ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
الأنبياء: 107

بهذه الكلمة القرآنية الكريمة حدّد الله سبحانه وتعالى الطابع العام للرسالة الإسلامية، وحدَّد كذلك بواعثها وأهدافها، إن كل ذلك يتمثّلُ في كلمة واحدة: «الرحمة»، وقد كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن على حدّ تعبير السيدة عائشة، فطابعه صلوات الله عليه وسلامه وبواعثه وأهدافه إذن إنما هي الرحمة. ولقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة». وقال صلوات الله عليه: «أنا نبي الرحمة».

والرحمة من جانب آخر إنما هي التعبيرُ عن الإنسانية في أسمى معانيها، وأن الآدمي الذي يتجرد عن الرحمة، إنما ينسلخ من الإنسانية فيكون شيطانًا مريدًا أو حيوانًا مفترسًا. وعلى هذا، فرسول الله صلوات الله عليه وهو الرحمة المهداة من الله إلى خلقه، إنما هو الإنسان الكامل، ولقد تمثَّل فيه الجانب السويّ من الإنسانية طيلة حياته، لقد تمثَّل فيه قبل البعثة وبعدها، أما قبل البعثة فقد كان للرسول صورة محددة عبرت عنها السيدة خديجة رضي الله عنها له: «والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر».

وعبّر عن هذه الصورة في كلمةٍ واحدةٍ القرشيون حينما اختلفوا في وضع الحجر الأسود، وحملوا السيوف، وأوشكوا أن يثيروها شعواء، ثم اتفقوا حقنًا للدماء على الاحتكام إلى أول داخل عليهم وكان أول داخل الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا فرحين مستبشرين: ها هو ذا الأمين!

وكلمة الأمين التي كانوا يطلقونها على محمد صلوات الله عليه وسلم كانت تعني مجموعة من الصفات والخصائص متكاملة هي من الإنسانية في الذروة والسنام.

ثم كانت الرسالة الإسلامية مفصّلة مكارم الأخلاق، موضحة المثل الأعلى للإنسانية في أكمل مظاهرها، مبينة في دقة وإحكام الطريقَ الصحيح للسلوك الإنساني الكريم، وجاعلة شعارها في كل ذلك الرحمة، وتشرّب رسول الله هذه الرسالة حتى خالطت لحمه ودمه.

وحملته رحمته الإنسانية أو إنسانيته الرحيمة على أن يعمل طيلة حياته لهداية الإنسانية وإسعادها، وصوَّرَه القرآنُ خيرَ تصوير في جهادِه هذا لإسعاد الإنسانية حينما قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

لقد أهّمه صلوات الله عليه وسلامه إسعاد البشرية، كان يحزنه انحراف أفرادها عن طريق السعادة حتى لقد قال الله له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ…} [فاطر: 8] وقال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، ولقد رسم الرسول صلوات الله عليه موقفه من الناس مثله بموقف رجل يحاول ما استطاع أن يمنع الناس عن التردي في نار يتهافتون على الوقوع لها، ولعل الحادثة التالية تصور بعض جوانب التربية الرحيمة التي كان يستعملها الرسول في سلوكه مع الناس، وهي وإن كانت خاصّة برجل معين فإنها ليست مقصورة عليه، بل هي صفة العموم: جاءه أعرابيٌّ يومًا يطلبُ منه شيئًا فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له مستفسرًا متوددًا: أحسنتُ إليك؟ فقال الأعرابي: لا، ولا أجملت! فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار الرسول أن كفّوا، ثم قام ودخلَ منزله وأرسل إلى الإعرابي وزادَه، ثم قال: أحسنتُ إليك؟ فقال الأعرابيّ: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال له النبي صلى الله عليه سلم: «إنك قلتَ ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أجبتَ فقُل بين أيديهم ما قلتَ بين يديّ، حتى يذهبَ من صدورهم ما فيها عليك». وتحدَّث الأعرابي إليهم، وطابت نفس أصحاب رسول الله بقول الأعرابي، فقال صلوات الله عليه وسلامه هذا التعقيب الرائع:

إن مثلي ومثل هذا الإعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها وأعلم، فتوجه إليها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردّها هونا هونا، حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها، وساوى عليها، وإني لو تركتُكم حيث قال الرجل ما قال: قتلتموه، دخل النار.

لقد كانت نفسُ رسول الله رحيمة حتّى مع الأعداء. لقد قيل له يومَ أُحد وهو في أشدّ المواقف حرجًا: لو لعنتهم يا رسول الله؟ فقال صلوات الله عليه: «إنما بُعثت رحمة ولم أُبعث لعّانًا».

وكان إذا سُئل أن يدعو على أحد، عدَل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له بالهدى والصلاح، وكان يريدُ باستمرار أن يشعر المسلمون بل الناس على وجه العموم، بالتعاطف فيما بينهم. سُئل مرة: «أيّ الناس أحبّ إليك». فقال: «أنفعُ الناس للناس وسئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إدخال السرور على المؤمن». وقال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله».

وكانت رحمتُه صلوات الله عليه، عامة شاملة، حتى لقد تناول الحيوان الأعجم، لقد قال يحثُّ على الشفقة بالحيوان:

بينما رجل يمشي فاشتدّ عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج منها فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفّه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسَقَى الكلب، فشكر الله له فغفر له: قالوا يا رسول الله وأن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر… ودخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.

لقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وإنّ أفضل عمل نرضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتنا ونتأسّى به فيه، أن نُعاهد الله على أن نكون باستمرار مثلاً كريمًا للرحمة الإسلامية.


نُشر في مجلة الهلال المصرية، عدد أغسطس 1978م/ شعبان 1398هـ.استمع للمقال