الفارق بين العمل الحقيقي والمزيف، تمامًا كالفارق بين المجوهرات الحقيقية والمزيفة، الأخيرة دائمًا يبرقونها لمعانًا حتى تبدو كأنها حقيقية، إلا أن زيفها يفضح أمرها في النهاية .. هكذا الفرق بين حكام المسلمين الأوائل ومن نعاصرهم الآن، الذين يتعاملون معنا كأننا أصنام تختبئ بين طيات فيلم كوميدي.

في الوقت الذي يتجنب فيه حكام العرب والمسلمين، أي حديث عن برامجهم السياسية والاقتصادية، باعتبارهم مرشحي الضرورة، كان خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، يمتلك مشروعًا اقتصاديًا وإنسانيًا ضخمًا، استطاع من خلاله في عامين فقط تحويل «شبه دولة» ينخر الفساد في أركانها من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، إلى معجزة صارت حديث التاريخ .


كيف أعاد عمر الحياة للدولة الإسلامية؟

تولى خامس الخلفاء مقاليد الحكم، والدولة الإسلامية تعج بالاضطرابات السياسية، والانقسامات الاجتماعية، وتسببت الفوضى السياسية في هدم اقتصاد الدولة، من جراء فساد الإدارة وانحلال القيم، مما ترك عبئا هائلاً على حركة الاقتصاد، وهو الأمر الذي وصفه عمر بن عبد العزيز بعبقرية نادرة، في قولته الشهيرة: «الوليد بالشام، وقرة بمصر، والحجاج بالعراق، وعثمان بن حيان بالحجاز، امتلأت الأرض والله جورًا».

قضى أمير المؤمنين حياته مُنعمًا بأقصى درجات الرفاهية، ولكن أسلوب حياته لم يقف عقبة أمامه في فرض قيمه الإنسانية والفكرية على أجواء شديدة الظلمة، بين الاضطراب السياسي والتهافت الخارجي الطامع في مقدرات الأمة، وبدأ خطة عاجلة للإصلاح بتوسيع موارد الدولة، وبناء رأس مالها المستقل، وإعادة توزيع الدخل توزيعًا عادلاً، حتى يصبح المال في متناول جميع طبقات المجتمع.

ربما لا يمكننا في هذه المساحة نقل البرنامج الاقتصادي الكامل، لخامس الخلفاء الراشدين، ولكن الاسترشاد بمجرد لمحات من مجموعة مفاهيم إنسانية لعمر بن عبد العزيز، تجعلنا نفهم كيف أضاءت التوجهات السياسية والاقتصادية لرجل لم يكمل أكثر من 24 شهرًا في حكم خلافة مترامية الأطراف، وجعلته يدرك أن سوء الحالة الاقتصادية للإنسان، من أخطر المشاكل التي تواجهه، لاسيما وأن الاستقرار في مناحي الحياة الأخرى، مرتبط بالوضع الاقتصادي، ولا يمكن تحقيق أدنى درجاته المقبولة، في ظل فساد إداري ومالي، يؤثر مباشرة على حركة المجتمع بأكمله.


إعلان الطوارئ.. خطة عمر للارتقاء بالدولة

لم يكن لدى بن عبد العزيز عصا سحرية، توزع الرخاء على الأمة الإسلامية، ولكنه استنهض الهمم بالأفعال قبل الأقوال، ولم يضع أحلامه على أعتاب المتخاذلين، ولم ينصع إلى رغبات الطامعين، فنهضت الأمة بأسرها في زمن قياسي، بفضل خطة متكاملة لبناء نظام للدولة، يكفل بترتيب الأوضاع الاقتصادية، ويتجاوز كل المعوقات، ويجني اكتفاءً ذاتياً ووفراً مالياً ثابتاً، عبر الاعتماد على المكتسبات الثابتة والممكنات المتغيرة.

وأعلن أمير المؤمنين الجديد حالة الطوارئ، وطبق أول بنودها على نفسه، حيث أرسل إلى نسائه يقول لهن: من أرادت منكن الدنيا فلتلحق بأهلها فإن عمر قد جاءه شغل شاغل، ثم كتب إلى الحسن البصري يقول: إني قد ابتليت بهذا الأمر فانظروا إليّ أعوانًا يعينوني عليه.

أدرك عمر، أن الإنسان هو محور العملية الاقتصادية، ولا يمكن الارتقاء به، إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية، بحيث لا يستبد الغني في غناه، ولا يتردى الفقير بفقره، فأعلن بعض المبادئ لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل وشامل، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية، لتحقيق الرفاهية الاجتماعية.


العدل.. معنى الدولة في القاموس العمري

اعتبر أمير المؤمنين، أن تحقيق الاستقرار الكامل للدولة سياسيًا واقتصاديًا، لن يكون إلا من خلال العدل، وتجلي ذلك في جوابه علي ما كتب إليه أحد الولاة يستشيره قائلاً: مدينتنا خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمها به، ليرد عليه عمر: حصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم، فإقامة العدل أهم من إقامة البناء، مع العدل سعة، ومع الظلم ضيق ومشقة.

كان يري خامس الخلفاء أن الظلم عواقبه وخيمة، بداية من إثباط الهمم، نهاية بالإعاقة عن المشاركة والاندماج في البناء الشامل، فضلاً عن تأثيره على شعور المظلومين بالانتماء إلى المجتمع، لذا عمل على رفع المظالم، من خلال «تبييض السجون» وإخراج جميع المساجين، فالسجن بالنسبة لحفيد ابن الخطاب، غالبًا ما يكون مستقراً للمظلومين أو لمن ارتكب جرماً لا يستدعي هذه العقوبة، أو فعلاً يستحق تلك العقوبة، ولكنه رأى أن العفو عنهم سيكون له أثره الأبلغ في الإصلاح، وأخرج بالفعل جميع من في السجون، ولم يدخلها أحد في عهده إلا رجل كان يزور الدنانير.

واهتم الخليفة الذي يتذوق معني العدل، بمراجعة الأحكام السابقة الظالمة، والتي ترتب عليها إهدار حقوق الناس، ولم يكن يحصر ذلك على المسلمين وحدهم، بل رفع الظلم في سياسة بن عبد العزيز، شمل كل من يعيش في كنف الدولة الإسلامية، والذين كان يعتبرهم رقمًا مهمًا في عملية التكافل والبناء الاجتماعي، وطبق ذلك عمليًا عندما أعاد كنيسة في دمشق إلى النصارى، وكان أحد الأمراء احتجزها لنفسه، فأخرجه منها عمر وأعادها إلى أصحابها فورًا .

كما اتخذ عمر قرارات عاجلة بإعادة الأموال التي سُلبت من أصحابها ظلمًا، واعتبر وجودها في بيت مال المسلمين، لعنة تحول دون مشاركة أصحابها في مشروعات التنمية، بل إنها ستبقى في ذاكرة المجتمع مؤشراً سلبياً على ثقة الناس في إقامة العدل، فمن لا يصلح القديم لن يحسن في الجديد.


إبعاد حاشية السوء

أدرك بن عبد العزيز جيدًا خطورة بطانة السوء، لذا عمل على تحصين أعوانه ضد منافقته، وظهر ذلك من خلال توصيته لأحد ولاته «عمرو بن مهاجر» وقال فيها: يا عمرو إذا رأيتني ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم هزني بقوة وقل لي ماذا تصنع.

نهج أمير المؤمنين في اختيار رجاله، الاستقرار علي بطانة صالحة، وكان يهدف من ذلك لمنع الفساد واستئصاله من البلاد، ولم يكن هناك أبرز من رسالة الجراح بن عبد الله إلى عمر، التي استأذنه فيها باستخدام السوط والسيف لإصلاح أهل خراسان، باعتباره الحل الوحيد معهم.

فكتب إليه عمر علي الفور مكذبًا رؤيته في الإصلاح قائلا:


هدم عقيدة العنف مع بني الإنسان

جاهد عمر بن عبد العزيز، في هدم أفكار العنف والمسالك السائدة في التعامل مع الإنسان حتى لو كانت الشعارات المرفوعة إعادة إصلاحه وهدايته إلى الطريق المستقيم، فالشخصية المقهورة أو المهانة لن تكون صالحة الانتماء.

وركز الخليفة جهوده، علي نقد السياسات الاقتصادية السابقة، التي أهملت التنمية، وكانت كتاباته للولاة تظهر ذلك، ومنها ما كتبه إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن والي الكوفة يقول له: «سلام عليك أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام وسنن خبيثة سنتها عليهم عمال السوء، وإن أقوم الدين العدل والإحسان، أي لا تحمل عناصر التنمية فوق طاقتهم، لأن ما زاد على طاقتهم سيكون سبباً إلى ترك مجالات التنمية، وترك الأرض».

أدرك خامس الخلفاء، ضرورة الوصول بالحياة في الدولة الإسلامية إلى مستوى الرفاهية، عبر تحقيق وفرة الإنتاج، وعدالة التوزيع، وتحقيق الكفاية لكل فرد، إلى جانب سيادة الأمن في المجتمع، وكان في ذلك دائمًا ما يستشهد بالآية القرآنية: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ .. 112: النحل.

واعتبر حفيد عمر بن الخطاب، أن الإصلاح الاقتصادي لن يكون بإهدار المال وتبديد الثروة، فلا بد من معالجة للوضع الخطأ، وكانت منهجية عمر توزيع الدخل على جميع أفراد المجتمع، وقد عمل لتحقيق هذا الأمر من خلال عدة تصورات تلخصت في الآتي:


تحرير الموازنة العامة من الأعباء والروتين

لقد كذبت بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم

كانت موازنة الدولة، محملة بأعباء ببعض الاستحقاقات اليومية أو المرحلية لبعض الأفراد، مما تسبب في إهدار أموال المسلمين، خاصة وأن البعض قبل تولي عمر، كان يعتبرها مكسباً شخصياً وثابتًا له ولأهل الحظوة، ولا يخضع مكاسبه للتغيرات الاقتصادية للدولة، وهو الأمر الذي أوقفه بن عبد العزيز، وسن مجموعة إصلاحات تلخصت في مراجعة الاستحقاقات المالية لذوي الامتيازات الخاصة ووقفها.

كما أوقف كافة الامتيازات التي كانت تمنح للمقربين للخلافة، دون أن يكون هناك جهد يستدعي مثل هذه النفقات، ولم يستثن منها حتي أقرباءه، ولم يكتف بذلك، بل عمل على مصادرة الأموال التي حصل عليها بعض الأفراد، بغير وجه حق وإعادتها إلى بيت المال، وخاصة أموال الأعطيات، وأول ما استرجع كان عطاء زوجته من والدها.

لم يسرف بن عبد العزيز في النفقات الخاصة به، ولم يستغل وظيفته في استخدام الأموال العامة، والتي إن استفاد منها هو كشخص، سيكون سوّغ استخدامها لكل من تستطع يده الوصول إليها، من أفراد الدولة، وخاصة كبار الموظفين.

وأعطى خامس الخلفاء الراشدين درسًا للجميع في التجرد، فخفض تكلفة حرس الخليفة الذين كان يبلغ عددهم ثلاثمائة حارس، وثلاثمائة شرطي، ونظر عمر إلى هذا الكم من الحرس، ووجد فيهم زيادة على الحاجة الطبيعية لهذه المهمة الوظيفية إلا أن الاستغناء عن خدماتهم فيه مضيعة اجتماعية لهم، بينما إبقاؤهم يؤثر على رأس المال، مما يعد فسادًا لا يمكن تحمل تبعاته .

وقدر عمر حاجة الوظيفة كلها بثلاثة آلاف دينار، تقسم على 12 دينارًا للفرد، ومن رغب بالاستمرار منهم فله ذلك، وفتح المجال في الوقت نفسه لمن يريد أن يترك مكانه.

بمجموعة ضوابط إنسانية، ورقي أخلاقي، وانضباط نفسي وسلوكي وديني، استطاع ابن عبد العزيز في 24 شهرًا القضاء على جيوب الفقر، ولم يعد لأحد من المواطنين حاجة، حتى قيل إن الرجل كان يخرج زكاة ماله، ولا يجد أحدًا يقبلها، بعد أن أوجد عمر حلولاً لمشكلة العجز المالي والمديونية، التي كانت تعاني منها الدولة، في عهد عبد الملك بن مروان .

حقق عمر رفاهية اجتماعية غير مسبوقة للمجتمع الإسلامـي، وفاض المال في سنوات حكمه عن الحاجات الخاصة والعامة، بعد أن عالج مديونية الأفراد من الوفر المالي في الموازنة، ورتب دائرة خاصة لمتابعة هذه القضايا على المستوى المحلي لكل ولاية، لصون الاستقرار الاجتماعي، لدرجة أنه عين مناديًا يتجول كل يوم قائلاً: أين الغارمون، أين الناكحون، أين المساكين، أين اليتامى، لقضاء حاجتهم من بيت المال.

كما استحدث دائرة متجولة، تتفقد أحوال المجتمع على مستوى الولايات، لعله يجد من هو بحاجة إلى العون، مما يعني أن الذين لم يحصلوا على كافة حقوقهم لأي سبب، ستحمل الدولة حقوقهم كاملة إليهم في مدنهم وقراهم .

نجح «عدل عمر» في تعزيز الالتزام الطوعي للمواطنين بقوانين الدولة، بعدما أقام جسورًا من الثقة بينهم وبين مؤسسات الحكم والإدارة، وحقق ما لم يوفره حكام العصر الحديث، على كثرة عناصر إنتاجه وتنوعها، وسط تقدم علمي رهيب يتطور كل يوم، ونفذ أهدافه دون أن يمتلك أذرعًا إعلامية، تشوه أفكار الشعب وتخصي الأذهان، وترك لنا تراثًا عطرًا لا يمكن أن يماري فيه إنسان، رحم الله عمر .

المراجع
  1. أسس التنمية الشاملة في المنهج الإسلامي
  2. الاستخراج لأحكام الخراج
  3. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
  4. بداية المجتهد ونهاية المقتصد