كان شمال الهند تحت حكم دولة المماليك- دولة أخرى غير دولة المماليك في مصر- عندما اجتاحت جحافل المغول قارة آسيا من أقصاها إلى أقصاها، ونجت الهند من هذا الغزو بعد صد جيش جنكيزخان في البنجاب، وبعد موته تفككت مملكته وتصارع خلفاؤه فيما بينهم وسادت الفوضى في وسط آسيا وتعرضت الهند لغزوات مغولية عديدة نجحت في صدها جميعًا إلى أن جاء تيمور لنك وقاد المغول وعاث في الهند فسادًا، وحكمت البلاد بعده ممالك صغيرة إلى أن استطاع أمير مسلم يدعى بابر (ت: 1530م)، أن يؤسس المملكة التيمورية التي شهدت الهند تحت حكمها عصرًا ذهبيًا وأصبحت إحدى القوى الدولية الكبرى في ذلك الوقت.

المملكة التيمورية المغولية

كان بابر ينتمي إلى نسل تيمور لنك وجنكيز خان واستطاع من خلال تدبيره العسكري أن يستولي على دلهي بجيش عدده 12 ألف مقاتل في مقابل جيش يبلغ تعداده مائة ألف في معركة باني بت عام 1526، وبعد وفاته تسلم ابنه همايون (ت: 1556م) الحكم وهو صغير السن، فما لبث أن فقده بعد أن ثارت عليه الممالك الأخرى فهرب إلى بلاد فارس واستطاع بمعاونة الشاه الإيراني، طهماسب (ت: 1576م)، أن يستعيد عرشه بجيش يبلغ 15 ألف مقاتل هزم 80 ألفًا من أعدائه في تكرار لتجربة أبيه.

لكن همايون مات بعدها بأشهر تاركًا الحكم لطفله جلال الدين أكبر (ت: 1605م) الذي كان حينها في بلاد البنجاب فوثب أحد الملوك الذين هزمهم أبوه على دلهي واستولى عليها قبل أن يصل أكبر منتهزًا فرصة خلو العرش، فاضطر أكبر لتكرار تجربة أبيه وجده وواجه أعداءه الذين بلغ عددهم مائة ألف بعشرين ألف جندي فقط في موقعة باني بت الثانية، حتى استعاد ملكه واستطاع خلال عهده الذي امتد لخمسين سنة أن يوسع المملكة بشكل كبير ويضم إليها العديد من الإمارات، وفي عهده بدأت اللغة الأردية في الظهور من خليط اللغات الفارسية والعربية والتركية، وتم إحياء اللغة السنسكريتية القديمة والتقاليد الهندوسية والتأسيس لدولة قومية علمانية في الهند، وهو ما تم إبطاله على يد ابنه جهانكير (ت: 1627م) الذي تولى السلطة بعده.

وبعد موت جهانكير تغلب ابنه شاه جهان (ت: 1666م) على شقيقه شهريار، وشهدت الهند في عهده نهضة معمارية استثنائية ما زالت آثارها باقية إلى اليوم وتعد فخر الحقبة الإسلامية في الهند مثل القلعة الحمراء والمسجد الجامع في دلهي وتاج محل على ضفاف نهر جمنا الذي أنفق عليه أموالًا طائلة وفاءً لقصة حبه لزوجته ممتاز محل، وتوصف هذه الآثار من شدة جمالها بأن مهما قيل فيها فإنه لا يبلغ روعتها التي يدركها المرء بالمعاينة رغم ما تعرضت له من نهب وانتقاص.

وخلف شاه جهان ابنه أورانكزيب (ت: 1707م) الذي حكم شبه القارة الهندية كلها تقريبًا وما حولها مما لم يجتمع لأحد قبله ولا بعده، واشتهر في التاريخ بلقب سادس الخلفاء الراشدين، إذ كان صارمًا في تطبيق الشريعة وكان يعتاش على صناعة الطواقي وكتابة المصاحف وبيعها كي لا يأخذ شيئًا من بيت المال! وعلت هيبته في البلاد القريبة منه حتى كان الآباء يخوفون أبناءهم بذكر اسمه، وفقا لما ذكره الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه «الإسلام في الهند».

وقضى أورانكزيب على مملكة كولكندة الشيعية في جنوب وسط شبه القارة الهندية، وألغى كثيرًا من الضرائب والرسوم مما لا أصل له في الشرع الإسلامي، وأعاد فرض الجزية على الهندوس، لذا يحظى اليوم بالقدر الأعظم من التهجم على تاريخه وتشويه شخصيته ويذكره رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، وكبار المسئولين كثيرًا في خطاباتهم وقد يشبهون أي سياسي يختلف معهم بهذا السلطان كنوع من الإهانة، وتتناول سيرته أعمال درامية وأدبية وبحثية تتشارك جميعًا في الحط منه وأحيانًا كثيرة من المملكة التيمورية ككل.

وعلى العكس من الكراهية التي حظي بها أورانكزيب، فإن السلطان جلال الدين أكبر، جد والده، حظي بتقدير المستشرقين الأوروبيين والمؤرخين الهنود وأشادوا به كثيرًا ، ويلقب في التاريخ بـ«أكبر العظيم» وهو لقب لم يرتبط في التاريخ الهندي إلا به وبالملك أشوكا (حكم بين 273-232ق.م)، نظرًا لما أبداه من صنوف التسامح تجاه الهندوس حتى أنه ألغى الجزية عنهم وولاهم كبرى المناصب في الدولة وارتدى أزياءهم واحتفل بأعيادهم وزوج بناتهم لأبنائه وكبار المسئولين وحرم ذبح البقر وسار على مبدأ أن الهند للهنود فصبغ حكمه بصبغة قومية متحررة من الدين ودعا إلى ترك تعاليم الشريعة الإسلامية.

وحاول توحيد رعاياه على دين توافقي سماه الدين الإلهي وشيد دارًا لممارسة هذا الدين سماها «عبادت خانة»، عظم فيه الشمس والنار وأقر بتناسخ الأرواح (أي انتقالها من جسد لجسد عبر الأجيال) تأثرًا بالهندوسية، ورخص للأوروبيين نشر الإرساليات التبشيرية بين أبناء شعبه، وأسس للسيخ عاصمتهم الروحية أمريتسار في إقليم البنجاب، وقد كانت آنذاك ديانة حديثة النشأة.

وكانت البلاد في هذا العصر أقوى ما تكون رغم الاختلافات الكبيرة بين الحكام المتعاقبين، لكن المملكة كانت قد بلغت من الغنى والازدهار حدًا أسطوريًا تحت حكم المغول التيموريين فكان بلدًا صناعيًا ينتج الحديد والنسيج ويتفاخر الأوروبيون باقتناء منتجاته الفاخرة، وفاقت المدن الهندية مثل مرشد آباد وأحمد آباد عواصم أوروبا في جمالها وتقدمها.

وكتب العديد من السلاطين المغول مذكراتهم الشخصية وتركوا تراثًا أدبيًا وفنيًا غنيًا يظهر ما وصلت إليه البلاد في عهدهم من ازدهار إذ كان السلاطين يوزنون بالذهب في الأعياد ثم يتصدقون بقيمته على الفقراء والمساكين وينثرون الأموال على رعيتهم خلال سير مواكبهم ويجلسون إلى العامة ليستطلعوا أحوالهم، واشتهروا بنظمهم الإدارية والسياسية الفريدة حتى أضحت البلاد في ظلهم مضرب المثل في الغنى والفخامة، وضمت مراكز علمية كبرى انتعشت فيها حركة الترجمة والتأليف والتدريس وانتشرت آثارها حتى بلغت القرى والقفار البعيدة.

انهيار الحكم الإسلامي في الهند

جريًا على عادة الدهر ما إن يبلغ البنيان تمامه حتى يبدأ في النقصان والتراجع؛ فبعد عهد أورانكزيب تعاقب على الحكم أشخاص لم يكونوا على نفس مقدار من سبقوهم، وتزايد نفوذ الشركات الأجنبية بشكل لم يكن السلاطين الأقوياء يتخيلونه، ففي البداية عملت الشركات الهولندية والبرتغالية بشكل محدود في ظل فترة قوة الدولة ولحقهم الإنجليز ثم الفرنسيون.

وفي البداية حاول الملك الإنجليزي جيمس الأول إيجاد موطئ قدم له في الهند في عهد الملك المغولي جهانكير عبر سفيره هوكينز، فقيل له وقتها إن «ملك إنجلترا ليس سوى سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون بائسون» وفقًا لما وثقه المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه «حضارات الهند»، وخلال سنتين ونصف فشل هوكينز في أن يحصل على أي رسالة لمَلِكِه، إذ قال له كبير وزراء شاه جهانكير، إنه «لا يناسب قدر ملك مغولي أن يكتب إلى أمير صغير كملك إنجلترا»، لكن شركة الهند الشرقية الإنجليزية لم تيأس حتى استطاعت أن تفتتح أعمالها في غرب الهند في عهد السفير توماس رو، ويعتب المؤرخون على السلطان جهانكير تسامحه مع التجار الأوروبيين، الأمر الذي مهد لهم توطيد نفوذهم في البلاد لاحقًا وجلب المقاتلين بحجة حراسة المخازن والمراكز التجارية حتى أصبحوا قوة عسكرية منظمة.

وتعاقب على الهند سلاطين مغول ضعفاء ورثوا الحكم ولم تحنكهم التجارب فاستنزفتهم الصراعات الداخلية وتمردات الأقاليم وتعرضت لغزو نادر شاه الأفشاري (ت:1747) حاكم إيران، وعلا شأن الهندوس حتى أصبحوا يتحكمون في تعيين السلاطين، وزاد نفوذ الشركتين الإنجليزية والفرنسية حتى أصبحتا تنازعان الدولة سلطتها وظهرت أكثر من إمارة مستقلة.

ووقعت بين الإنجليز وأمير البنغال مصادمات انتهت بهزيمته في معركة بلاسي عام 1757، وحاول السلطان شاه عالم الثاني (ت:1806) مواجهتهم فانهزم أمامهم هو وحلفاؤه في موقعة بُكسر عام 1764 التي شكلت بداية النهاية لدولة المغول التيموريين، فاستولوا على بلاد شاسعة مقابل خراج يؤدونه للسلطان، وأصبحوا القوة ضاربة في شبه القارة، وبلغ من نفوذهم أنهم فرضوا على شاه عالم أن يمنحهم مرسومًا يخولهم القيام بإدارة البلاد نظير مبلغ يؤدونه له بمثابة راتب شهري عام 1804 قبل أن يموت بسنتين، وعلى هذا سار خلفيتاه محمد أكبر الثاني وبهادُر شاه ليس لهم من السلطة إلا اسمها.

وقضى الإنجليز على النفوذ الفرنسي، ووجه اللورد كايننج الحاكم الإنجليزي العام في الهند إنذارًا إلى بهادر شاه بأنه سيكون آخر ملك مسلم في السلطة وأن القلعة الحمراء ستتحول بعد وفاته إلى ثكنة عسكرية لجيش الاحتلال فوقع الخبر على الهنود كالصاعقة رغم رمزيته فإنهم كانوا كمن جاءه خبر وفاة والده المريض المقعد، فعم الغضب أنحاء البلاد وانتفضت الأقاليم تباعًا ضد الاحتلال عام 1857 وتجمع المسلمون والهندوس تحت راية بهادُر شاه الذي كان آنذاك بلغ من الكبر عتيًا ولا يقوى على تحمل هذه المهمة.

وأصدر العلماء في دلهي فتوى بوجوب الجهاد وثار الأهالي من الديانات المختلفة ضد الإنجليز لكن غياب التنظيم والتنسيق وضعف القيادة وتأخر الأقاليم في الثورة بسبب المسافة الشاسعة التي تفصلها عن دلهي، كل هذه العوامل مكنت الإنجليز بمعاونة طائفة السيخ من سحق الثورة بوحشية، وتفننوا في التنكيل بهم فكانوا يخيطون جلود الخنزير بأجسادهم ويشعلون فيها النيران وهم أحياء، ولم يفرقوا كثيرًا بين من ثار ومن لم يثر، فنفذوا محارق جماعية شملت الأطفال والنساء، وعمت المجازر مدن الهند حتى اضطر الحاكم العام للهند لإصدار تعليمات صارمة لضباطه بوقف تنفيذ المجازر الجماعية وعمليات إحراق القرى بعد أن خربت نواح كثيرة من كثرة القتل.

وقبض الإنجليز على السلطان وقطعوا رؤوس أبنائه وعلقوا أجسادهم على بوابة عُرفت فيما بعد باسم «خوني دروازة» أي بوابة الدم، وقدموا لأبيهم على مائدة الطعام في محبسه طبقًا مغطى فلما كشف عنه إذا به يجد رؤوس أبنائه الثلاثة ملطخة بالدماء، وتم نفيه بعد محاكمة قصيرة إلى مدينة رانجون في ميانمار حيث مات فيها عام 1862 عن عمر 89 سنة، ليسدل الستار على الحقبة التيمورية والحكم الإسلامي نهائيًا في الهند.

وفي عام 1943 سافر سوبهاش تشاندرا بوس، زعيم حزب المؤتمر الوطني الراحل ومؤسس الجيش الهندي، إلى قبر السلطان بهادر شاه في ميانمار وأدى أمامه التحية العسكرية وتعهد بمواصلة كفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي حتى يطرده خارج الهند وهو ما تحقق بعد ذلك بأربع سنوات.