بصفته فيلسوفًا تجريبيًا يقول بالحس كمصدر للمعرفة، وبالاستقراء عن طريق الملاحظة والتجربة كوسيلة لها، يرفض جون ستيوارت مل تأسيس الأخلاق على مبادئ أولية (قَبْلِية) (a priori)، أي التصور الفوري للمبادئ الأخلاقية باعتبارها فطرية (خالدة في الطبيعة البشرية)، وسابقة على الوجود الاجتماعي.

إن المشاعر الأخلاقية كما يرى مل مكتسبة وليست فطرية، أي أنها ليست حاضرة في أذهاننا منذ ولادتنا، إنها ليست متعالية، أي ليست خالدة ولا محفورة بصيغة ثابتة في الطبيعة البشرية، ولا ذات سلطة عليها، وليست موضوعية، أي أنها لا تملك وجودًا مستقلًا عن الإدراك الشخصي، إن لها وجودًا فقط داخل ذواتنا، لكنه رغم ذلك وجود طبيعي، وذلك لأنها تنبثق بصفة طبيعية (تكاد تكون ضرورية) بحيث يكون لها القدرة على النمو والتطور بفضل التثقيف، بالطريقة التي تكون فيها قدرة البشر على الزراعة أو بناء المباني مكتسبة لكن طبيعية كذلك.

ما هو إذًا مصدر الإلزام والشعور بالواجب الأخلاقي لدى النفعية في ظل انعدام المبادئ الأولية اللازمة التي يقوم عليها ذلك الشعور؟

إن ذلك المصدر يتمثل في الدوافع والمصالح المشتركة التي تجمع البشر، وفي الشعور المشترك بالكرامة.

إذا ما تم الاعتراف بالسعادة العامة مثلًا أخلاقيًا أعلى، فإن ذلك يؤسس لصيغة من المشاعر الاجتماعية القائمة على التلاحم بين الأفراد الذي يرغب فيه البشر تلقائيًا لأنه بمثابة مبدأ قوي قائم في الطبيعة البشرية، وذلك اعتمادًا على المقولة الأرسطية «الحيوان كائن اجتماعي»، فهو لا يتصور نفسه إلا عضوًا داخل مجموعة، مما يجعله مُلتزِمًا بتخيل مصير مشترك. إن الوحدة العضوية للمجتمع تخلق وحدة عضوية لمصير الفرد، وذلك لأن «حالة الأشياء» التي يجدها الإنسان في المجتمع أثناء بدايات إدراكه له هي التي تحدد شروط وجوده (أي الإنسان)، وبالتالي فهي تخلق تطابقًا إلى حد كبير بين مصيره ومصير المجتمع.

إن واقعة احتياج الإنسان للآخرين لإدارة شئون حياته، وبالتالي تعاونه معهم،تجعل أهدافه بمرور الوقت مماثلة لأهدافهم، وتدفعه إلى مماثلة مشاعره مع مشاعرهم أو على الأقل مراعاتها. يذهب مل لأبعد من ذلك حين يقول بأن ذلك التعاون «يعطي لكل فرد مصلحة شخصية قوية في الاهتمام برفاهية الآخرين»[1]، مما يجعل من وعي الفرد بنفسه ككائن مهتم بمصالح الآخرين، شيئًا شبه غريزي. كما أن التأسيس السياسي لمجتمع قائم على المساواة يجعل أي اجتماع بشري مستحيلًا إذا لم يكن قائمًا على مراعاة مصالح الجميع (ولو نظريًا على أسوأ الأحوال).

إن الدفاع عن النفس والإحساس بالتعاطف هي مشاعر غريزية في الإنسان، وامتياز البشر عن الحيوانات يتمثل في قدرتهم على التعاطف مع كل البشر، بل مع كل الكائنات الحاسّة. وبإضافة ذكائه الأرقى، يصبح الإنسان قادرًا على تحقيق مصحلة مشتركة ضمن مجتمعه بالاعتماد على التعاطف والذكاء اللذين يحركانه لأجل الوقوف ضد أي فعل يهدد سلامته، حيث إنه مدفوع بالغريزة للدفاع عن نفسه، وضد الأفعال التي قد تهدد سلامة الآخرين، لأنه مدفوع بالتعاطف معهم، ولأن ذلك التعاطف يمثل أحد أشكال دفاعه عن نفسه ضد التهديدات المماثلة التي قد يتعرض لها في المستقبل إن هو قبل بتعرض الآخرين لها الآن؛ إنها مجددًا فكرة المصير المشترك. ويمكن قياس ذلك على الأفعال التي بإمكانها تهديد سعادة المجتمع، أو التسبب في إحداث ألم لإثبات فاعلية المبدأ النفعي.

فإذا ما تم ذلك، يمكن للمجتمع الوصول إلى ما يشبه «وحدة الوعي»، وهو ذلك الإحساس بالوحدة مع الكائنات المماثلة، وهو ما يعني أخذ مصالحها بعين الاعتبار؛ إنها الحالة التي يدرك فيها الفرد أفعال الآخرين كانعكاسات لأفعاله، أي أن فعله الخاص يصبح صورة لما سيقوم به الآخرون تجاهه. وبالتالي، تصبح مسألة السعادة العامة مسألة شعور بالواجب طبيعي مشترك، ومُتجذِر في طبائع البشر السلوكية على أساس يخدم مصلحة الفرد الشخصية (الأنانية)، وهو استبطان لجوهر القاعدة المسيحية الذهبية كما يصفها مل ويَعدّها أيضًا بمثابة «الروح التام للأخلاق النفعية» التي تقول: «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا».

تقع السعادة إذًا ضمن إطار تجتمع فيه «المشاعر الخاصة، والعبقرية، والاهتمام الصادق بالمصلحة العامة»، وذلك لأن الأخيرة تضمن تمتع الجميع بحقهم الفردي والعادل في تجنب المصادر الكبرى للشقاء المادي والمعنوي التي هي: الفقر والمرض والقسوة، إلى جانب حيازة نصيبهم من المتطلبات الفكرية والأخلاقية. إن أكبر سعادة ممكنة لأكبر عدد من الناس هي ضمان إذًا لسعادة الفرد الشخصية، لأنها تضمن شروط ازدهاره الخاص حيث بإمكانه تحقيق اللذة وتجنب الألم بأكبر قدر ممكن.

كما أنه بإمكان الفرد أن يحقق متعة في الصراع نفسه من أجل التغلب على مصادر الشقاء البشري، متعة قد تفوق تلك المتعة الناتجة من مجرد إشباع الأنانية الفردية التي يراها مل كأحد سببين لجعل الحياة غير مُرضية (إلى جانب انعدام الثقافة الفكرية التي هي أي فكر تم تعليمه بغض النظر عن مستواه)، تلك المصادر التي يمكن هزيمتها عبر «الرعاية والمجهود الإنساني» بحيث يتحمل الأفراد الذين سيصيرون (مع تقدم الإرادة والمعرفة) أكثر قبولًا لتحمل جزء ولو كان ضئيلًا من ذلك المجهود المشترك من أجل تحقيق شروط ازدهارهم، بحيث يجدون في ذلك متعة تؤدي في المقابل إلى ازدهارهم أثناء عملية الصراع نفسها.

كيف يُوفّق مل إذًا بين إمكانية طغيان توجه اللذة الفردي (الأنانية الفردية البحتة) والصالح العام؟

إنها المسألة التي تعود إلى تطور «الحس الأخلاقي»، الذي يُعوّل مل كثيرًا في تنميته على التربية والثقافة العامة النامية في مناخ ديمقراطي، حيث المناقشة الحرة تتيح لكافة الآراء حول كل شيء وبالطبع حول السعادة والأخلاق طرح وتقوية نفسها، تلك المناقشة التي ستطرح جانبًا مع الوقت التصورات الخاطئة (التي لم تثبت فاعليتها) عن اللذة والأفعال الأخلاقية المرغوبة من غير المرغوبة، لكن بشرط ألا تتقيد عملية المناقشة والطرح بضغوط الحياة العملية، وضغوط إما الأغلبية، أو الفئة (أيًا كان عددها) المتسلطة والمنحازة بشكل مسبق لمجموعة من التصورات الأخلاقية المحسومة.

لا تُولد المجتمعات ديمقراطية، وإنما تصير ديمقراطية، وبالتالي فإنها لا تولد وفي وعيها المستوى المطلوب من إدراك المصلحة العامة من قبل الأفراد، وإنما تنمو ديمقراطيتها وحريتها، وما يتبعهما من نمو هذا الإدراك عبر التعلم والتثقف السياسيين، اللذين تكفلهما الحرية السياسية كشرط قَبْلي أول لبناء مجتمع متمتع بحرية ونزاهة أخلاقية حقيقية، تلك الحرية التي تتضمن حرية التعبير، وخوض النقاشات العامة، والمشاركة بأقصى درجة ممكنة في أمور الحكم، لقد كان مِل من كبار المتشككين في سلطتين كفيلتين بسحق حرية الفرد، واستقلاليته الأخلاقية، وهما: الحكومة، والرأي العام.

لقد أكد مِل أن سلطة الحكومة يجب أن تكون «مُحددة بحزم»، وأن ممارسة أمور الحكم بواسطة الشعب، عبر المؤسسات البلدية والشعبية، والمجتمع المدني بشكل عام، وعبر المحاكم ضمن هيئات المُحلَفين، هي «جزء من عملية التعليم السياسي لشعب حر، لأخذهم خارج الدائرة الضيقة للأنانية الشخصية والعائلية، وتعويدهم على استيعاب المصالح المشتركة، ومعالجة دواعي الاهتمام المشتركة-تعويدهم على التصرف بدوافع عامة أو شبه عامة، وتوجيه أفعالهم نحو أهداف توحدهم»[2].

إن اعتماد مل على المسئولية الفردية، والتي تُرّقيها حرية استخدام الإنسان مصادر السعادة التي بين يديه، دون وصاية أخلاقية من قبل الحكومة أو الرأي العام، بحيث يتعود الإنسان مع الوقت والتربية الحسنة والتثقيف على استخدام المصادر الأكثر انسجامًا مع مصلحة المجتمع، بينما حرية استخدام تلك المصادر تقترن بمقدارالحرية السياسية والشخصية التي يحظى بها الفرد، ضد طغيان الحكومة والرأي العام، بحيث لا يفرض عليه أحدهما بالقوة الصريحة أو بالطغيان المعنوي سلوكًا أخلاقيًا معينًا، كل ذلك جعله يعتمد على قدرة الفرد في أن يكون «مُحايدًا كل الحياد» حين يُوفّق بين سعادته الخاصة وسعادة الآخرين.


التأكيد على السعادة

يعارض فلاسفة أخلاقيون آخرون المبدأ الأرسطي الذي تُقره النفعية، والقائل بأن الغاية القصوى لكل الأفعال البشرية هي السعادة، وهم يقولون في المقابل بإمكانية أن يكون الفعل البشري موجهًا نحو غاية أخرى، أو أن يكون دون غاية.

لدينا الشهيد، أو بطل الحرب المجهول، والذي يضحي بذاته دون بحث عن سعادته الشخصية، فهل ما زالت السعادة حقًا تدفعه إلى القيام بفعل التضحية؟

يرى مل، وذلك على عكس بنثام، أن البطل أو الشهيد نفسه، وإن لم يفعل ما فعل لأجل سعادته الشخصية، فإنه لم يزل يفعله من أجل غاية السعادة، لكنها سعادة الآخرين هذه المرة؛ إنه يتخلى عن نصيبه من السعادة أو جزء من نصيبه فيها، لأجل سعادة عدد أكبر من الناس. إنه، أي البطل أو الشهيد، «يساهم في زيادة نسبة السعادة في الكون»، الفعل الذي يُمثل، أرقى الفضائل، فضيلة ذلك الذي ضحى بسعادته المطلقة من أجل خدمة السعادة الشخصية للآخرين، مع تحفظ مل الذي يرى أن التضحية يجب أن تكون واعية ومعقولة، وتقع في مرحلة ينتقل فيها المجتمع إلى حالة أفضل، بحيث يصبح بالنهاية غنيًا عن التضحيات.

حتى التضحية إذًا تندرج في إطار المنفعة في المقام الأول، وليست ناتجة عن إلزام أخلاقي ما، وبتطبيق مبدأ المنفعة فإن «التضحية التي لا تُنمّي أو التي لا تسعى إلى تنمية المقدار العام للسعادة، هي تضحية لا طائل من ورائها»، أي فعل خارج إطار الأخلاق، بحيث يمكن التجرؤ على وصفه بـ«اللأخلاقي»، لأنه ضحى بكلتا السعادتين: سعادة الفرد الخاصة، والسعادة العامة.

وبعيدًا عن الشهداء والأبطال، فإن مل يقلب فرضية «الفعل دون سعادة» بصفته فعلًا خاليًا من تحقق اللذة (السعادة)، فهو يرى أن ذلك النوع من الأفعال قد يقدم أقصى إمكانية لتحقيق السعادة، لأن الإنسان حينئذ يفقد قلقه المتعلق بما هو طارئ من أحداث أو صدف سيئة وشريرة تهدد مسيرته إلى السعادة، بينما يفعل دون انشغال بالتساؤل حول صحة تحقيقه السعادة من عدمها، أو عن مدى السعادة التي حققها، وبالتالي فإن «القَدَر» لا يملك سلطة لإرضاخه، لأن الإنسان متسامٍ فوق اعتبارات القدر، يتقبل المشاعر الحسنة حيثما تراوده دون قلق بشأن فنائها، ويمضي في حياته دون قلق بشأن قدومها إليه مجددًا.

يظل المقياس المرجعي للأخلاق النفعية هو أكبر قدر من السعادة لأكثر عدد من الناس (تأكيدًا على مبدأ بنثام القديم) لكن مجددًا مع التمييز «الكيفي» بين اللذات، وهي الإضافة الأساسية لمل، لأن بنثام ركز على الكم دون اعتبار الاختلافات بين الأفراد.

إن الاتجاه العام للنفعية هو التأكيد على «عدم وجود علاقة بين دافع الفعل وأخلاقيته»، حيث يُفرّق مل جوهريًا بين النية، أي ما يهدف إليه من وراء الفعل، والدافع، أي الشعور المصاحب للقيام بالفعل، وبما أن ذلك الشعور لا يُحدِث تغييرًا في الفعل نفسه، فإن الدافع يصبح بلا تأثير في الحكم بمدى أخلاقية الفعل من عدمها، بحيث لا يُحدث شيئًا في الأخلاق.

ذلك على عكس مذهب الواجب الكانطي(الخصم الأول للنفعية) والذي يقول بأنه لكي يكون الفعل أخلاقيًا، ولكي يكون هناك أخلاق من الأساس، فإنه يلزم للفعل أن يصدر عن الشعور بالواجب، أو اتباع القانون الأخلاقي الداخلي (الأزلي).

يرفض مل ذلك على اعتبار أن 99% من أفعالنا تتحقق بناءً على دوافع أخرى. في الوقت الذي يقدم فيه تفسيرًا آخر للمبدأ الكانطي القائل: «افعل بكيفية تتحول بها قاعدة السلوك إلى قانون بالنسبة لكل الكائنات العاقلة»، ويؤكد عبر تفسيره حضور مصلحة النوع البشري في ذهن الفاعل في أثناء تقريره الحكم على أخلاقية الفعل، لأن القاعدة التي نتمنى لجميع البشر أن يسلكوها ستتفق بالضرورة مع المصلحة المشتركة بيننا، وإلا فإن جميع البشر لن يقبلوها، وقبولها يعني أنها تضمن المنفعة المشتركة، وبذلك فإن قاعدة كانط تتضمن بصورة مفاجئة جانبًا نفعيًا.


الدين والإله الراغب في السعادة

ترفض النفعية الاعتقادات الأخلاقية القائمة على أساس ديني، ذلك لأن الأخيرة قائمة بالأساس على الإلزام، والخوف، والطاعة، ما يتعارض مع الطرح النفعي المرتكز على السعادة/اللذة/تخفيض الألم. وعلى الكرامة الشخصية التي تناقض الطاعة.

لقد نبتت أخلاق اتساع الأفق والشعور بالشرف من تربتنا الإنسانية لا الدينية كما يرى مل، وذلك لأن «الطاعة السلبية» التي لا يمكنها استحداث تصوراتها الخاصة لأخلاق خارج إطار السلطة التي تُوجهها لم تكن لتنتج مثل تلك المشاعر المناهضة للخضوع السلبي للسلطة.

رغم ذلك، يحتفظ مل برؤية عميقة للعلاقة بين تصور أخلاقي للإله قد يتفق مع النفعية من حيث المبدأ، وتقوم تلك الرؤية على الاعتقاد القائل بأن الله يرغب قبل كل اعتبار في سعادة مخلوقاته.

ترفض النفعية بالطبع القانون الأخلاقي الأعلي المنقول من الوحي، لكن مل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك التصور عن الوحي باتجاه الاعتماد على مفاهيم الحكمة والطيبة الإلهيتين، فهو يرى أن أيًا مما قد تصوره الإله حول موضوع الأخلاق وهو يبعث الوحي فإنه يناسب بالضرورة (من حيث المبدأ أو الغاية) مقتضيات المنفعة في درجة أعلى، وأنه بالأخذ بذلك الاعتقاد فإن «النفعية ستكون نظرية دينية في أعماقها أكثر من أي نظرية أخرى»؛ لكن مع التأكيد في المقابل على حرية البحث الأخلاقي للفيلسوف النفعي خارج أُطر اللاهوت الديني: القَبْلِية، والسلبية، والقامعة.


الغاية أم الوسيلة؟

إن التشديد النفعي على أن السعادة هي الموضوع الأساسي للرغبة ولكل فعل بشري، لا يعني إنكار قيمة الغايات الأخرى بصفتها مواضيع للرغبة، أي إنكار قيمتها الخاصة بها. إن الغايات الأخرى هي وسائل أقرب لأن تكون جزءًا مكونًا للسعادة، حتى أنها قد تطغى على الغاية القصوى فتصبح الوسيلة غاية بحد ذاتها. إن المال هو الدليل الأكبر على ذلك، حيث تصير رغبة امتلاكه أكبر من رغبة استخدامه، وفي حالة الشهرة أو السلطة فإن اللذة المصاحبة لهما تصبح جلية للحد الذي لا يمكن إنكاره، بغض النظر عن الغايات الأعلى التي تمثل الشهرة أو السلطة وسائل لها، فإنها تصبح جزءًا أو شكلًا من أشكال السعادة.

يذهب مل في لحظة معينة إلى حد القضاء على مبدأ اعتبار السعادة غايًة قصوى، بتأكيده على كونها فكرة مجردة، وعلى أن السعادة لا يمكن أن تكون سوى كل ما هو محسوس، أو مُدرَك في الحاضر، لكنه يؤكد أن ذلك ممكن فقط، لأن الوسيلة لا تصبح موضوعًا مرغوبًا فيه إلا حين تصبح جزءًا مكونًا من الشعور بالسعادة التي يصبو الإنسان إليها كغاية قصوى.

إن الرغبة في شيء ما، هي ما يدعو الإنسان للفعل، وتظل السعادة بصفتها الغاية القصوى هي وحدة بناء الرغبة، كما أن تحقيق الغايات الأخرى (التي هي وسائل) لا يمثل سوى سعادات جزئية، أو مكونات للسعادة التي لم تزل غاية قصوى، باعتبارها تحققًا للذة وغياب الألم.

تظل السعادة غاية عليا إلى الدرجة التي لا يمكن معها عزل حتى الفضيلة عن مفاهيم اللذة والألم. لأنه كي تقوى الفضيلة، فإنه لا بد من التفكير في أن في وجودها متعة، كما أن في غيابها ألمًا.


الفضيلة

لا تُقدس «النفعية» الفضيلة باعتبارها قيمة مطلقة أو متعالية، فهي تبتعد بقدر الإمكان عن تحديد من هو الإنسان الفاضل، كما أنها ترى الفضيلة صفة إلى جانب صفات أخرى جيدة قد يمتلكها الإنسان وتجعله محبوبًا أو مرغوبًا. يعتقد مل أن «فعل الخير لا يدل بالضرورة على طبيعة فاضلة»، ومع ذلك فهو يوافق على كون الأفعال الطيبة على المدى البعيد هي خير دليل على طبع جيد. إن الفضيلة عند مل هي نتاج الإرادة، والإرادة في المقام الأول هي ابنة الرغبة في السعادة /اللذة، وهي فيما بعد ابنة العادة (كما هي عند أرسطو).

لكن عند مرحلة معينة قد تنفصل الإرادة عن الرغبة، إلى درجة إبطالها غائية الرغبة (أي السعادة)، لصالح غائيتها الخاصة، أي مجرد الفعل: فعل الفضيلة ذاته، بغض النظر عن نتاجها من السعادة، فتتحول الإرادة بحكم العادة إلى محرك لفعل أشياء ليست الرغبة بالضرورة متوجهة إليها.

إن تصور أن الإرادة قد تُفعل كغاية لذاتها، وليس لتحقيق سعادة، ليس تصورًا سيئًا بالضرورة،فهو قد يتفق مع السعي لتحقيق الخير، لأن العادة التي تَتبع وتتكوّن من إرادة فعل الخير (المنفصلة عن البحث عن السعادة) تُمثل «قاعدة قوية للتعويل على مشاعرنا، وسلوكنا، وسلوك ومشاعر الآخرين»[3] في بناء أخلاقي يشمل الجميع، ويوفر لهم شروط تحقيق خيرهم، وبالتالي سعادتهم.


التعلم من تجربة طويلة

ليست النفعية عاجزة عن الاتفاق على ما هو نافع ، وهي قادرة على تفعيله عبر الرأي العام في ظل مناخ ديمقراطي، تتيح فيه المناقشة الحرة للأفكار وعملية الانتخاب فيما بينها (أي الأفكار) الوصول إلى أفضل السلوكيات الأخلاقية.

وليس هناك داعٍ أيضًا للقلق بخصوص «ضيق الوقت» المتاح لتقدير النتائج المترتبة على الأفعال قبل القيام بها، حيث يؤكد مل في مقابل ذلك أن هناك مُتسعًا من الوقت للتقدير الأخلاقي النفعي؛ المُتسع الذي يمثله كل ما مضى من تجربة الجنس البشري التي منحتنا خبرة النزاعات الخاصة بالأفعال وما قد ينتج عنها، وليس على البشرية أن تكتشف مجددًا – وكأنها تفعل ذلك لأول مرة – كم أن القتل مثلًا مُضر بسعادتها؛ لأنها قد اكتسبت بمرور الوقت «قناعات جازمة حول تأثير بعض الأفعال على سعادتها»[4].

كما أن النفعية لا تشجع التخلي عن كل «وسيلة إرشادية» أو «إشارية». إن المبادئ الثانوية ضرورية لكل الأنساق الأخلاقية كما أن إشارات السير ضرورية لكل مسافر على حد وصف مل. لذلك تعتمد النفعية على بُعد النظر لدى البشر الذي يُمكنّهم من توجيه أنفسهم، كما أن إنكار المبادىء الأولية/القَبلِية للأخلاق لا يعني إنكار حقيقة أن الإنسانية قد اكتسبت «استخلاصات عامة من تجربة الحياة» في طريق تقدمها الأخلاقي.

المراجع
  1. جون ستيوات مل، النفعية، ترجمة: سعاد شاهرلي. (المنظمة العربية للترجمة – بيروت، ص72).
  2. مفاهيم الليبرتارية وروادها 1: التشكيك في السلطة، ترجمة: صلاح عبد الحق، مراجعة: فادي حدادين (رياض الريس للنشر – بيروت، ص58)
  3. النفعية، مصدر سابق، ص84.
  4. النفعية، مصدر سابق، ص61.