تعد السمة الأكثر وضوحا لأبحاث ومعرفة العلوم الحديثة هي مدى تصادمها مع ما كنا نظنه منطقا ثابتا لا جدال فيه. لم يشكك أحد –قبل الآن- في السببية أو يحاول إيجاد الهيكل الذي يتكون منه الكون حرفيا. لقد تركوا الأمر ليد الفلاسفة حينئذ، وبدا أن العلماء منغمسون تماما في استكشاف ما «بداخل» الطبيعة وليس الطبيعة ذاتها.

تغير الأمر عندما بدأت حقائق وإثباتات وجود الذرات، النسبية وميكانيكا الكم، في تحدي عقولنا. لقد اتضح أن الطريقة التي تعمل بها عقولنا هي أمر خاص بنا كبشر ولا يلزم الواقع الامتثال لها بأي حال. لقد اصطدمنا بقطع من المعرفة لا يمكن توحيدها إلا إذا اسقطنا تلك الحقيقة البديهية أو تلك.

هل كان هذا الإدراك الأخير –بإمكانية إسقاط افتراضاتنا البديهية والتخلي عنها ولو نظريا أو رياضيا فقط- دون أن يخبرنا كانط بهذا الاحتمال من الأصل؟


الرجل وراء الثورة

ولد كانط في أبريل/نيسان عام 1724 في كونيجزبيرج عاصمة شرق بروسيا التي سيتم تسويتها بالأرض بعد قرنين في الحرب العالمية الثانية، لتصبح لاحقا جزءا من روسيا تحت اسم كاليننجراد. على عكس فلاسفة فرنسا المرموقين، كانت خلفية كانط الاقتصادية تنتمي للطبقة الكادحة، يتضح الأمر في اضطراره لمغادرة الجامعة حتى يتمكن من إعالة نفسه.

رغم هذا الأوضاع بدأ كانط مسيرته الفكرية منغمسا في العلوم وخاصة الفيزياء. كتب كانط –رغم خطئه – دراسته الأولى عن القوى وكيفية حساب القوة اعتمادا على الكتلة والسرعة. استمر كانط باحثا في العلوم فكتب عن تكوين المجرات وعن الإيثر -نظرية المادة الخفية التي كان يعتقد أنها تملأ الكون- وغيرها من الأبحاث التي استهدفت المعرفة الأعمق بالكون من موقف علمي.

لم يدم الأمر كثيرا، في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الثامن عشر، ومع تعرضه المكثف لفلسفة هيوم، بدأ كانط يدرك أن منظومة الذهن البشري تحتاج منه تفنيدا جديدا تماما. كان كانط هو أول من تحدث عن أنه إذا كان هيوم محقا فإن العلم سيكون في مأزق. لقد وجد قصورا بالغا في فهم الفلاسفة للعقل البشري وكيف يعمل. ومن هنا انكب كانط على الكتابة مؤسسا لثورة الكوبرنيقية الخاصة.


اكتشافات في ثنايا المعرفة

في كتابه «مبحث في الفهم الإنساني An Enquiry concerning human understanding» يقوم هيوم بالتفرقة بين نوعين من المعرفة في العقل البشري وهما؛ علاقات الأفكار Relations of ideas والمسائل الحقيقية Matters of facts. ستكون هذه الخطوة هي الأساس الذي سيبدأ نظريته النقدية من نقده بالذات.

وضح هيوم أن علاقات الأفكار هي معرفة قبلية a priori محتم عليها الصدق بتعريفها دون الحاجة للتجربة كعلاقات الجمع 2+2=4 أو قواعد المنطق. بينما تعتمد المسائل الحقيقية في صحتها على التجربة، فنحن نعلم أن الشمس لامعة وصفراء بالتجربة، وهي تجربة حقيقية، وبالتالي فإنها معرفة بعدوية a posteriori. هكذا قسم هيوم كل المعرفة الممكنة للعقل البشري وبنى عليها نظريته التشكيكية.

لم ير كانط أي ممكن في محاولته لردع استنتاجات هيوم المخيفة إلا أن يكون هذا التقسيم ذاته، تلك القاعدة الأساسية، خاطئة، أو على الأقل قاصرة.

تبدأ قصة الإضافة الأكثر عمقا لكانط في هذا المضمار من جملة «محتم عليها الصدق بتعريفها» تلك. ببساطة أطلق كانط على هذا الوضع اسم التحليليةanalyticity. أسند كانط لقب تحليلي analytic لكل حجة تحتوي في ذاتها على المعلومة التي تعطيها. نرى هذا في عبارات مثل «كل العزاب غير متزوجين». فصحة هذه الجملة تتأتى من كون عدم الزواج هو بتعريفه أن تكون عازبا.

على الناحية الأخرى فالحجج الصناعية Synthetic ليست صحيحة بالضرورة وليست صحيحة بتعريفها؛ لأنها تخبرنا في خبرها Predicate بأشياء ليست موجودة في فاعل الجملة Subject. يمكننا أن نجد مثالا على هذا في عبارة مثل «كل العزاب يحبون لعب الكرة». مثل هذه التصريحات لا تعتمد إلا على التجربة، ولذا فهي حكم أو علاقة مقترحة ليس أكثر. والأحكام من هذا النوع ليست ضرورية الصحة.

بالنظر لتعريفات هذه المصطلحات الأربعة نجد أن المعرفة القبلية هي معرفة تحليلية analytic في حين أن المعرفة البعدوية هي معرفة صناعية بطبيعتها.

هنا.. فكر كانط في احتمالية أن تكون هناك معرفة من نوع آخر، معرفة قبلية صناعية Synthetic a priori knowledge.


العقل يقوم بعمله

ما اقترحه –أو بالأحرى اكتشفه- كانط في العقل البشري هو ببساطة الأفكار الصحيحة الموجودة بداخله، والتي ليست صحيحة بطبيعتها ولا تم تعلمها بالتجربة أيضا. نتحدث هنا عن وضع جديد تماما للعقل واكتشاف دور جديد يلعبه المخ في الخباء منذ أن يتكون.

عادة ما أسند التجريبيون والعقلانيون للمخ دورا سلبيا passive بمعنى أن المخ إما يكون بطبيعته منذ البدء محتويا على المعرفة عند العقلانيين أو يتلقى المعرفة من الخارج كما هي عند التجريبيين. تساءل كانط ماذا لو أن المخ ليس سلبيا وأنه يشارك في «عملية المعرفة» كعضو نشاط. ماذا لو أن المعرفة الآتية من العالم الخارجي تمر على فلتر نسميه العقل يقوم بتحويلها وتشكيلها طبقا لتكوينه.

لو نظرت إلى مكتبة عامة فستجد أن الكتب لم تخلق مرتبة طبقا للأبجدية، لقد كان هذا النظام هو اختراع البشر عند قيامهم بإنشاء مكتبة. ماذا لو كان الدور التنظيمي للبشر هو ما يلعبه العقل بالنسبة للإنسان الواحد. إن صح هذا فإن المعيار هنا يكون تركيب العقل وكيفية عمله وإدراكه للأشياء.

في منظومة كانط نجد أن العقل يعمل كملف تنظيمي كبير يستقبل المستندات والبيانات ويقوم بصبغها بصبغته. بهذا يقوم العقل بطبع صورته على الواقع الخارجي المحسوس، وبهذا تصبح لدينا معرفة صناعية قبلية في آن واحد.

لم يلتفت الفلاسفة الكبار السابقين على كانط إلى احتمالية حدوث تغيير في المعلومات في المرحلة ما بين دخولها للمخ وتحولها لمعرفة. في تلك المنطقة بالضبط كمنت هذه النوعية الجديدة من المعرفة القبلية الصناعية. يمكننا تلخيص سرد الأحداث بالنسبة إلى كانط في الخطوات الآتية:

  1. تحدث التجربة وينتج عنها معلومات
  2. تدخل المعلومات إلى العقل
  3. يتلقى العقل هذه المعلومات وبطبيعته يبدأ في ترتيبها ليحدث «الإدراك»
  4. يحدث الترتيب طبقا للكيفية التي يقوم العقل بالإدراك باستخدامها والكامنة في تكوينه
  5. نحصل على معرفة تتكون من نسيج من الواقع وطبيعة المخ في آن

هكذا رأى كانط المعرفة الجديدة مثل كعكة تمثل التجربة المحسوسة فيها المكونات من دقيق وبيض وسمن، ويمثل العقل طريقة صنعها من خلط وتقليب وتشكيل وإنضاج.

بهذه الطريقة وحدها يمكننا فهم أفكار مثل السببية causality والفراغ بأبعاده space، بل الزمن وطبيعته. بهذه الطريقة يمكننا أيضا فهم لم واجهنا صدمة عند تعمقنا الشديد في البحث في أساسيات الكون عندما بدأت الطبيعة تشير لكون أفكارنا القبلية من هذا النوع -كالسببية- ليست لزاما على مجريات الكون.

اعتمد العلم على التجربة في الأساس، ثم ما إن نضج قليلا حتى بدأ انتقاد التجربة التي تعمل في أساساته مما عرضه للانهيار. تعاظم الهجوم فمن ناحية تساءل البعض: يعتمد العلم على السببية فهل هي نتاج تجربة بحد ذاتها أو أنها صادقة بتعريفها؟ لا؟ فلماذا إذن يقبلها العلم؟ وعلى النقيض تجد تشكيكية هيوم تدحض استقراء العلم التجريبي 100% وتهاجم نتائجه.

في هذه البيئة العدوانية نشأت نظرية كانط التي طورها في عشرة أعوام عاكفا على بيان ما غفلنا وغفل تاريخ الفكر عنه. بهذه الفكرة حول كانط اتجاه تاريخ الفلسفة والمعرفة والعلوم والميتافيزيقا أيضا لاتجاه جديد معطيا للعقل دورا فعالا ورئيسيا كما يجب أن يكون.

كما نقل كوبرنيكوس الشمس لمركز الكون منحيا الأرض عنها وصانعا الأساس لكل المعرفة الفلكية –بل المعرفة ككل- من بعده، نقل كانط العقل إلى المركز وجعله متقبلا ومنتجا. بالإضافة لكون نظرية كانط قد أسهمت في فهمنا لإدراكنا وأسست له، إلا أن الإنجاز لا يقف هنا. لقد أتاحت لنا النظرية الجديدة أن نقوم بمقارنة أعمال العقل واستنتاج معلومات جديدة عن التروس التي يسير بها. حينها أصبح من الممكن أن ننظر إلى الصورة ونفرق بين ما هو حقيقي وبين ما يرجع لعملية الفلترة. بهذا الفصل أصبح ممكنا أن نحوز على معرفة حقيقية بكل من العقل والطبيعة منقذين المعرفة والعلوم من محرقة هيوم.