كشفت الكاتبة المصرية حنان حماد، عن دهاليز مجتمع العمال وما نجم عنه من أمراض مجتمعية لا أخلاقية، عبر استعراض تاريخ ظهور عصر الصناعة، وأثره على التحول الاجتماعي والاقتصادي المصري، من خلال دراسة نماذج من العمال العاملين في شركة مصر للغزل والنسيج بمدينة المحلة الكبرى في دلتا مصر.

وفازت «حماد»، الأستاذ المساعد لتاريخ الشرق الأوسط بجامعة تكساس، بجائزتين أمريكيتين، عن كتابها «الجنسانية الصناعية.. النوع والتحضر والتحول الاجتماعي في مصر»، وهما جائزة «الكتاب العربي الأمريكي» لعام 2017، التي تم تأسيسها عام 2006 برعاية «المتحف الوطني الأمريكي» للاحتفال بكتب الكُتَّاب الأمريكيين من أصل عربي، لرفع الوعي بأهمية المنح الدراسية، وبالكتابة العربية الأمريكية، بالإضافة إلى جائزة «المنظمة القومية لدراسات المرأة».

يُذكر أن الدكتورة حنان حماد أمريكية من أصل مصري، حاصلة على ماجستير في دراسات الشرق الأوسط من جامعة تكساس عام 2004، ودكتوراه في التاريخ من ذات الجامعة عام 2009، وهي أستاذ مساعد لتاريخ الشرق الأوسط بجامعة تكساس المسيحية، وتهتم بتدريس التحول الاجتماعي والسياسي بالشرق الأوسط وتأثير ذلك على وضع النساء.

وكتبت عشرات الأبحاث والمقالات الأكاديمية تدور حول الحضارة الإسلامية، بالإضافة إلى الحديث عن مصر بين الثورات، وتاريخ إيران الثورية، وصعود داعش، وتشكيل المنطقة العربية.

الجنسانية الصناعية
الجنسانية الصناعية

قصة الصناعة المصرية الحديثة

شهدت حياة ملايين من المصريين بمختلف الشرائح والأعمار في السنوات بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تحولات جذرية، حيث ساهمت الحياة الحضرية في انتقال المجتمع من مهن الفلاحين والحرفيين إلى المصانع، في سبيل حرصهم على العيش في أماكن جديدة ومستوى حضاري مختلف.

وشهد النصف الأول من القرن العشرين تغييرا اجتماعيا بارزا في تاريخ الصناعة الوطنية، بفضل نضال نخب الأعمال لخلق صناعة مستقلة في البلاد، حيث شُكلت قوة عمالية صناعية ساهمت في تحفيز النمو الاقتصادي.

وتكشف سجلات شركة مصر للغزل والنسيج، والملفات الأرشيفية بالمحاكم المحلية، تجارب النساء المصريات في فترة النمو الحضري القائم على التصنيع في مدينة المحلة الكبرى بدلتا النيل، حيث تعتبر واحدة من المدن الإقليمية الأكثر ارتباطًا بالصناعة في مصر والتي نمت خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين.

وتعتبر شركة «مصر للغزل والنسيج» أكبر منشأة صناعية في مصر، وأضخم شركة من نوعها في أفريقيا والشرق الأوسط على مساحة أكثر من 600 فدان، ويعمل بها 16500 عامل بمدينة المحلة الكبرى على بعد حوالي 120 كم شمال القاهرة.

وتأسست الشركة على يد طلعت حرب باشا عام 1927 كإحدى شركات بنك مصر، برأس مال قدره 300,000 جنيه، تزيد تدريجيًا ليصبح سنة 1958 أربعة ملايين جنيه، وحاليًا يصل إلى مليار ونصف المليار جنيه.

بدأت شركة مصر للغزل والنسيج إنتاجها عام 1930م وكان عدد مغازلها 12,200 مغزل وصلت إلى 300,000 مغزل تضمهم ستة مصانع للغزل، وتقوم بإنتاج وتصدير منتجات نسيجية مصنوعة من القطن المصري الخالص.

وتكشف «حماد» في كتابها، لمحات في حياة الرجال والنساء من الطبقة العاملة، خلال فترة الانتقال إلى الحياة الحضارية في المصانع، والذي أثر على الهوية الذكورية والأنثوية، ما انعكس بشكل واضح على ثقافة الجنس والأخلاق العامة، ومن هنا نشأت قصة صناعة الحضارة المصرية الحديثة.


الحياة بالمصنع: جنس وانحرافات خلقية

لعب العمال الصناعيون، والنساجون، والباعة المتجولون، والفلاحون من الطبقة الدنيا، والبغايا، دورًا رئيسيًا في تشكيل التجربة المصرية للحداثة، حيث دفعت الحياة الصناعية بما تحويها من تسلسل هرمي مجتمعي، آلاف الرجال والنساء والأطفال إلى العمل تحت سلطة رجال غير مألوفين، ما أوجد ممارسات غير أخلاقية مثل التحرش الجنسي، والعنف ضد الأطفال، والبغاء، والشذوذ الجنسي، وشيوع العلاقات بشكل معلن بين الجنسين خارج إطار الزواج.

ونشأت تلك الممارسات في الحياة الصناعية الحديثة، نتيجة العنف المندلع بين سكان الحضر وعمال المصانع، حيث إن العمال القادمين من المناطق الريفية انغمسوا في التقاليد والثقافة الحضارية للمجتمع الصناعي، مما أوجد العداء المتبادل مع سكان المدن.

وزاد الأمر التباسًا، مع عدم وجود الخصوصية وزيادة الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين عمال المصانع، وأصبحت الحياة الجنسية عرضة للشيوع العلني والتفاخر الذكوري، والنتيجة أن ظهرت أنجع وسيلة للتفاوض على المنازعات الناشئة بين العمال، من خلال فضح الحياة الجنسية.

وفي ظل اجتذاب قطاع إنتاج المنسوجات عشرات الآلاف من القادمين الجدد إلى المدينة، ظهرت خلال تلك المرحلة أشكال العمل الأخرى، بما في ذلك العمل بالجنس، وكانت مدينة المحلة تشهد ترخيص ا للبغاء في أواخر القرن التاسع عشر، ويبدو أن أهالي المحلة كانوا متسامحين مع ما حدث في الأحياء الحضرية المكرسة لتجارة الجنس، على عكس القاهرة والإسكندرية حيث كانت تجارة الجنس غالبًا ما ترتبط بالأجانب.


الحياة الصناعية و«انسحاق» المرأة العاملة

فتحت المصانع المزيد من الفرص للنساء الريفيات للانخراط في الحياة الحضرية، من خلال استغلال النمو غير المسبوق في طلبات الإقامة الرخيصة الثمن، الذي مكّن النساء من الطبقات الشعبية في الاتجاه إلى سكن العمال للاستثمار عبر إقامة أعمالهن التجارية الخاصة من أجل تزويد العمال بالأغذية والشراب والسلع والخدمات الرخيصة الأخرى.

وساهمت المرأة الريفية مساهمة كبيرة في تشكيل التحول الاجتماعي والاقتصادي، حيث إن عمل النساء من الطبقة الدنيا جعلهنّ يتولين مناصب قوية داخل أسرهن مكنتهن من التمرد على تقاليد المجتمع «الذكوري» في القرى.

ولم يكن تشكيل عنصر نسوي وسط الطبقة العاملة أمرًا هينًا، فخضعت المرأة للتسلسل الهرمي الصناعي القسري، وواجهن السلطتين الرأسمالية والبطريركية داخل المصنع وخارجه، وشكّلت النساء أقل من 10% من موظفي شركة الغزل والنسيج، وتركزت أعمالهن في وظائف غير مرموقة، وأصرت الشركة على توظيف النساء غير المتزوجات،ونادرًا ما سُمح للمرأة العاملة بالحصول على مهارات أكبر لتولي مراكز أكثر أهمية.

وفي حال اكتسب البعض من الطبقة العمالية النسوية المهارات اللازمة لتشغيل الآلات الحديثة، وحازوا على تجارب مهمة في التعامل مع نظام الإدارة بالمصنع، فإنهن يحصلن على أدنى مركز بين العمال في التسلسل الهرمي الصناعي الذي يهيمن عليه الرجال بالأساس.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت الدراسة أن كثيرًا من المشرفين المباشرين على الموظفات بشركة الغزل والنسيج بالمحلة، استخدموا لغة مسيئة وإيذاء بدنيا لتأديب العمال من النساء، ما جعلهن يتعرضن لمزيد من أشكال التحرش الجنسي، لذا صارت أخلاقهن عرضة للشك والريبة.

حدّتْ تلك العوامل، من وجهة نظر المؤلف، من دخول المرأة الريفية للمجتمع الصناعي، بالنظر لظروف العمل الصعبة والتي تعتمد بالأساس على العمل اليدوي والآلات القديمة، بالإضافة إلى انخفاض الأجور والوصمة المجتمعية السيئة للمرأة العاملة.