لكاتب: بندكت أندرسون المترجم: ثائر ديب الناشر: قدمس للنشر والتوزيع سنة النشر: الطبعة الأولى (2009) عدد الصفحات: 269 من القطع المتوسط الطبعة الإنجليزية الأولى صدرت عام 1983، والثانية عام 1991

نظريات القومية

لقد شعر البشر بحاجة ماسة إلى تفسير تلك النزعة التي تدفعهم نحو تقسيم أنفسهم إلى جماعات متمايزة، بل ومتصارعة في كثير من الأحيان، وهو ما تبعه تبني المفكرين والفلاسفة مذاهب شتى [1]، فذهب أفلاطون وأرسطو لتقسيم البشر إلى يونانيين وبربر على أساس عرقي، وقسمهم رجال الدين إلى مؤمنين وكافرين، كل حسب اعتقاده. بينما ذهب المفكرون الماركسيون إلى التقسيم الطبقي، قبل أن يظهر مفهوم القومية الذي يعتمد في تصنيفه للأمم على تركيبة معقدة من اللغات والأعراق والمناطق الجغرافية. وبسبب تعقيد هذا المفهوم وحضوره الطاغي في نفس الوقت، فإن جدلا واسعا نشأ حوله.

ففي الوقت الذي اعتبرت فيه المدرسة الفرنسية – ومن أبرز دعاتها آرنست رينان – أن القومية تعتمد بالأساس على «مشيئة العيش المشترك»، ركزت المدرسة الألمانية على وحدة اللغة ووحدة الجنس كعناصر أساسية في تجذير الوعي القومي كما أكد بخته وبيتشه [2]. وفي حين يؤكد عبد الرحمن الرافعي أن القومية ظاهرة موغلة في القدم، معتبرا أن القومية المصرية مثلا ظهرت سنة 3200 قبل الميلاد [3]، ويقول سمير أمين أن الأساس التاريخي للقومية يتمثل في وجود الدولة المركزية وتمركز الفائض فيها [4]. يشير المؤرخ الألماني أندرياس أوزياندر في المقابل إلى أن «اعتبار الدولة إطارًا ضروريًّا للسياسة وأنها من عمر الحضارة نفسها، لا يصمد في وجه الدراسات المدقِّقة»[5].

وبدوره أطلق جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير على الصفات التي تجمع مجموعة من البشر في منطقة معينة مصطلح «العرق التاريخي». أما الفيلسوف الألماني كارل شميت فافترض في مقالة «اللاهوت السياسي» أن الدولة القومية تمثل عند البعض الغاية أو الدين أو حتى الإله، حيث يحل الدستور محل الكتاب المقدس، ويمثل الجندي المجهول معنى الشهادة، ويحل العلم محل الشعار الديني، والنشيد الوطني محل الأناشيد أو الترانيم، كما استبدلت أخوة الدين بالمواطنة، وحلت قراءة الصحيفة محل صلاة الصبح، والذهاب للعاصمة محل الحج.[6]


بندكت أندرسون والجماعات المتخيلة

يقول أندرسون: إنه مما يجعل الأمور أسهل أن نتعامل مع القومية على أنها شيء من قبيل القرابة أو الدين، وليس الليبرالية والفاشية.

ووسط هذا الجدل صدر كتاب «الجماعات المتخيلة.. تأملات في أصل القومية وانتشارها» للمفكر بندكت أندرسون [7] في العام 1983، ليلقي حجرا كبيرا في بركة الأفكار القومية، التي –وكما يقول أندرسون– لم تكن محظوظة بكتاب كبار كما هو حال الليبرالية مع هوبز ولوك، والاشتراكية التي كتب لها ماركس وإنجلز وروزا لوكسمبورج وغيرهم. وفي العام 1991 وبالتزامن مع التغيرات الكبيرة التي صاحبت انهيار الاتحاد السوفيتي، صدرت الطبعة الثانية من الكتاب الذي تُرجم لاحقا إلى أكثر من 80 لغة وتحول إلى مرجع أكاديمي مرموق في الكثير من جامعات العالم، وهو كتاب يقول عنه بندكت -الذي عادة ما يظهر قدرا من التواضع المشوب بالثقة-: «إنه أكثر ليبرالية من أن يكون ماركسيا، وأكثر ماركسية من أن يكون ليبراليا».

وقد جاء الكتاب ليسد ثغرة في فهم مسألة القومية، بعد أن خرج بها من التفسيرات المحلية ضيقة الأفق، وبعد أن رفض اعتبارها إثنية محدثة كما يقول أنطوني سميث، أو مجرد أيدلوجية برجوازية كما يرى الكثير من المنظرين الماركسيين، كما أنه لا ينظر إليها باعتبارها ظاهرة ناتجة عن المجتمع الصناعي بحسب رؤية ارنست غلنر. ولكن يقول أندرسون: إنه مما يجعل الأمور أسهل أن نتعامل مع القومية على أنها شيء من قبيل القرابة أو الدين، وليس الليبرالية والفاشية. ويعرف الأمة بأنها: «جماعة سياسية متخيلة، محددة وسيدة أصلا»، ملخصا أسباب ظهور الجماعات المتخيلة الحديثة التي أدت لتكوين الدولة القومية في أوروبا الغربية، في تلاقي منظومة الرأسمالية، وتكنولوجيا الطباعة، وتراجع اللغة اللاتينية كلغةٍ مقدسة، والتغيير الذي جرى في طبيعة السلطة الملكية غير الوطنية، بالإضافة إلى نشوء مفهوم جديد للزمن يفصل الزمن اليومي الفارغ والقابل للملء بالأفعال الإنسانية، عن زمن التكوين والخطيئة والخلاص الديني المملوء أساساً.


المدخل

يبدأ بندكت أندرسون كتابه بمدخل عام يكشف فيه عن أن ما دفعه لتصنيف الكتاب هو نشوب حرب بين الدول الاشتراكية في الهند الصينية وتحديدا بين فيتنام وكمبوديا والصين (1978 – 1979)، فهي أنظمة «لها استقلالها ورصيدها الثوري»، ولا يمكن تفسير الحرب بينها باعتبارها «دفاعا عن الاشتراكية» أو حتى نوعا من «الإمبريالية الاشتراكية» (ص49)، واعتبر أندرسون «أن كل ثورة نجحت منذ الحرب العالمية الثانية، عرفت نفسها بمصطلحات قومية، مثل جمهورية الصين الشعبية، وجمهورية فيتنام الاشتراكية، ووطدت أركانها بذلك في فضاء إقليمي واجتماعي موروث من الماضي قبل الثوري». مؤكدا أن هذا التحدي لا يقتصر على العالم الاشتراكي، حيث كثيرا ما تعترف الأمم المتحدة بأعضاء جدد، وتجد الأمم القديمة التي كانت تحسب أنها متماسكة تماما، تجد نفسها إزاء تحد تطلقه قوميات فرعية داخل حدودها، قوميات تحلم بأن تخلع عنها هذه الفرعية في «يوم سعيد» (ص50).

واستغرب أندرسون من ضعف النظريات التي تناولت مسألة القومية رغم ما مارسته الظاهرة من نفوذ في العالم الحديث. حتى أنه يلوم على الاشتراكية تجاهلها لظاهرة القومية بدلا من مواجهتها، فماركس «طالب البروليتاريا في كل بلد أن تحسم الأمور مع برجوازيتها الخاصة أولا»، كما أن الاشتراكية استخدمت مفهوم «البرجوازية القومية» لقرن من الزمان دون أن تضع تفسيرا لذلك في ظل طبيعة الصراع العالمية. ويرى الكاتب أن الهوية القومية أو الانتماء إلى أمة، هي نتاجات ثقافية من نوع محدد. وأن خلق هذه النتاجات في نهاية القرن الثامن عشر كان الخلاصة العفوية التي نجمت عن تقاطع معقد بين قوى تاريخية متعددة لكنها ما إن خلقت حتى غدت قياسية (ص51).

ويعرف الكاتب الأمة بأنها: «جماعة سياسية متخيلة، محددة وسيدة أصلا». فهي متخيلة لأن أفراد أي أمة مهما كانت صغيرة لا يمكن أن يعرفوا معظم نظرائهم. وهي سيدة لأن مفهوم الأمة ولد في عصر كان يطيح فيه التنوير والثورة بشرعية المملكة السلالية المفروضة إلهيا. وهي جماعة لأن الأمة يجري تصورها دائما كعلاقة رفاقية أفقية عميقة، فهذه الأخوة هي ما مكن ملايين البشر خلال القرنين الماضيين لا من أن تقتل وحسب، بل من أن تموت راضية في سبيل هذه التخيلات المحددة (ص53).


جذور ثقافية

استغرب أندرسون من ضعف النظريات التي تناولت مسألة القومية رغم ما مارسته الظاهرة من نفوذ في العالم الحديث.

يلفت أندرسون النظر إلى فكرة «ضريح الجندي المجهول» باعتبارها رمزا ثقافيا مهما للقومية الحديثة، بما تناله من إجلال طقسي لا سابق له في الأزمنة القديمة، ويقول إنها توحي بألفة قوية من التخيلات الدينية بسبب علاقتها بالموت (ص55). مشيرا إلى أن الأديان استمرت آلاف السنين لأنها تجيب على أسئلة الموت والمرض والحزن والشيخوخة والإعاقة… ألخ، كما أن الفكر الديني يستجيب للرغبة الغامضة في الخلود. بعكس أساليب التفكير التطورية/التقدمية. ومع دخول أوروبا الغربية عصر التنوير والعلمانية العقلانية، ظهرت القومية لتعويض تراجع الدين، ولخلق نمط جديد من أنماط الاستمرار، فرغم كون الدول ظاهرة حديثة إلا أن الأمم التي تعبر عنها قديمة جدا، كما أنها متجهة إلى مستقبل واحد. وهنا يظهر سحر القومية التي تحول المصادفة إلى مصير، وهو ما قصده دوبريه عندما قال: «أجل، إنها لمصادفة محضة أنني ولدت فرنسيا، لكن فرنسا خالدة على أي حال» (ص56).

يلفت أندرسون النظر إلى فكرة «ضريح الجندي المجهول» باعتبارها رمزا ثقافيا مهما للقومية الحديثة، بما تناله من إجلال طقسي.

ويقول الكاتب إنه لا ينبغي فهم القومية عبر ربطها بالأيدولوجيات السياسية، بل عبر ربطها بالمنظومات الثقافية الكبرى التي سبقتها والتي ظهرت إلى الوجود انطلاقا منها وضدها في نفس الوقت مثل الجماعة الدينية والمملكة السلالية. فعند تناوله للجماعات الدينية يقول الكاتب إن الامتداد الشاسع العجيب لأمة الإسلام أو الأمة المسيحية أو البوذية مبني على تصور جماعات متخيلة هائلة. وهذا التخيل كان يتم في قدر كبير منه على وسيط اللغة المقدسة والنص المقدس. فعندما يلتقي مسلم من أقصى الشرق مع آخر من أقصى الغرب في مكة فإنهما يفهمان علامات كل واحد منهما (العربية) حتى وإن اختلفت لغاتهم المحلية. فالنص المقدس المشترك لا يوجد ِإلا بالعربية (ص57). والجماعات الكلاسيكية الكبرى جميعها كانت تتصور أنها مركز الكون عبر وسيط لغة مقدسة مرتبطة بنظام قوة فوق أرضي. فالواقع الأنطولوجي لا يمكن الإحاطة به إلا من خلال لاتينية الكنيسة أو عربية القرآن مثلا. ولأن هذه اللغات هي «لغات الحق» فهي مفعمة بدافع غريب عن القومية، هو دافع «الهداية». وثقة هذه الجماعات في لغتها «المقدسة» وقبول أعضاء الجماعة على أساسها، أمران يميزانها عن الجماعات المتخلية الحديثة (ص58).

لكن هذه الحالة من التماسك بدأت تضعف بعد العصور الوسطى – بحسب أندرسون – وذلك لعدة أسباب أهمها سببين: الأول هو أثر عمليات استكشاف العالم التي ساهمت في توسيع تصور البشر لأشكال الحياة الإنسانية الممكنة. والثاني هو تراجع شأن اللغة المقدسة نفسها حيث لم تعد اللاتينية أو العربية هي اللغة الوحيدة للتعليم كما كانت (ص59-60). وفي حديثه عن الملكية السلالية قال أندرسون إنها مثلت النظام السياسي الوحيد المتخيل في العالم لفترات طويلة، مشيرا إلى أنها تنظم كل شيء حول مركز رفيع وتستمد شرعيتها من السماء لا من السكان الذين هم رعايا وليسوا مواطنين (ص61)، أو عبر سياسات جنسية مثل الزيجات السلالية المتعددة التي كانت تجمع بين صنوف السكان، مستشهدا بالمثل القديم القائل: «فليشغل الآخرون الحرب، أما أنت أيتها النمسا المحظوظة فتزوجي» (ص62).

لكن بندكت يستدرك بقوله إنه من قصر النظر أن نعتبر أن جماعات الأمم المتخيلة لا يتعدى خروجها من أحشاء الجماعات الدينية والملكيات، وحلولها محلها. وذلك لأن انهيار الجماعات واللغات والسلالات المقدسة كان يخفي تحته ما كان يعتري طرق إدراك العالم من تغيير جوهري عمل على جعل التفكير في الأمة أمرا ممكنا. حيث كان المخيال القديم للأديان دائما ما يعتبر أن العالم مقترب من نهايته وهو ما يجعله لا يفكر في تطوير نظامه القائم. فهو مرتبط بالماضي ويعيش في الحاضر ولا يخطط للمستقبل، بينما جاء التنوير ليزيل هذا النوع من التفكير وهو ما أدى إلى تطور فكري تجاوز الأنظمة القائمة (ص63-64).

ويرى أندرسون أن الجماعات المقدسة كانت تعتمد على تمثلات مشتركة تظهر في أشكال الكنائس والرسوم التي بداخلها والعظات والمسرحيات الحكيمة والتي تشكل المخيال المسيحي في مناطق متباعدة وشاسعة، بينما تحولت هذه التمثلات في القرن الثامن عشر إلى الرواية والصحيفة، حيث يدرك الشخص الذي يقرأهما أن هذا الطقس الذي يؤديه يكرره في الوقت ذاته آلاف أو ملايين الأشخاص وهو ما يكون في عقله وعقولهم جماعة متخيلة (ص65-70). وهو ما تطور بعد ذلك في السينما ثم الإذاعات والقنوات التليفزيونية، خاصة المحلية منها.

ويلخص الكاتب أطروحته التمهيدية في أن الأمة بمعناها الحديث لا تنشأ إلا بالتخلص من ثلاثة تصورات ثقافية: أن لغة بعينها قد وفرت الوصول إلى الحقيقة، وأن المجتمع منظم تحت مراكز رفيعة كالملوك، وأن الزمن تتطابق فيه أصول العالم وأصول البشر بحيث لا يمكن التمييز فيه بين «الرؤية الكونية الشاملة» و «التاريخ». (ص71) وحول هذه النقطة يقول محمد مختار الشنقيطي إنه يجب التفريق بين الإسلام كدين وتعاليم مقدسة، وبين تاريخ المسلمين، مؤكدا أن«التاريخ ليس وحيا، ولا الوحي تاريخ»[8].


[1] قسم موريس دوفورجيه عوامل الصراع إلى عوامل بيولوجية ونفسية وديموغرافية وجغرافية واقتصادية وثقافية. (موريس دوفورجيه، مدخل إلى علم السياسة (دمشق، دار دمشق للطباعة والنشر، ترجمة جمال الأتاسي، 1964).[2] ناظم عبد الواحد الجاسور، موسوعة علم السياسة (عمان، دار مجدلاوي للنشر، 2009)، ص 294.[3] عبد الرحمن الرافعي، تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة (القاهرة، دار المعارف، 1989، ط2)، ص 12. [4] سمير أمين، الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية (بيروت، دار الطليعة للطبع والنشر، 2008)، ص 2. [5] ديبورا ماكنز، نهاية الدول القومية: هل ثمة بديل؟ (مؤسسة هنداوي، ترجمة سارة عادل). http://goo.gl/8llU7T [6] Political Theology: Four Chapters on the Concept of Sovereignty. George D. Schwab, trans.(1985) University of Chicago Press.[7] ولد بندكت أندرسون في الصين عام 1936، وتوفي في إندونيسيا عام 2015 ويحمل الجنسية الأيرلندية.[8] محمد بن المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة (الدار البيضاء، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013)، ص 12.