ما بين مؤيد ومعارض تتصارع وجهات النظر حول الحضارة الأفريقية، فريق من الأوربيين يشكك في قدرة القارة الجنوبية في إنتاج أفكار وثقافة خاصة بها، فريق من الأفارقة يجادل حول تأخر قارته من جرّاءِ الاحتلال الغربي لها ومحاولة طمس أي لمحة على تقدم تلك الحضارة، ودلّل ذلك الفريق على اندماج الحضارة الأفريقية سابقًا مع الحضارة الإسلامية في عصره الذهبي، وتقديمها مساهمات أدت بشكل وثيق إلى تكوين حضارة الإسلام في شمال أفريقيا وغربها وامتدت بفضل تلك المساهمات إلى أوروبا.

دور الأفارقة في إنتاج حضارتهم الإسلامية

من الصعب تحديد ميعاد انتشار اللغة العربية في أفريقيا، في شمال القارة كان الأمر أكثر سهولة مع اعتماد سكان تلك المنطقة على اللغة البونيقية، التي كانت من نسل اللغات السامية مثل العربية وانتشرت خصوصًا في قرطاج فكان من السهولة تقبل السكان للغة العربية بخاصة مع تحول الغالب إلى الإسلام وتبادل التجارة مع العرب.

تكفل الشمال بإيصال اللغة للغرب الأفريقي عن طريق تجَّار المغرب ومصر حين ترددوا إلى الأسواق الرئيسية في أفريقيا مع وصول الجِمال إلى شمال أفريقيا عن طريق العرب ما سهّل التجارة والوصول إليهم، وأما شرق القارة، في الحبشة وما جاورها من الأماكن، فقد عُرفت اللغة العربية عندهم قبل ذلك لصلتهم بالحجاز واليمن عن طريق البحر.

وصول الإسلام إلى القارة كان يحارب مظاهر الوثنية المستشرية هناك، فكان للفقهاء دور أساسي في إيصال الدين النقي الممنوع من التحريف، ووصل صيت هؤلاء العلماء إلى أرجاء دولة الإسلام، ومنهم الشيخ صالح بن محمد الفلاني المولود بإقليم فوتاجالو في غينيا، حيث كانت معظم إسهاماته الثقافية خارج القارة، حين ارتحل طالبًا العلم وعمره اثنا عشر عامًا فدخل مدينة تمبكتو بعدها إلى الصحراء فتعلم عند الشيخ محمد بن سنة لمدة ست سنوات، ليصل بعد سنوات إلى المدينة المنورة التي استقر فيها بعد أداء الحج إلى وفاته وعقد حلقة علمية في المسجد النبوي وتوافد عليه طلاب العلم، وبخاصة طلاب علم الحديث النبوي، وحصل على شهرة في عصره حتى وصل إلى مكانة اعتباره من مجددي فترته.

خطوة تعريب غرب أفريقيا جعلتها مركزًا للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى إلى ظهور التواصل بين الدراسات الفكرية الأفريقية والحركة الأدبية العربية التي انتشرت في شرق القارة، أدى ذلك إلى ظهور مجموعة كبيرة من الكتابات وإنتاج أدب سونغهاي والهوسا في غرب أفريقيا وكان من بين الكتابات العلوم الفقهية بجانب المؤلفات العلمية مثل الرياضيات والفيزياء وتُرجمت من العربية للغات المحلية كما شاعت حركة الترجمة من العربية للغات المحلية في المجال الطبي برع عبد الله فودي من نيجيريا ووصلت لنا مخطوطاته التي ناقش فيها تأثير العوامل البيئية على الصحة، كما تطرق إلى أخلاقيات مهنة الطبيب وحفاظه على سرية المريض.

وبسبب البيئات المتغيرة والكثيرة في القارة الأفريقية، تم اكتشاف عديد من الأمثلة على التكنولوجيا والزراعة وتقنيات المياه والتعامل مع الحرارة المرتفعة، تشير الدلائل إلى أن المدن في شمال أفريقيا قد تم تطويرها وتناسبها مع احتياجات السكان المتزايدة، هذه المدن على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، لديها أنظمة صرف صحي، وقنوات معقدة لنقل المياه إلى محاور شمال أفريقيا الرئيسية، كما انتهجت شمال أفريقيا طرقًا متطورة في الري جاءت مع الرومان مثل جهاز النوري، وهو عجلة مائية ملحقة بأوانٍ من الفخار، وكانت إما تدور بالحيوانات أو عن طريق تيار متحرك.

كما استفادت الحضارة الإسلامية من تبادل المحاصيل في الثروة الزراعية الكبرى وانتقلت الذرة واللوبيا إليها من أفريقيا مقابل وصول السكر إلى شرق القارة حتى اُشتهر السكر في زنجبار بجودته، كما امتلك الأفارقة الخبرة في مجال الصيد للحيوانات والأسماك مما أسهم من انتقال تقنية الصيد بالكماشة والشبكة إلى الحضارة الإسلامية.

أيضًا استفاد العرب من أساليب بناء وعمارة البيوت في المناخ الصحراوي الأفريقي ومثال على ذلك مدينة جدامس الحدودية مع الجزائر، حيث يتم تجهيز الجدران من الطين السميك لامتصاص الحرارة، وغابت النوافذ ليصبح المدخل الوحيد لأشعة الشمس بواسطة فتحة صغيرة تسمى (كوة)، تفتح في سقف غرفة المعيشة المركزية بطول الطابقين، ليكون هذا هو المصدر الوحيد للضوء للمنزل بِرُمَّته، وفرت هذه الطريقة فعلًا إضاءة جيدة دون المخاطرة بمزيد من الحرارة، كما تم عزل أرضيات المعيشة للوقاية من ليالي الصحراء الباردة.

كما استفاد العرب من التعامل مع النوبيين الذين كانوا خبراء في مجالات التعدين واستغلال المحاجر، تشير أمثلة لا حصر لها إلى أن النوبيين كانوا أشخاصًا يفهمون عمليات المسح والتنقيب عن المعادن، وكان لسكان ساحل شرق أفريقيا والجزر المحيطة بالمنطقة تجارة تعدين مربحة، تم تداول هذه المعادن بشكل كبير مع العرب والهنود وجنوب شرقي آسيا، الأمر ذاته مع القطن الذي وصل لنسجه مبكرًا النوبيون وانتقل في التجارة مع اليمن إلى شبه الجزيرة العربية.

مملكة تمبكتو عاصمة العلم في أفريقيا

كان للحج دور فعّال في نقل اللغة العربية وثقافتها إلى القارة، فقد استثمر بعض الحجاج تلك الفترة في الحجاز بعد الحج للدراسة وتحصيل العلم، ثم يعودون إلى بلدانهم لنشر ذلك العلم وإحضار بعض الكتب الإسلامية والعربية، وكان بعض الأمراء والملوك في أفريقيا حين يحجون يستقدمون إلى بلدانهم العلماء لتعليم الإسلام واللغة، ويجلبون معهم الكتب في العلوم الإسلامية باللغة العربية، ما يفسر كتابة اللغات المحلية لليوم مثل الهوسا والسواحلية، مثل موسى مانسا حاكم تمبكتو الموجودة في مالي اليوم الذي عاد من الحج معه الشاعر والمهندس المسلم (الساحلي)، الذي بنى المساجد الشهيرة وأكاديميات التعلم في تمبكتو وغاو.

كانت تمبكتو مركزًا للتعليم الإسلامي في القارة فانتشرت بها مكتبات مليئة بالمخطوطات المكتوبة بخط اليد باللغة العربية ليصل منها لنا حوالي سبعمائة ألف مخطوطة قديمة في تمبكتو، وتُحفظ المخطوطات في مكتبات عامة وخاصة، وهي تغطي موضوعات مثل الرياضيات والكيمياء وعلم الفلك والطب والتاريخ والدين، تحولت تمبكتو من مركز تجاري صغير إلى مركز رئيس للتجارة والمنح الدراسية، مما جعل إمبراطورية مالي واحدة من الأكثر تأثيرًا في العصر الذهبي للإسلام، سافر ملوك غرب أفريقيا الأقوياء والزعماء الإسلاميون من مناطق بعيدة إلى تمبكتو للتجارة والتعلم فتم بناء شبكة من الحلفاء السياسيين.

تميز تمبكتو جعلها تمتلك واحدة من أقدم الجامعات في التاريخ لتنضم إلى 4 جامعات أفريقية في الزيتونة، القيروان والأزهر ، ليؤسسوا مفهوم الجامعة في العالم، واستقدم منهم الإنجليز بعد ذلك لتأسيس أوكسفورد، جامعة (سانكور) تأسست بالجهود الذاتية و لم يكن لديها إدارة مركزية بمعناها الحديث، بدلًا من ذلك، كانت تتألف من عدة مدارس أو كليات مستقلة، يدير كل منها معلم واحد، تعقد دوراتها في الساحات المفتوحة لمجمعات المساجد أو المساكن الخاصة.

تضمنت المادة الأساسية التي تدرس في الجامعة الدراسات الإسلامية والقانون إلى جانب الأدب، وشملت الموضوعات الأخرى الطب، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والجغرافيا، والتاريخ، كما كان لها منهج فريد في تعلم التجارة جنبًا إلى جنب مع قواعد وأخلاقيات العمل، من طريق تقديم المحلات التجارية بالجامعة دروسًا في الأعمال التجارية، والنجارة، والزراعة، وصيد الأسماك، والبناء، وصناعة الأحذية، والخياطة، والملاحة، فكانت تربط التعليم النظري بالتطبيق العملي، مما أهل خريجي تلك الجامعات للتدريس في بقاع دولة الإسلام مقابل صعوبة قبول الملتحقين بها.

وصول الأفارقة أمريكا بشكل مبكر

دور غرب أفريقيا في الحضارة الإسلامية امتد ليعبر المحيط، وفقًا لعديد الأدلة التي تشير إلى سبق المسلمين لرحلة كريستوفر كولمبوس إلى القارة الأمريكية، تلبيةً لرغبة حاكم مالي مانسا أبي بكر الثاني الذي استدعى مهندسي الشحن من تشاد لبناء سفن ذات بناء قوي لعبور المحيط الأطلسي.

تم تعزيز الأسطول بالبحارة الأقوياء والتجار والمهندسين والبنائين والفنانين المبدعين والمحاربين والمثقفين، كما تم تزويدهم بحصص غذائية تكفيهم عامين من السفر، أمر مانسا طاقمه بعدم العودة إلى مالي إلا إذا كانوا قد وصلوا إلى نهاية المحيط الأطلسي، أو نفدت إمدادات الطعام والمياه، وهو ما حدث بعودة قبطان واحد بسفينته من بين 200 سفينة خرجوا للاستكشاف، ادعى القبطان أن السفن الأخرى وأفراد الطاقم قد تم سحبهم في تيار واختفوا.

فشل المهمة الأولى لم يجعل مانسا أبي بكر الثاني يستسلم، حتى إنه بدأ في إعداد أسطول جديد أقوى وأكبر يتكون من 1000 سفينة تحمل أفراد الطاقم، إضافة إلى 1000 سفينة أخرى تحمل إمدادات الرحلة، بما في ذلك المواد التجارية والمحاصيل والحيوانات والذهب، وأعلن مانسا أنه سيرتحل بنفسه.

هناك عديد من الأدلة على أن مسلمي غرب أفريقيا قد وطأت أقدامهم القارة المجاورة لهم.

يأتي أقوى دليل حتى من كولومبوس نفسه، الذي ذكر في مذكراته أن الأمريكيين الأصليين أكدوا أن ذوي البشرة السوداء أتوا من الجنوب الشرقي في قوارب، ويتاجرون في الرماح ذات الرؤوس الذهبية، ووجد أيضًا أن نسبة خواص سبائك الذهب والنحاس والفضة كانت متطابقة مع تلك النسبة التي كانت تُصنع في غينيا الأفريقية، كما اكتشف كولومبوس أن الأمريكيين الأصليين يستخدمون مناديل كتلك المستخدمة في غرب أفريقيا.

حتى بعد وصول البرتغاليين إلى أمريكا الجنوبية زادت أهمية الأفارقة في القارة الجديدة، كانت خبرة البرتغال قليلة في مجال زراعة الأراضي، ولديهم مساحات واسعة من أرض البرازيل التي تم اكتشافها، فبدؤوا استجلاب العبيد من أفريقيا، أكدت الكثير من الكتابات أن المستعمر البرتغالي كان على غير دراية بالقراءة والكتابة، حتى القادة الزعماء وأوضحت الدراسات أن العبيد المسلمين الذين تم جلبهم من أفريقيا كانوا على قدر واسع من العلم والثقافة، حتى إن عملية التواصل بين السادة كانت تتم بواسطة الأفارقة، يكتب العبد رسالة السيد الأمي إلى زميله السيد الذي يقرأ له الرسالة الزنجي المتعلم.

المراجع
  1. كتاب إفريقيا واكتشاف أمريكا – ليو وينر
  2. كتاب الأدب في البرازيل – د. شاكر مصطفى
  3. كتاب اليومية للنوبيين – روبيرت ستيفن بيانكي