والسياسةُ نوعان: سياسةٌ ظالمة فالشريعة تُحرّمها، وسياسةٌ عادلة تُخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة.
ابن قيّم الجوزية (ت756هـ) في «الطرق الحكمية»

ثلاثية الفقيه والسلطان والخليفة

تأسيسًا على التجربة البويهية في الدولة التي عاصرها الماوردي (ت: 450هـ) وقد استخلص نتائج تحوّلات الأمر الواقع فيها، وتأسيسًا أيضًا على التجربة السلجوقية التي أدّى فيها الوزير نظام الـمُلْك الطوسي (ت: 485هـ) دورًا رياديًا في التنظيم والإدارة، تشكّلَ نموذج «لدولة سلطانية» حملت شرعيتها من خلال مهمات «الأمير المستولي»/«إمارة التغلّب»، لا سيما في مجال تجنيد الجنود، وحماية الثغور، وحملت انتسابها إلى الشريعة من خلال دور الفقهاء فيها في مجال القضاء والتعليم، وتقلّص أمر الاستخدام الرمزي للخلافة والإمامة، وكان أن حلَّت مكان شرعية الخلافة التي كان يحتاجها السلطان لانتزاع العهد والتفويض، شرعية الأمر الواقع في المهمات السلطانية في المجتمع الإسلامي، وشرعية الهيئات الدينية التي تُضفي على السلطنة الطابع الديني الذي تحتاجه.

كان الجويني يهدف إلى نقد نظرية الماوردي، وكان أكثر واقعية منه في تكييف الواقع، بالاستعاضة عن الخلفاء بالسلاطين السلاجقة.

وتجلت واقعية أبي المعالي الجويني (ت: 487هـ) في توظيفه لأصل مقاصد الإمامة في مباحث السياسة الشرعية الدستورية، هذا الأصل المبني على عنصرين:أحدهما يمثل المعايير الشرعية، والثاني يمثل مراعاة الواقع من خلال ربط تحقق مقاصد الإمامة بفكرة الشوكة وما يحققها من أتباع وأشياع. وقد خطا الجويني في هذا الأمر خطوة أخرى نحو الواقع بالسعي نحو تحقيق مقاصد الإمامة في حدود الإمكانيات التي يسمح بها الواقع السياسي الذي عاصره. فقد قسّم مقاصد الإمامة إلى ضرورية ومكملة، في محاولة لتقديم نظرية إمامة تتكيف مع الواقع، وتحافظ على مقاصد الشريعة من الإمامة بأقصى درجة ممكنة.

أعاد الجويني ترتيب صفات الإمام النموذجي بحسب أهميتها في إطار فكرة مقاصد الإمامة. وبناء عليه فقد تحول شرط الانتماء لقريش الثابت بالإجماع -في زمن الخلو عن الإمام- مجرد شرط تحسيني لا علاقة له بمقاصد الإمامة. وكذلك تصبح صفة الاجتهاد في زمن الخلو عن الإمام النموذجي مجرد صفة حاجية عند الجويني. ومن ثمَّ ووفقا لهذا الترتيب الجديد يمكن لجماعة أهل الحل والعقد اختيار الإمام عند افتقاد الإمام النموذجي.

كان الجويني في «غياث الأمم» يهدف من وراء ذلك إلى نقد نظرية الماوردي الذي سبقه في «الأحكام السلطانية»، وكان أكثر واقعية منه في تكييف الواقع مع نازلة ضعف الخلفاء، بالاستعاضة عنهم بالسلاطين السلاجقة، مع جعل المهمات الدينية في يد الفقهاء، غير آبه لوجود الخليفة المستضعف في ظل السلطان الغالب.

لكن لما كانت شوكة الخلافة ذاتها تتأرجح بين الضعف والاستقلالية المؤقتة في «آخر أيام العباسيين»، وهي المرحلة التي غاب عنها الجويني لوفاته، فإن المماليك اضطروا حين سقطت بغداد في يد المغول سنة 656هـ إلى رد الاعتبار إلى نظرية الماوردي ربما دون وعي منهم، بل للواقع التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي كان يفرض على هؤلاء المماليك المنقلبين على الأيوبيين أن يبحثوا عن شرعية دينية تؤيد سُلطانهم أمام عامة الناس، أو ما سمّاه ابن خلدون بتقوية العصبية بالدين.


ثنائية السلطان والفقيه

حين استقر حكم مصر والشام للسلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البُندقداري (658 – 676هـ)، وأصبحت الدولة المملوكية قلب العالم الإسلامي، وأضحى المماليك القادة الكبار في مقاومة المد المغولي بالانتصار عليه، ومقاومة بقايا الإمارات الصليبية التي عجز خلفاء صلاح الدين من الأيوبيين عن القضاء عليها، وقد قادَ المماليك هذه المهمة بنجاح أيضًا، رضي الناس بوجودهم وشرعيتهم، لتمكنهم من تحقيق مقاصد الخلافة، أو الاجتماع الإسلامي الذي أمسى بمثابة النظام العام.

نظر الفقهاء في العصر المملوكي إلى المسألة السياسية على ما تم التوافق عليه في الحقبة العباسية المتأخرة؛ حيث الإقرار بولاية المستولي/المتغلب.

صحيح أن المماليك استقدموا إلى القاهرة أحد أبناء البيت العباسي ممن نجا من الغزو المغولي على بغداد، وثبت نسبه عند فقهاء مصر، وأعادوا من خلاله وذريته منصب الخلافة العباسية، لكن هذا المنصب لم يكن ذا قيمة تُذكر مقارنة بالحقبة العباسية، ورأى علماء ومؤرخو ذلك العصر هذه الحقيقة ماثلة أمام أعينهم، فكتب المقريزي (ت: 845هـ) قائلاً: «ليس له من الأمر شيء، وحسبُه أن يُقال له أمير المؤمنين»، ولم يبرز من هؤلاء «الدُّمى» إلا الخليفة المستعين بالله الذي خلَف الناصر فرج بن برقوق لأشهر في منصب السلطنة في عام 815هـ لموازنات سياسية بين المماليك أنفسهم، وما لبث أن انتهت مهمته حين أطاح به السلطان المؤيَّد شيخ (815 – 824هـ) من السلطنة دون ضجيج، بل وأطاح به من منصب الخلافة ذاته بمرسوم قُرئ على الناس دون أن يأبهوا له!.

على أن المهمات الدينية كانت لا تزال تقع أعباؤها على علماء الشريعة، ورجال الفقه، وهؤلاء نظروا إلى المسألة السياسية على ما تم التوافق عليه في الحقبة العباسية المتأخرة، والمدونة في كتب الماوردي والجويني والغزالي؛ حيث الإقرار بولاية المستولي/المتغلب مادام يحقق مقاصد الخلافة، وهو ما كان يقوم به المماليك على الوجه الأمثل بإقرار الأمن الداخلي، ومقاومة الأخطار الخارجية، وإقرار ناموس الشريعة والاحتكام إليها من خلال القضاة ونوابهم.

وبهذه المشاركة في الحكم خفّت مسألة الاستبداد السياسي أمام هذا العدد الجم من الفقهاء في الإدارتين القضائية والإدارية.

أولئك الفقهاء الذين كيّفوا مسألة التغلّب وقبلوها كان أكابرهم من قضاة القضاة الشافعية مثل ابن دقيق العيد وبدر الدين بن جماعة وابن حجر العسقلاني وغيرهم، وربما كان تقدّم الشافعية في الوظائف والمناصب والمكانة الدينية على أقرانهم من فقهاء وقضاة المذاهب الأخرى في العصر المملوكي يعود إلى قناعاتهم السياسية التي دوّنها أسلافهم وصارت في مذهبهم وهي «شرعية التغلب بشروطه»، فضلاً عن موالاة العامة في مصر للمذهب الشافعي لكون إمامه الشافعي (ت: 204هـ) قد عاش أخريات حياته، ودوّن «مذهبه الأخير» في مصر، ثم وفاته فيها، وهي اعتبارات سيوسيولوجية وأنثروبولوجية بطبيعة الحال.

إن مما يلحظه الباحث أن الفقيه/القاضي احتل مركزًا مرموقًا في دولة المماليك، ففي مطلع أيام الدولة قام السلطان بيبرس بإصلاحه الشهير؛ حيث جعل في كل مدينة مملوكية كبرى أربعة من قضاة القضاة المذاهب الأربعة. والواقع أن جهاز العلماء في مدة عصر المماليك كان جهازًا موحّدًا يمدّ الدولة بالقضاة ورجال الشرع، كما يمدّها بالمباشرين ورجال الإدارة، فعمل القضاة والمحتسبون في وظائف: كتابة السرّ، ونظارة الجيش، ونظارة الأوقاف، ونظارة الدولة، والحسبة، وكتابة الخزينة، وبهذا المعنى فقد شاركوا طبقة الكُتَّاب القديمة في مواقعها، وأصبحوا جزءًا من الهيئة الحاكمة. وفي نفس الوقت استطاعوا أن يمثّلوا جماهير المدن، ويحفظوا وحدة المجتمع. وبهذه المشاركة في الحكم خفّت مسألة الاستبداد السياسي أمام هذا العدد الجم من الفقهاء في الإدارتين القضائية والإدارية.


إصلاح وإصلاح متطرف!

وبالرغم من ذلك، جنح المماليكُ إلى التعدي والاستبداد بالناس في أوقات الانتقالات السياسية بين سلطانين، أو في حالات القوة المفرطة أو الضعف البيّن للسلاطين، لذا كانت ثمة محاولات إصلاحية قام بها فقهاء آخرون نظروا للمسألة السياسية برمّتها من وجه آخر. لقد رضي هؤلاء الفقهاء «بالسلطنة»، ولم يكن ثمة إشكالية عندهم في أن يحكمهم سلطان أم خليفة، فالأمر عندهم سيان، إلا أن ما أهمهم هو: هل تُحقق هذه السلطات العدالة أم لا؟.

لقد رفع لواء هذه المدرسة الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ) في «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» -وهو الذي عاش في كنف أعظم سلطان مملوكي؛ الناصر محمد بن قلاوون (ت: 741هـ)، وتُوفي في سجنه- وبعض تلامذته من بعده، مثل ابن القيم (ت: 756هـ) في «الطُّرق الحكمية».

لقد كانت فكرة العدالة عند هذه المدرسة هي الالتزام بالشريعة والاتفاق معها.

لقد كانت فكرة العدالة عند هذه المدرسة هي الالتزام بالشريعة والاتفاق معها، والسياسة نوعان كما يقول ابن القيّم: «سياسة ظالمة، فالشريعة تُحرّمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة». والحق أن هذه الدعوة لتحقيق العدالة كانت مقاومة فكرية لقانون «الياسا» الذي تعود أصوله إلى جنكيز خان زعيم المغول، وكان المماليك الأتراك يحتكمون إليها فيما بينهم، وفي فترات الانحطاط والضعف كانوا يلجأون إليها للحكم بين عامة الناس في افتئات منهم على منصب القضاء، وبل وافتئات على الشرع ذاته بالاحتكام إلى قوانين وضعية لأول مرة في تاريخ القضاء الإسلامي!.

ومن الطريف بيانه وعلى الجهة المقابلة، نجد أن هنالك محاولة تطرّفت في مسألة «التغلب»، وطالبت السلاطين المماليك بتنحية الفقهاء الشافعية عن صدارة المشهد الديني والقضائي؛ لأنهم قيّدوا السلاطين عن أداء مهماتهم! ودعا صاحب هذه المحاولة إلى الاستعاضة عنهم بالفقهاء الحنفية؛ بحجة أن السلاطين أنفسهم كانوا من الحنفية، ولأن المذهب الحنفي هو «الأوفق للسلطة والسلطان»، وكان صاحب هذا النداء هو الفقيه الحنفي نجم الدين الطرَسوسي (ت: 758هـ) في كتابه «تُحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في الـمُلْك».

وبهذا نرى أن مسألة «الشرعية» في هذه الحقبة كانت قد ترسّخت من خلال ثنائية (الفقيه – السلطان) وهي ثنائية مقاربتها الندية، فضلاً عن الاستقلالية العلمية والمالية للفقهاء، وهو ما تجلى أثره لا على المسألة السياسية فقط، بل في المسألة العلمية والثقافية أيضًا، وانتشار لافت للمدارس «الكليات» والجوامع والرُّبط وخزائن الكتب، ومن ثم هذا القدر الكبير في إنتاج الكتب والموسوعات في ذلك العصر، وهو الميراث الذي لا تخفى دلالاته السياسية بلا شك.

في مقالنا القادم والأخير في هذه السلسلة سنقف إن شاء الله مع الفقيه في نموذج جديد من نماذج الدولة السلطانية الأخيرة في التجربة الإسلامية، وهي الدولة العثمانية، لنرى كيف أسهم جمود هذا الفقيه في بعض أشد فترات الحاجة إلى الإصلاح والتجديد، وانكفائه على نفسه، وتضييقه للاجتهاد، إلى ضياع هذه الدولة وسقوطها في نهاية المطاف!.

المراجع
  1. * انظر على سبيل المثال: عصر الخليفة الناصر العباسي (575 – 622هـ) في كتابنا "آخر أيام العباسيين" ضمن "رحلة الخلافة العباسية"، الطبعة الأولى، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع – القاهرة، 2013.
  2. 1. الطيب بن حرز الله: أثر إمام الحرمين الجويني في الفقه الإسلامي "الدستوري والمالي والجنائي، مجلة البحوث والدراسات- جامعة باتنة (الجزائر)، 2009م.
  3. 2. خالد زيادة: من المماليك إلى العثمانيين؛ الفقيه في مرحلة الانتقال بين عصرين، مجلة الاجتهاد، العدد الرابع – بيروت، صيف 1989م.
  4. 3. هنري لاووست: نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع، المجلد الأول، دار الأنصار – القاهرة، 1976م.
  5. 4. المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان – لندن.
  6. 5. وجيه كوثراني: الفقيه والسلطان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الرابعة – بيروت، 2015م.