في مقال سابق عن تعلم اللغات، تعرضنا لواحدة من أهم الطرق في تعليم اللغات بشكل عملي فعال، وهو التعلم بالغمر (Language Immersion). وقد ذكرنا أنه من أكثر الطرق فاعلية في تشرب اللغات وخاصة في العام الأول من عمر الطفل. وقد ذكرنا عددًا من شروط التطبيق الصحيح لهذه الطريقة وبعض الممارسات الخاطئة التي يجب الحرص منها. وفي هذا المقال نستعرض بمزيد من التفصيل كيفية تطبيق تلك الطريقة وأمثلة عملية على جلسات الممارسة بالغمر.


من يقوم بالجلسة؟

بينت الأبحاث أن الطفل في سنته الأولى يكون بمثابة جهاز شديد الدقة لتلقي الأصوات المختلفة وتحليل مخارج الحروف المميزة في كل لغة على كوكب الأرض. وقد أكدت الدراسات العلمية القائمة على فحص نشاط المخ أن الطفل بعد السنة الأولى من عمره يميل لعمل «فلترة» للأصوات بعد ذلك لا يميز من الأصوات إلا ما تعرف عليه مخه في السنة الأولى. ومعنى أنه لا يميز أن عقله لا يستجيب لتلك الأصوات وإنما يقوم بتقريبها إلى أقرب صوت هو يعرفه.

من هنا يتبين لنا أن من أهم الصفات التي يجب مراعاتها عند العمل بطريقة الغمر في السنة الأولى هي أن يكون المتحدث باللغة من أبناء لسانها أو ما يسمى بالإنجليزية (Native Speaker) (وهي كلمة مفتاحية مهمة عند البحث عن مدرس أو مدرسة للتعليم بالغمر). أما بعد السنة الأولى فتقل أهمية هذه الصفة ويكون من الكافي أن يكون طلق اللسان بها (Fluent Speaker) وأن تكون لغته سليمة من ناحية التراكيب والتعابير.

إن القائم بهذه الجلسات يجب أن يتحلى أيضا بالصفات التربوية اللازمة للتعامل مع الأطفال وخاصة في الأعمار الصغيرة. حيث يجب أن يفهم كيفية التعامل مع الطفل وقراءة مزاجه وتفسير ردود أفعاله بحيث يمكنه أن يدير الجلسة بشكل فعال. أما إذا لم يتوافر فيه هذه المعرفة فيفضل أن يكون معه أثناء الجلسة أحد المطلعين في فنون التربية حتى يقوم بتوجيهه لردود الفعل الصحيحة على تصرفات الأطفال كما أن وجود ذلك المساعد يسهم أيضًا في متابعة أداء الجلسة وتطويرها وتقييم الأنشطة المختلفة التي يتم تنفيذها في جلسة التعليم بالغمر.

ومن أهم الصفات في القائم بتلك الجلسة أن يكون قادرًا على فصل اللغة تمامًا عن غيرها. فخلال جلسة الغمر لا ينبغي أن نخلط اللغة المراد تعلمها بغيرها من اللغات. إن الهدف من جلسة الغمر هو حفر مسارات عصبية في خلايا المخ لهذه اللغة المراد تعلمها. وكما علمتنا أبحاث المخ، فإن حفر المسارات يتم في المخ من خلال التركيز والاستخدام المتكرر لهذه المسارات والعلاقات بين السماع والكلام والفهم.

وكما أشرنا سابقًا فإن التعليم بالمصادر الإلكترونية ليس محبذًا في سن الأطفال الصغار، وكثرة تعرضهم للشاشات هو أمر مؤثر سلبًا على عقولهم وقدراتهم التواصلية وكذلك على حالتهم المزاجية. إلا هذا القيد يقل كثيرًا مع تقدم الأطفال في العمر. بحيث يمكنكم استبدال المدرس أو القائم بالبرامج المتقدمة والمواقع التي تيسر التواصل بينكم وبين أشخاص حول العالم يريدون أن يتبادلوا تعليم اللغة معكم. هذه المواقع فكرتها تقوم على توصيل الأشخاص ببعضهم بحيث يمكنهم ممارسة اللغة سويا من خلال وسائل الاتصال الحديثة على شبكة الإنترنت. ومن المواقع الجديرة بالذكر في هذا الباب:

كذلك يمكن الاعتماد على البرامج الحديثة للهواتف الذكية والتي تقوم بتوظيف تقنيات الألعاب في التعليم (Gamification). محولين تعلم اللغات إلى لعبة مسلية يحرز فيها المتعلم النقاط ويدخل سباقات سرعة ويتقدم من مستوى إلى آخر ويحصل على النياشين والأوسمة التشجيعية. ومن أشهر هذه الأنظمة في تحويل تعلم اللغات إلى ما يشبه اللعبة هذه التطبيقات:


كم جلسة نحتاج؟

مشكلة اللغة الأكبر في التعليم هي أنها تستغرق وقتا كبيرا حتى يتم تدريب المخ عليها. فبينما يحتاج الطفل في بداية عمره إلى مجرد شهور ليبدأ بتمييز الكلام البشري عن باقي الأصوات. فإن تحقيق درجة الكفاءة في اللغة لا يعتمد على البداية المبكرة بقدر ما يعتمد على الاستمرارية على مدى طويل من الزمن. ولهذا فلا داعي للقلق لو أخرتم في البدء فحتى لو بدأنا متأخرًا فمجرد استمرارنا فترة طويلة سيؤدي بنا إلى نتيجة جيدة، ما دام الجهد موظفًا بطريقة فعالة.

من أهم ما يجب الانتباه له عند تحديد موعد وزمن الجلسات أن نراجع ما توصلت إليه الأبحاث عن طريقة عمل المخ والذاكرة. فلا ينبغي أن تزيد مدة الجلسة عن قدرة المتعلم على الجلوس والانتباه والمتابعة. فللأطفال دون السنتين لا يجب أن تزيد الجلسة عن ساعة. وللأطفال دون العاشرة لا يجب أن تزيد عن ساعتين على أقصى تقدير. هذا بشرط أن تكون إدارة الجلسة تسمح لهم ببعض الحركة وأن تكون متعددة الأنشطة وعلى قدر من التسلية للحفاظ على انتباههم وتركيزهم.

أما أهم ما يجب الانتباه إليه في ترتيب وقت الجلسات أن يكون وقت الجلسات مرتبا من حيث المسافات بينها. فقد أشارت الأبحاث إلى أن فصل الجلسات عن بعضها يكون أكثر فاعلية بكثير من تكثيفها وتركيزها في يوم أو يومين ثم الانقطاع لأسبوع. فالجلسة التي تستغرق ثلاث ساعات في يوم واحد من الأسبوع هي أقل فاعلية بكثير من ثلاث جلسات موزعة على مدار الأسبوع وزمن كل جلسة منها لا يزيد على ساعة واحدة. ففصل وتوزيع الجلسات يسمح للمخ بنمذجة المعلومات في الذاكرة وتحسين القدرة على استعادتها تدريجيًا، بينما الجلسات الطويلة المتباعدة لا تعين المخ على ذلك فيفقد الكثير مما اكتسبه في تلك الجلسات المطولة.


ماذا يدور في الجلسة؟

إن جلسة بلا خطة هي جلسة عشوائية لا طائل من وراءها. والتخطيط السليم يرفع من فاعلية الجلسة وقيمتها ويزيد من اندماج المتعلم فيها أيا كان موضوعها. إن الأطفال بمللهم السريع لن يعطوك فرصة للارتجال كثيرا داخل الجلسة، فاستعدادك المسبق هو الضمان لجلسة غمر ناجحة ومفيدة لهم.

لتحقيق الهدف من الجلسة يجب أن تدمج فيها أنشطة مناسبة لعمر الطفل أو المتعلم. بحيث تكون هذه الأنشطة بوابات لك لتفتح المجال للكلام والوصف والتعامل باللغة مما يحقق الهدف من الجلسة. ولهذا كن مستعدًا بالقصص الجذابة التي تقرؤها معهم باللغة المراد تعليمها. ويجب مراعاة أن تكون تلك القصص قصيرة ولها مقاطع مميزة ومتكررة ما أمكن. كذلك قم بالتدرب على الأناشيد وحفظها بحيث يمكنك أداؤها معهم دون الحاجة لمراجعتها من جهاز تسجيل لأنه سيصرف انتباههم عنك إلى الجهاز وتجد تشتتا كبيرا. احرص في اختيارك لهذه الأناشيد على أن تكون متوسطة السرعة، فلا تكون سريعة بحيث تشتت تركيزهم ولا بطيئة بحيث تصيبهم بالملل وتصرفهم عنك وعن الجلسة.

كذلك يعد الوصف من الأنشطة المهمة في جلسات التعلم بالغمر. فيمكنك أن تصف له الحجرة التي تجلسون فيها، وتشير له على ألعابه وتسمي له العرائس. كما يمكنك أن تستعين بالوسائل البصرية مثل الكروت التعليمية (Flash Cards) التي تغطي مواضيع مختلفة مثل الحيوانات والطيور والفواكه وغيرها. قم بالإمساك بالكارت التعليمي أو اللعبة في يدك وانظر لها وقل اسمها بصوت واضح. ثم قم بوصفها مستخدمًا نفس الاسم في أول الجملة (مثلا «هذا كلب»، ثم تضيف «الكلب يقول هاو هاو» ثم تضيف «الكلب له فراء بني»، وهكذا تستمر في وصف الكلب واللعب بدميته أو صورته بينا ترسخ كلمة الكلب وتمارس اللغة مع الطفل).

من الممارسات الفعالة أيضا أن تمارس مع الطفل نشاطا تبادليا. مثلا تعطيه وتأخذ منه لعبة وأن تكلمه وتشجعه. «خذ ، خذ، خذ السيارة» ، ثم «هات، هات، هات السيارة» ، وبعد ذلك تمسك بلعبة أخرى «خذ، خذ، خذ الكرة» ، ثم «هات، هات، هات الكرة». استخدم إشارات جسدك وتعابير وجهك لتشعر الطفل بالتواصل معه والفرح بتجاوبه معك وتشجيعه على الاستجابة لك.

وبالطبع في كل الأحوال اجعل الطفل قائدا لك في اختيار الأنشطة. كن مستعدا دوما لمراقبة رد فعله وهل هو مقبل على النشاط الذي تقوم به أم أنه منصرف عنك؟ قم بتتبعه في اختياراته للألعاب والحركات واستغل الفرصة لمخاطبته والكلام معه عن اختياراته، فهذا يضمن لك أن يندمج الطفل معك ولا ينصرف عنك، بالرغم أنه سيحتاج منك أيضا إلى الكثير من الصبر والمرونة.