ يبحث في أخلاق الناس ودواخل النفس البشرية، من خلال النظر إلى ظاهرهم، كلونهم وشكلهم ومظهرهم، والاستدلال بذلك على الأخلاق، وبالتالي يتم تحليل باطن الشخصية اعتمادًا على ظاهرها.

ولم تكن تلك الفِراسة عربية فقط، فقد ألّف الفلاسفة اليونانيون القدماء مجلدات في قراءة مكنونات النفس من خلال المظهر الخارجي للإنسان، كما أن الاهتمام بدراسة المظهر كان وما زال ركنًا رئيسًا في علوم ودراسات عدة؛ فقد تبين أن حجم ولون وشكل وجوهنا هي أشياء تكشف عن شخصياتنا، وصحتنا، وسلوكنا الجنسي، إذ يرى علماء النفس أن شكل الوجه يشير إلى ما نخفيه في أعماق نفوسنا، فتقاسيم الوجه تكشف تفاصيل الشخصية والصحة ومستوى الذكاء، وكما أن تركيبتنا الحيوية، مثل مستوى الجينات والهرمونات، تؤثر على نمونا، فإن شخصياتنا تتشكل وفق الآلية ذاتها.

وإذا اعتبرنا ذلك امتدادًا للفلسفة اليونانية والفِراسة العربية، فإن الأمر لم يقف عند ذلك، بل صار أوسع انتشارًا بعد رواج تحليل صور «السيلفي»، وكشف ما بها من أمور تشير إلى بعض ملامح شخصية ملتقطها.


الإرهابي «المودرن»

تلعب وسائل الإعلام دورًا مهمًا في تشكيل مواقف الأشخاص ومعارفهم وآرائهم وتصوراتهم،من خلال تدفق المعلومات والبيانات والأخبار التي تتطلب منا تبسيطها وتنميطها، بحيث تتلاءم مع فهمنا وتصوراتنا عن الآخرين ورؤيتنا للعالم.

وتستخدم وسائل الإعلام الصور النمطية في الإعلانات التجارية كأسلوب للإقناع، فهي تقدم المنتج متجاهلة الفروق الفردية والطبقية بين أفراد المجتمع، من خلال رسائل بسيطة؛ لكي يفهمها المتلقون بسهولة، فتخلق وتشكّل آراءهم، وتؤثر في رغباتهم واحتياجاتهم، ألم تتمنى –مثلًا- أن تسكن في مدينتيييييي بعد إعلان أصالة؟ أجب بنعم «وما تتكسفش».

وعلى مدار العقود الماضية صوّرت هوليوود العديد من القوميات والعرقيات كأشرار، وذلك لخدمة هدف سياسي أمريكي، أو لترسيخ مفاهيم وصور نمطية عنهم لدى المشاهد الأمريكي خاصة والعالمي عامة، حدث ذلك مع الألمان واليابانيين في الأفلام التي ترصد الحرب العالمية الثانية، ويحدث بانتظام مع الروس والصينيين، وكذلك العرب والمسلمين، فقد تم حصرهم في أدوار وصور نمطية ترسخ أنهم إرهابيون، وقتلة، ومتخلفون، وأصحاب مليارات، وراقصات.

وفي ظل احتياج «الأمريكان» إلى أشرار، فإن «داعش» مثّلت لهم مصدرًا خصبًا يضربون به عدة عصافير بحجر واحد؛ فهم عرب ومسلمون، وعدوانيون، ويضمون مزيجًا من الجنسيات والأعراق، ولا يمكن أن تعترض الحكومات الإسلامية على شيطنتهم في الأفلام، حتى لا يُتهموا بتأييدهم، وهو ما يدعو للأسى؛ لأن «الأمريكان» لا يصورون إرهاب «داعش» بل يلصقون التهمة بكل عربي مسلم؛ لترسيخ صورة نمطية تخدم مصالحهم وضغوطهم على الحكومات الإسلامية.

وتكمن المشكلة في أن الداعشي يمثل «تحديًا تجسيديًا»؛ لأن التنظيم يضم أعضاء من جنسيات وشعوب وثقافات مختلفة، فضلًا عن توسيع دائرة الإرهاب المعاصرة لتضم كل التنظيمات الدينية الإسلامية حتى المعتدل منها، وهو ما يجعل الأمر أصعب، في ظل أن هذه التنظيمات تضم شبابًا متطورين ومتحضرين ومتسلحين بالتقنيات الحديثة.

وهذا التعقيد الذي دفع إلى اعتماد صورة نمطية حديثة للإرهابي والمتطرف، فصارت الحكومات والدول ترسمه شخصًا «مودرن»، وتصفه بالمدنية والتحضر و«الشياكة» ومواكبة أحدث خطوط الموضة والتكنولوجيا، وذلك خلافًا للصورة التي تشكلت عبر سنوات عن طريق وسائل الإعلام والدراما، والتي عادة ما تكون نمطية محددة، مثيرة للسخرية والاستهزاء، تتكون من عناصر ثابتة لا تتغير، مثل الذقن والجلباب الأبيض القصير والتجهم، واستخدام العبارات والمفردات الدينية واللغوية غير المتداولة، والميل للنساء والشهوانية الساذجة أحيانًا، والسب بألفاظ جاهلية، مثل «خسئت» و«ثكلتك أمك»، وهذا بالطبع قبل أن نصل إلى الإرهابي «الكيوت»، (أحمد مالك) في فيلم الضيف.

من ناحية أخرى فإن ما ساعد على تقديم صورة جديدة للإرهابي هو أن هذه الصورة النمطية ترسم شخصية متخلفة غبية غير قادرة على التفكير، فتترسخ في ذهن الأغلبية بمرور الوقت، وهو ما يجعل دخول الإرهابي «المودرن» بين الناس سهلًا؛ لأنه ليس إرهابيًا وفق الصورة النمطية المشكلة في عقلهم الجمعي، فيصعب عليهم اكتشاف انحرافاته الفكرية أو تصرفاته العدائية، وربما ذلك هو ما ساعد على شيوع ظاهرة «الذئاب المنفردة»، كما سهّل وسائل التجنيد والاستقطاب، وأسهم في اختراق «داعش» لأوساط شريحة كبيرة من الشباب في دول عدة، فالتنظيم يمتلك أدوات دعائية حديثة تخاطب فكر الشباب، وتتحدث بلغته التقنية، وتبتعد كلية عن الصورة التقليدية الراسخة في وعيهم، حيث يحرص الإرهابي «المودرن» على الظهور بمظهر مغاير بل مبهر أحيانًا، باستخدام وسائل تصوير ومؤثرات فنية وتكنولوجية.

وإذا كان ذلك خطيرًا وسيئًا، فإن الأخطر والأسوأ هو أن الحكومات لم تلجأ إلى تغيير طريقتها في الاعتماد على الصورة النمطية، بل استمرت على ذلك، لكنها عدلت الصورة القديمة بصورة جديدة، فقامت بعمل «Update» للصورة لا لخططها وطرقها في مواجهتها، ووهو ما يجعلنا نقول إن تحول عادل إمام في (الإرهابي) إلى أحمد مالك في (الضيف) كان تحولًا شكليًا فقط، لكن لم يتغير ما يراه وما يُرى عليه.