أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1917. آلاف النشطاء اليساريين الثوريين يحتلون في سرعة خاطفة كالصاعقة المقرات الحكومية، ومحطات التلغراف، والأماكن الحيوية في العاصمة الروسية. فشل رئيس الحكومة «كيرنسكي» في السيطرة على الأمور وهرب.

أعلن التنظيم السوفييتي العمالي الثوري قيام أول حكومة شيوعية لتدير البلاد، وهكذا سيطر اليساريون الراديكاليون المعروفون بالبلاشفة على الحكم. في أيامٍ معدودات، حُصِدَ غِراس عشرات السنين من المعارضَة الثورية المُنبَنيَة على مظلوميات صارخة ارتكبتها السلطة القيصرية المستبدة، لكن حصاد هذا النضال النبيل لم يظفرْ به كل المناضلين.


من بطرس الأكبر إلى نيقولا المخلوع

عام 1721، أُبرمَتْ معاهدة نيستاد بين روسيا والسويد لتنهي سنواتٍ مريرة من القتال للسيطرة على أقصى شمال الكوكب، اشتُهِرَت باسم «الحرب الشمالية العظمى».

كانت نتيجة المعاهدة انتصارًا روسيًا تحت قيادة «بطرس الأكبر» سليل أسرة رومانوف. فكان هذا العام القيام الحقيقي للإمبراطورية الروسية الضخمة، الممتدة بين المحيط الهادي شرقًا، وأوروبا غربًا، والتي وصل بها بطرس الأكبر بحروبه الدموية العنيفة، المياه المتجمدة شمالًا، بمياه البحر الأسود الدافئة جنوبًا.

بعد وفاة بطرس بـ40 عامًا، كانت الانطلاقة الثانية على يد كاثرين الثانية، والتي انتزعت مقاليد الحكم عام 1762 بعد انقلاب عسكري دبرته ضد زوجها الإمبراطور الضعيف (والذي كان يسيء معاملتها)، والذي انحاز إلى بروسيا (جزء من ألمانيا الحالية) عدوة روسيا، وأوقف الحرب ضدها، فأغضب قطاعات عديدة في الجيش والنخب.

وضعت كاترين روسيا بقوة على الخارطة العالمية، خاصة بانتصاراتها العسكرية على الدولة العثمانية. كما أصلحت الاقتصاد المهتز، واهتمت بالتعليم والثقافة.

فكرت كاثرين في إحداث ثورة اجتماعية في الاقتصاد المعتمد بنسبة 95% على الزراعة، وذلك ب تحرير عبيد الأرض «Serfs»، المربوطين بها، يباعون ويُشترون معها، ولا ينالون سوى فُتات العيش. لكنها تراجعت خوفًا من غضب المُلَّاك. بل فعلت العكس، فتوسعت في أعدادهم، فضمت مثلًا معظم الأوكرانيين إلى عبيد الأرض!.

وهكذا على مر ما بقي من عمر الإمبراطورية، زادت الدولة قوة، والبلاط والنخب ثراءً، بينما زاد معظم الشعب شقاء. ولما وصلت الثورة الصناعية إلى روسيا، وتوسَّعت المصانع، لم يكن حال عمالها أفضل كثيرًا من عبيد الأرض.

وهكذا كانت بذور ما حفلت به أيام القيصر الأخير نيقولا الثاني من ثوراتٍ عاصفةٍ في مطلع القرن العشرين، لتكتب صك النهاية لـ 3 قرون من حكم أسرة رومانوف.


فلاديمير الذي هزَّ التاريخ

حدثان فاصلان في حياة فلاديمير أوليانوف شكَّلا شخصيتَه مبكرًا على مشارف هذا الانقلاب التاريخي الذي تكثَّفَتْ سحبه أواخر القرن 19 وأوائل العشرين. الأول كان تهديد السلطات القيصرية لأبيه – مفتش التعليم – بالإحالة للمعاش؛ لشكوكهم في تحول بعض المدارس لمنصات معارضة للحكومة.

والثاني عام 1887م، عندما أُعدِمَ أخوه ألكساندر بتهمة محاولة الانقلاب على الحكم واغتيال القيصر. اضطرم صدر الشاب ذو الـ 17 ربيعًا بالرغبة في الانتقام لأخيه وأمثاله من ضحايا القمع.

لم يدرِ فلاديمير حينها أنه بعد 30 عامًا سيكون أحد مهندسي واحدة من أضخم الثورات الراديكالية في التاريخ، وأنه سيكون أول قائد للاتحاد السوفيتي العملاق – 22 مليون كم2 – الخارج من رحمها، وأن لقبه -لينين-سيصبح أيقونتها.

عودة إلى 1887، التحق فلاديمير المتفوق بكلية الحقوق بقازان، لكنه طُرد بعد فصلٍ دراسي لاشتراكه في مظاهرة. وفي منفاه بقرية صغيرة، انكبَّ على القراءة والاطلاع، خاصة كتابات كارل ماركس الثورية، فأضحى ماركسيًا حتى النخاع.

قضى لينين سنواتٍ في الريف الروسي، وأتمَّ دراسته 1892، واطلع عن كثب على المظالم الطبقية التي تعصف بالفلاحين. فلما انتقل إلى العاصمة سان بطرسبرج 1895، كانت هموم المظلمة هي شغله الشاغل.

مدَّ لينين الأواصر مع النشطاء الماركسيين بالعاصمة، فلم يمضِ عامٌ حتى اعتُقِلَ ونُفيَ إلى سيبيريا 3 سنوات، عاد منها ليقضيَ فترة في ميونيخ الألمانية، تواصل فيها مع الماركسيين الأوربيين.

عاد لينين إلى العاصمة المحتقنة تحت السطح، ولسنواتٍ نظَّمَ ورفاقه الكثير من الخلايا الثورية في المصانع والمدارس والمزارع، تحت راية حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي بأجنحته المتدرجة بين اليسار الاجتماعي الليبرالي، والماركسية الراديكالية، رغم أنف القمع السلطوي لكل فعلٍ أو فاعلٍ يُشمُّ منه رائحة المعارضة.. بل منحهم النظام فرصة إيلامِه بالضربة الأولى.


أسلحة ذات حدين

سيناريو شهير للأنظمة المستبدة المأزومة. حرب عنترية – سواء كانت دوافعها معقولة أو غير ذلك – مع عدو خارجي لترميم الشعبية، ولتلميعِ الاستبداد بالأمجاد الحربية، ولإحراج المعارضين الراديكاليين بأن الوطن في حالة حرب، وأن المعارضة خيانة … إلخ.

فكانت الهزائم التي أوقعتها اليابان بروسيا في حرب 1904-1905، إلى جانب انهيار الاقتصاد بتكاليفها الباهظة، والتي تحمَّل جانبها الأكبر الطبقات الأكثر حاجة، هي الشرارة المنتظرة للبركان المتربِص.

بينما الحرب على أشدها أواخر 1904 ومطلع 1905،بدأ الغضب المكتوم يستعْلنُ صداه في الأجواء. مظاهراتٍ طلابية .. خطابات مناهضة للنظام وسياساته .. إضراباتٍ عمالية. فقد النظام ثباته الانفعالي، فشهدت العاصمة أحَدَها الدامي الشهير.


عجلة الدم تبدأ دورانها

9 يناير/كانون الثاني 1905، مظاهرة عمالية إلى القصر يقودها راهب، مُبلَّغٌ بها السلطات مُسبَقًا، ليوصل أصحابها رسائلهم مباشرة لصاحب الشأن، ويحمل بعضهم صور القيصر!.

مائة قتيلٍ من المتظاهرين، ومئات الجرحى!. فقائد الأمن – عم القيصر الذي لم يكن في قصره حينها – طلب تفريق المظاهرة، فلما فشل، ترك القول الفصل لفوهات البنادق.

انتشرت أخبار المذبحة كالنار في هشيم غضب الشعب الروسي. إضرابات ومظاهرات في غالبية المدن الكبرى .. تمردت بعض الوحدات العسكرية.. اشتباكات مسلحة مع السلطات هنا وهناك .. إلخ. والأخطر كان امتداد التمرد للمناطق غير الروسية كالقوقاز وأوكرانيا والبلطيق.. الخ، مزدهرًا بالنزعات القومية الانفصالية.

في فبراير حاول القيصر امتصاص الغضب بإعلانٍ عن إصلاحات سياسية، وانتخاب مجلس للمستشارين. لم يقتنعْ به أحد.

أنشأ الثوار مجالس قيادية عمالية (سوفييت) في مناطق عديدة منها العاصمة، لتنظيم الحراك، وكانت أشبه بحكومات ثورية. تفاقمت الإضرابات ووصلت إلى السكة الحديد، وتمردت فرق كاملة من الجيش.


الهجوم المضاد

القيصر الروسي الأخير نيقولا الثاني

أصدر القيصر مرسومًا ماكرًا في أكتوبر/تشرين الأول 1905 بمنح جانب من صلاحياته المطلقة إلى مجلس تشريعي منتخب (الدوما) يتقاسم معه التشريع مجلس الدولة الذي يختار القيصر نصف أفراده، ووعد بإصلاحات اجتماعية واقتصادية من خلاله.

سبَّب مرسوم أكتوبر/تشرين الأول شقوقًا طولية وعرضية في الجبهة الثورية. فقد رضي به الكثير من العمال والفلاحين والمهنيين، والنخب الليبرالية، وقطاع مؤثر من الماركسيين المعتدلين، الذين رأوه خطوة ولو صغيرة في اتجاه الانقلاب الشيوعي التام.

لم يبقَ في ساحة الصدام سوى الماركسيين الثوريين، أو ما سمي بالجناح البلشفي – بلشفي مشتقة من الأكثرية – للحزب الاشتراكي الديموقراطي، بزعامة لينين وتروتسكي المنظِّر الشيوعي الشهير.

تنفستِ السلطة الصعداء، واستعادت المبادرة هنا وهناك، وفي أواخر العام اعتقلت قيادة سوفيت العاصمة وعلى رأسهم تروتسكي.

تمت الانتخابات ربيع 1906، وفاز بالأكثرية الليبراليون والاشتراكيون المعتدلون. وبدأت الحراكات الثورية المسلحة والمدنيَّة، تخبو شيئًا فشيئًا خاصة مع اشتداد المحاكمات العاجلة للإرهاب والتي أعدمت المئات بالاشتباه ..إلخ.

حلَّ القيصر مجلسيْ دوما خلال 1907 بسبب مطالب ثورية من الأعضاء بقوانينَ لتوزيع الثروة، وتقليص صلاحيات الحكومة والقيصر … إلخ. فُصِّلَ قانون انتخابات على مقاس القيصر والمُلَّاك والملَكيين. فاستمر الدوما الثالث – القريب من القيصر – 5 سنوات. ولم يعتمدْ سوى إصلاحاتِ محدودة لا جذرية؛كقانون الإصلاح الزراعي الجزئي، والذي خلال 10 سنوات استفاد منه 20% فقط من الفلاحين، وكبعض إصلاحات الموازنة.

لكن أسهمت الانفراجة السياسية المحدودة في نشر الوعي السياسي، وتكاثرت الصحف، وزادت معدلات التعليم والثقافة تدريجيًا.. خاصة المدن الكبرى. ولم تخلُ أعوام ما بعد الثورة من إضراباتٍ عمالية أو مظاهراتٍ طلابية هنا وهناك. قابلت السلطة هذا بالقمع، فقتلت 200 من عمال منجم للذهب في إضراب 1912. لتجيشَ النيران تحت الرماد. وكان الاستقرار الداخلي الهش على موعد مع اختبارٍ عسير.


الحرب العظمى والثورة الكاسحة

طالب صربي متعصب يغتال ولي عهد النمسا منتصف 1914. فيبدأ متوالية الأحداث التي انتهت باندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي أتونها روسيا. حشد القيصر ملايين الجنود، ووُضع الاقتصاد المهتز على المحك. فروسيا تحارب على جبهتين واسعتيْن، ضد الألمان والنمساويين والأتراك.

بدايةً، التف الكثيرون حول القيصر والجيش، مع الانتصارات الأولى خاصة ضد الأتراك. لكن بتطاول الحرب، وبالضغط الألماني – النمساوي الشديد، تفاقمت الكارثة الاقتصادية. وأسهم غلق المضائق التركية – الدردنيل والبوسفور – في منع الإمدادات الغذائية من الحلفاء الإنجليز والفرنسيين إلى روسيا الجائعة.

خلال 3 سنوات، كان لدى روسيا ملايين اللاجئين، ومئات آلاف القتلى والجرحى والأسرى. حاولت جبهة تقدمية من النواب وبعض الوزراء القيام بإصلاحاتٍ سياسية؛ لتحسين الأوضاع العامة، وتدعيم الجبهة الداخلية، فعرقلهم القيصر ورجاله. وشدَّد نيقولا قبضته على المقاليد، وأعلن نفسه قائدًا أعلى للجيش، وأقال حكوماتٍ عدة، وظل قرب الجبهات الغربية حتى حدث ما حدث.

وعلى بعد مئات الكيلومترات، كان لينين يتربص في منفاه بسويسرا، فوصل إلى قناعةٍ جازمة أن الحرب انعكاس للرأسمالية الاستعمارية. وأن أوجبَ الواجبات إخراجُ روسيا من الحرب. ولما تجلَّتْ نُذُر الثورة، تواصل لينين مع السلطات الألمانية لتسهل عودته إلى وطنه 1917، ووعدهم بإنهاء الحرب.


1917 عام الثورتين

لم تشفعْ الانتصارات ضد الألمان والنسماويين خلال 1916 للحكومة الروسية. فظروف العمال اللا-إنسانية، وطوابير الخبز اللا-نهائية كانت أصدق أنباءً من المدافع. تفاقمت الإضرابات العمالية، والاحتجاجات الشعبية، وزادها ضِرامًا اعتقال الحكومة لمئات النشطاء والعمال.

في فبراير/شباط 1907، خرجت سان بطرسبيرج عن السيطرة، وكانت القاصمة رفضَ حاميتها أوامر فض التظاهرات. وبعد أسبوعين من التمرد والاضطرابات بشتى أنواعها، اضطر القيصر للاستقالة بعد أن تخلت عنه قيادة الجيش تحت ضغط الثورة، منهيًا 300 عام من حكم قياصرة رومانوف.

أقامت لجنة من البرلمانيين حكومةً مؤقتة. عارضَها التجمع السوفييتي الثوري وعماده البلاشفة الراديكاليون، واتهمها بالرجعية، واللا-ثورية. فأصدر الأخير أمره رقم 1 للجيش بأن يعمل وفق أوامره هو لا الحكومة. وكان هذا تمهيدًا لسحب روسيا بعد أشهر من الحرب. وبدا كأن السوفييت هو السلطة الفعلية في روسيا الثورية.

تغيرت تشكيلة الحكومة عدة مرات، وفشلت في السيطرة على الأمور. فعصفت الاضطرابات بروسيا. منتصف 1917، قاد اليساري الثوري كيرنسكي الحكومة، وأفشل انقلابًا عسكريا ضد الثورة، لكن لم ينجحْ في لجم الفوضى.

تحت شعار «السلام، الأرض، الخبز»، انتشرت شعبية البلاشفة كالنار في الهشيم. ووجدت معارضتهم للحرب صداها، فزاد فرار جنود الجبهات، وتفاقم الغضب ضد حكومة كيرنسكي العاجزة والمصرَّة على الحرب.

وفي أكتوبر 1917 احتل البلاشفة العاصمة، وسقطت روسيا وثورتها في حِجرهم بضربة قاضية، إذ لم تمضِ أمورهم بسلاسة في قابل السنوات.


من الحرب الخارجية إلى الأهلية

نيقولا الثاني، نيقولا، روسيا، الثورة الروسية، الثورة البلشفية، البلاشفة، رومانوف
نيقولا الثاني، نيقولا، روسيا، الثورة الروسية، الثورة البلشفية، البلاشفة، رومانوف

أخرج البلاشفة بزعامة لينين روسيا من الحرب. لكن استبدادهم المطلق بالسلطة، والقمع الجارف لسواهم، أدخل روسيا في حربٍ أهلية طاحنة لـ 3 سنوات. سحق البلاشفة معارضيهم بحملاتٍ الرعب الأحمر التي فاقت كثيرًا قمع السلطات القيصرية البائدة، فأُعدم فيها الآلاف، واعتُقل عشرات الآلاف، منهم الكثيرون من شركاء الثورات الأولى.

كاد لينين يُقتَل 1918 في محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة. بعد سنواتٍ في 1922 اعترف لينين في كتاباته الأخيرة بندمه على الوحشية الزائدة التي أعقبت الثورة البلشفية، وندَّد بالاستبداد المطلق الذي فرضه رجال حزبه، وبالنزعة السلطوية لدى أكثرهم خاصة جوزيف ستالين.

لم تمكن الأقدار لينين من القيام بأية محاولات إصلاحية. فأصيب بجلطات متعددة أعجزته حتى توفي 1924. ليعقبه في الزعامة السوفيتية الديكتاتور الرهيب ستالين، والذي فرض خلال 30 عامًا من حكمه، الستارَ الحديدي على البلدان السوفييتية. وفرض الاتحاد السوفييتي قطبًا ثانيًا للعالم بعد انتصاره الصعب في الحرب العالمية الثانية 39-1945 على جثث 20 مليون سوفييتي مثَّلوا 40% من مجمل خسائرها البشرية.