صيف عام 2006 وتحديدًا في شهر يوليو/تموز كانت «فاطمة شمص» تحزم حقائبها على عجل؛ أسوة بباقي أفراد أسرتها، لمغادرة منزلهم الكائن في قرية «عيتا الشعب» الواقعة على الحدود اللبنانية الفلسطينية، فرارًا من الحرب التي شنتها إسرائيل على بلدها، دون أن تعلم أنها لن تعود إلا بعد أشهر طوال. مشهد عادت السيدة الثلاثينية تستعيده مُجددًا بينما يشخص بصرها صوب أعمدة الدخان المتصاعدة على مرمى حجر منها، جرَّاء قصف إسرائيلي استهدف بعض القرى الجنوبية اللبنانية، بُعيد انطلاق عملية «طوفان الأقصى» من قِبل حركة حماس الفلسطينية.

سعادة غامرة تملكت «فاطمة» وجيرانها بالقرية الحدودية منذ اليوم الأول لانطلاق العملية التي استهدفت المستوطنات الإسرائيلية بغلاف غزة. شرعت في متابعة الأحداث لحظة بلحظة، أخذت تناقش ما يحدث مع الأصدقاء والجيران، يحسبون نتائج المعركة وتباعاتها، يفندون المواقف والتحركات المتتالية، حتى أخذ القلق يشق طريقه إلى قلبها، بعدما لمع في ذهنها سؤال بعينه؛ «هل ستظل المقاومة في لبنان صامتة وغزة تُقصف وتُقتل؟».

النزوح مُجددًا

تحول السؤال سريعًا إلى واقع حينما انطلقت أولى القذائف التابعة لـ «حزب الله» في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، من الجنوب اللبناني باتجاه «مزارع شبعا» التي يعتبرها لبنان أرضًا محتلة، حيث تواجد جيش الاحتلال؛ «كنا بنعرف كليتنا أن الاحتلال راح يرد الضربة»، وما هي إلا ساعات معدودات حتى جاءت الضربة الإسرائيلية مستهدفة المنطقة مصدر ضربة الحزب.

بدأت الأحاديث تدور في منزل «شمص» حول النزوح المؤقت صوب أي من المدن اللبنانية البعيدة عن التصعيد على الحدود؛ «بيي رفض هيدا المقترح … كلنا عنا ذكريات سيئة بالنزوح»، خاصة بعدما نالت آثار «حرب تموز» منزلهم؛ «صار لنا بهدلة وقت حرب تموز … ومن بلد لبلد روحنا حتى خلصت الحرب»؛ لذا تتفهم فاطمة موقف بعض عائلات «عيتا الشعب» التي اتخذت قرارها بالنزوح صوب مدينتي «صور وصيدا» في الجنوب.

«نصف سكان عيتا الشعب نزحوا بعد اعتداءات الاحتلال الأخيرة إلى صور»، حيث وصل أعداد من خرجوا من القرى الحدودية المتاخمة لفلسطين المحتلة هناك إلى 911 نازحًا، توزعوا على مركزي إيواء بقرى المدينة، وذلك حسب وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات قضاء صور.

ثمة صراع من نوع خاص تخوضه الأم اللبنانية لفتاتين، خاصة بعدما تجددت الهجمات الإسرائيلية على قريتها، تقول: «عقلي عم يقول راح نقاوم واللي يصير بده يصير. لكن قلبي خايفان على بناتي»، لتمتثل في النهاية لقرار عائلتها؛ «راح نضل شو ما يصير نحنا ما بنخاف من الإسرائيلي … نحنا بس خيفانين على ولادنا»، لكن في النهاية تدرك فاطمة شمص «إذا ساءت الأمور أكتر راح نفل أكيد».

ثأر قديم

قرار اتخذه «علي الموسوي» منذ أن تعرضت قريته «الظهيرة» الحدودية للقصف الإسرائيلي المرة الأولى. بعين مدركة لجغرافيا المكان الذي يعيش فيه، والذي شهد معارك عدة بين قوات المقاومة اللبنانية وجيش الاحتلال وقت حرب عام 2006، وما تلاها من مناوشات متفرقة، أدرك الرجل الأربعيني أنه ثمة خطر محدق بأسرته في تلك القرية التي انطلق بالقرب منها هجوم صوب الإسرائيليين في الشمال الفلسطيني المحتل في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري؛ أسفر عن إصابة 6 من جيش الاحتلال، وفقًا لما أعلنه الجيش الإسرائيلي، الذي سرعان ما رد على الهجوم بشنه قصفًا نال «الظهيرة» وبعض القرى الجنوبية اللبنانية الأخرى.

لذا اصطحب «الموسوي» أسرته خارج القرية؛ «أخدتن عند أقارب لإلنا بصور … بأمان عايشين هونيك. بس أنا وخيي رجعنا عبيتنا»، قرار شتت شمل الأسرة، لكن سببًا بعينه وراء ذلك؛ «خيي استشهد وقت حرب الـ 2006 على أيد المحتلين، ونحنا هون موجودين إذا إجو … مش راح نترك بيتنا لإلهن شو ما صار». ثأر لم تنسَه عائلة «الموسوي»، تتجهز له من الآن، يزيد من حدة غضبهم ما يتابعونه من قتل ودمار إسرائيلي في غزة بعدما وصلت العملية «طوفان الأقصى» إلى يومها السادس، إذ تجاوز عدد الشهداء 1300 شخص، فيما تخطت أعداد الجرحى 5 آلاف.

«بكل بيت بالجنوب اللبناني راح تلاقي شهيد أو جريح متل أهل غزة»، وكأهل القطاع الفلسطيني يغادر جيران الرجل صاحب الـ 45 ربيعًا، نازحين الواحد تلو الآخر، خاصة بعدما تعرضت القرية لقصف إسرائيلي آخر في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، فيما يتشبث «علي الموسوي» بموقف البقاء في المنزل، بينما لا تتوقف الاتصالات بينه وأسرته في مدينة صور؛ «هن كمان قلقانين علينا … بحاول طمنهم، وطمن حالي عليهم».

خوف عابر للحدود

الحال كان مختلفًا بعض الشيء لدى «مريم فقيه» التي لا تتوقف عن التقاط الصور للقصف والأدخنة الناتجة عنه من نافذة منزلها بقرية «البازورية» الواقعة بصور جنوب لبنان، فهي لا تجد غضاضة في نزوحها من منزلها ريثما تهدأ الأحداث، ولتنجو بأطفالها وبنفسها وزوجها؛ «النزوح مانو عيب … أرواح عيلتي أهم شي بالدنيي». رغم ذلك لم تراوح «مريم» منزلها حتى الآن، خشية مما سيحدث في رحلة النزوح المجهولة.

تردد يخالج «فقيه»، سببه ما انتشر خلال الأيام الماضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من دعوات رافضة لاستقبال سكان الجنوب في بيروت والمدن الأخرى، حال نزوحهم من قراهم؛ «هاي مجرد دعوات … لكنها مخيفة»، أفكار وأشباح تعبر إلى ذهن السيدة صاحبة الـ 38 ربيعًا، بينما تتسمر في نافذة منزلها كلما ارتفعت أصوات القذائف الآتية من القرى المتاخمة، تتابع القذائف، ولتحديد ما إذا اقتربت تلك الهجمات من قريتها؛ «القصف يبعد عنا شي 5 كيلو حتى الآن».

 توتر كبير ينتاب الأم الثلاثينية كلما اشتد القصف الذي يبث الرعب في أطفالها؛ «ما بكون قادرة سيطر عليهن»، فتلجأ إلى طريقة أمها في هدهدة الصغار بحرب تموز؛ «ضليت أعمل متلها بقفل دنتهم بالقطن أو بغني إلهن»، يشتد فزع الأم اللبنانية كلما رأت أمًّا فلسطينية تنتحب، أو تهرول رفقة أطفالها هربًا من الموت؛ «صح قلوبنا معهن … بس كمان الخوف في قلوب الأمهات عابر للحدود».