«اللانهاية» مفهوم حارت فيه العقول منذ القِدَم، فهو ليس شيئًا يمكن العثور عليه تجريبيًا في الواقع، ولا في خبراتنا أو ملاحظتنا أو معارفنا الحسية، ومع ذلك فهو مُسَلَّمة رياضية في نظرية المجموعات والتي تعتبر أساس وجوهر الرياضيات الحديثة، والتي نحتاجها في العديد من الإثباتات الرياضية الأساسية لكل تقدمنا الرياضي البحت كنظرية الأعداد التي تشمل الأعداد لما لانهاية أو حتى في الرياضيات التطبيقية كالتفاضل والتكامل؛ التي يستعملها العلماء في وضع نماذج رياضية لظواهر الكون حتى نفهمها ونستطيع التنبؤ بها رياضيًا.

لكن هل يُمكن للعقل أن يفكر في أشياء تختلف عن الواقع لحد التناقض؟، هل يمكن لعمليات التفكير أن تكون على عكس العمليات الفعلية للأشياء؟، وهل نحن نفكر حقًا في اللانهاية الفعلية، أم أننا نظن ذلك لمجرد أن عقولنا تواجه ظواهر وأفكارًا ذات أبعاد ضخمة للغاية وصغيرة للغاية في الواقع؟، فالبشر لا يستطيعون استيعاب اللانهاية لأنه مفهوم يجب أن يحتوي على عدد لا حصر له من المفاهيم الفرعية، والتي هي كثيرة جدًا بالنسبة لعقولنا المحدودة. فكيف يمكن أن نفكر ونتحدث عن مفهوم مثل ذلك؟.


النهائيون

كان من الطبيعي أن يظهر تيار وسط الرياضيين، يسمى بالنهائيين، يرفض مفهوم اللانهاية ويعتبره بمثابة هراء أو مفهوم لا يمكن البرهنة على وجوده عقليًا في خطوات محدودة؛ أي ككل العمليات العقلية الأخرى، ولهذا فأي محاولة لاستعماله هي قفزة إيمانية، غير منطقية، لابد أن نحمي الرياضيات منها. وكان الطريق لذلك هو إثبات أن استعمال مفهوم النهاية يسبب تناقضات رياضية ومنطقية.

وهو ما كان يظنه الكثيرون لسببين: أولًا، كما قلنا سابقًا، عدم قدرة العقل المحدود على استيعاب مفهوم اللانهاية. وثانيًا، الظن أن استعمال اللانهاية يتسبب في تناقضات كتناقض الفناء الرياضي؛ فأي رقم يتم جمعه على اللانهاية يساوي لانهاية، أيًا كانت قيمة هذا الرقم. وكأن اللانهاية تفني أي رقم يتم حسابه معها بأي طريقة، على عكس بقية الأرقام، ولهذا تم اعتبار اللانهاية مفهومًا متناقضًا.

ولكن الحقيقة أنه يوجد العديد من الأسباب العملية والفلسفية التي تجعل مفهوم اللانهاية ضرورة رياضية لا غنى عنها، كما سنرى لاحقًا. وسنجد أيضًا أن تطور الحكم على مفهوم اللانهاية من الرفض القاطع وحتى اعتباره مسلمة رياضية، قد تداخل مع تطور الفلسفة ومع الدين وتصور الإله، كأدلة لرفض مفهوم اللانهاية في بعض الأحيان، أو في الاقتناع في أحيان أخرى. فالرياضيات كما وصفها اللورد كيلفن «هي الميتافيزيقا الصحيحة الوحيدة»، ولهذا سيوجد دائمًا تأويل ديني لأفكارها.


الفيثاغورية

تبدأ القصة في المدرسة الفيثاغورية – أتباع فيثاغورس الفيلسوف والرياضي الإغريقي – والتي كانت تعاليمها الأساسية قائمة على أن الأرقام هي جوهر الأشياء كلها؛ فالرياضيات هي نسيج الكون الخفي عن كل عين والواضح لكل عقل. والظواهر الكونية كلها عبارة عن علاقات ونسب رياضية تظهر كأعداد صحيحة أو كسرية، توضح خصائص الأشياء في الكون. وتحولت الفيثاغورية من منهج فلسفي للبحث إلى ما يشبه الديانة.

فكان من الطبيعي أن الهرطقة في ديانة الأرقام تكون بالإتيان برقم في صورة جديدة لا يمكن تحويله لعدد من الأعداد الصحيحة أو الكسرية. وهو ما حدث بالفعل على يد هيباسوس، الذي طبق نظرية فيثاغورس في المثلث ذي الزاوية القائمة على مثلث متساوي الساقين، وطول ضلعيه 1 سم وبالتالي يكون طول وتره هو الجذر التربيعي لـ2 وبذلك اكتشف أول عدد غير كسري وهو الجذر التربيعي لرقم 2، والذي يتكون من عدد لانهائي من الأعداد ويساوى بالتقريب: 1.414، وبهذا فقد حطَّمَ بفكرته كل فلسفة المدرسة الفيثاغورية القائمة على أن كل الأعداد في الكون واضحة ومحدودة، وبالتالي، لا بد وأن تكون هذه الأعداد صحيحة أو كسرية.

وتقول الأسطورة بأنه اكتشف ذلك السر وهو على سطح مركب في عرض البحر، فلما أذاعه على زملائه ألقوه في البحر لأنه مهرطق، ويقال إنه تم نفيه لجزيرة نائية حتى مات. ويعتبر اكتشاف الأعداد غير الكسرية كثابت الدائرة (PI) أول مؤشر لوجود اللانهاية الرياضية.

ثابت الدائرة
ثابت الدائرة

مفارقات زينون

لكن أول من أشار إلى أن مفهوم اللانهاية يسبب تناقضات هو زينون الإيلي في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما قام بتقديم مجموعة من المشاكل الفلسفية لإثبات أنه لا يوجد أي تغير وأن الحركة وهم طبقًا لمذهب بارمينيدس الفيلسوف الإغريقي. وتدور المفارقات التسع التي وصلتنا منه حول نقطة مركزية هي التقسيم اللانهائي للزمان والمكان. وسنكتفي بذكر واحدة لبيان المقصود:

افترض أن شخصًا ما يريد الوصول لنهاية طريقٍ ما. قبل أن يستطيع الوصول إلى هناك، فعليه أن يصل إلى منتصف المسافة. وقبل أن يستطيع الوصول لمنتصف المسافة، عليه أن يصل إلى ربع المسافة. وقبل الوصول إلى ربع المسافة، عليه أن يصل إلى ثمن المسافة، وقبل الثمن، واحد على ستة عشر، وهلم جرًا حتى مالانهاية. وبالتالي فمستحيل أن يصل؛ لأن عليه أن يخطو عددًا لانهائيًا من الخطوات، ولهذا فإن الحركة وهم. وتوجد نفس المفارقة قديمًا أيضًا عند مدرسة فلسفية صينية تسمى «الموهية» بالصيغة التالية: «عصا طولها قدم، كل يوم تقطع نصفها، في عدد لا يحصى من الأعمار لن تنتهي».

مفارقات زينون
مفارقات زينون

أرسطو

حاول أرسطو أن يأخذ موقفًا وسطًا بين رافضي «اللانهاية» وبين المقتنعين بها، وهي ما تعتبر أول خطوة فلسفية في إيضاح مفهوم اللانهاية، بالتمييز بين مفهومين مختلفين من اللانهاية: اللانهاية الفعلية واللانهاية المحتملة. فاللانهاية الفعلية هي اللانهاية كشيء محدد، مكتمل ويتألف من عدد لا نهائي من العناصر، فهو اللانهاية التي توجد كليًا ككيان في وقت واحد.

وعلى النقيض من ذلك، قال أرسطو إن اللانهاية المحتملة هي اللانهاية كعملية لا تنتهي أبدًا، ولكنها محدودة في أي وقت معين. وهي تظهر في صور كثيرة، على سبيل المثال عند تقسيم خط بالنصف إلى مالانهاية . وتظهر أيضًا عند عدِّ الأرقام؛ فليس هناك حد محدود عند العد لأنك تستطيع دائمًا إضافة واحد آخر. وعلَّلَ أرسطو جميع التناقضات التي تظهر عند التفكير في اللانهاية، إلى استعمال المفهوم المتناقض لللانهاية الفعلية، بدلًا من المفهوم المتسق لللانهاية المحتملة.

فاللانهاية عند أرسطو ليست هي «ما لا يوجد شيء بعدها» ولكن كما يقول هو في كتابه «الفيزياء»: «شيء بعد شيء، وتظل الأشياء دائمًا محدودة ولكن مختلفة». ويقول في كتابه «الميتافيزيقا»: «ولأن عملية التقسيم لا تصل أبدًا إلى نهايتها، فإن ذلك يضمن إمكانية هذا النشاط، ولكن ليس لأن اللانهائية موجودة بشكل منفصل». وقد استمر ذلك التصور الأرسطي للانهاية سائدًا كجزء من فلسفة أرسطو السائدة خلال القرون الوسطى، من خلال شعار «Infinitum actu non datur» والذي يعني لا توجد لانهاية فعلية.

بعد أرسطو بستمائة عام، ظهرت أول إشارة للانهاية الفعلية في صورة دينية عند أفلوطين، فيلسوف الأفلاطونية الجديدة، عندما ساوى بين الإله وبين المطلق اللانهائي بطريقة غير مباشرة. فقال إن أي فكرة نقوم بتجريدها من خبراتنا المتناهية لا تنطبق على الإله؛ أي أن الإله مطلق لانهائي. وبهذا فقد أزال بعض ما علق بمفهوم اللانهاية الفعلية من أفكار سلبية. وانتقلت تلك الفكرة للاهوت الأوروبي بكل أنواعه، ولكن لم يكن التأثير كاملًا؛ لأن مفهوم اللانهاية الفعلية ظل مرتبطًا بالإله فقط، وظلت فلسفة وجود الأعداد قائمة على التجريد العقلي المحدود والمتناهي فقط وأي مزج بينهما كان يعتبر من قبيل الهرطقة الدينية.


حساب التفاضل والتكامل

حاول أرسطو أن يأخذ موقفًا وسطًا بين رافضي «اللانهاية» وبين المقتنعين بها، بالتمييز بين مفهومين مختلفين من اللانهاية: اللانهاية الفعلية واللانهاية المحتملة.

ولكن الحقيقة أن اللانهاية الفعلية تظهر في الهندسة والأعداد أيضًا. فأي خط هو جسم هندسي يتكون من عدد لانهائي من النقاط؛ أي أنه شيء محدد مكتمل ويتألف من عدد لا نهائي من العناصر، فهو اللانهاية التي توجد كليًا ككيان في وقت واحد، ولهذا فأي خط هو لانهاية فعلية. أيضًا نجد أن أي سلسلة أعداد مجتمعة، كالأعداد الطبيعية مثلًا، تشكل لانهاية فعلية. كما قال الرياضي ديفيد هيلبرت في ورقته العلمية «عن اللانهائي»: «اللانهاية لا تزال تظهر في سلاسل الأعداد اللانهائية والتي تعرف بسلسلة الأعداد الحقيقية، وفي مفهوم نظام الأعداد الحقيقية، والذي ننظر إليه ككيان مكتمل موجود في وقتٍ واحد، عندما نعطي خاصية معينة لجميع الأعداد الحقيقية». وهو ما ظهر بوضوح في النصف الثاني من القرن السابع عشر، بعد اكتشاف نيوتن وليبنتز لحساب التفاضل والتكامل القائم على مفهوم الكميات اللانهائية الصغر.

العلم يحتاج إلى حساب التفاضل والتكامل، وحساب التفاضل والتكامل يحتاج إلى سلسة متصلة من الأعداد، وتعريف السلسلة المتصلة من الأعداد هي عدد لانهائي من الأرقام.

وأفضل طريقة لبيان فلسفة حساب التفاضل والتكامل هي من خلال مبدأ ليبنتز (Natura non facit saltum) والذي يعني أن الطبيعة لا تقوم بقفزات، فالتغيّر الفيزيائي في الظواهر الطبيعية هو تغيّر تدريجي مستمر، بدون انقطاعات أو قفزات مفاجئة. فعلى سبيل المثال، الأرض تتحرك حول الشمس حركة تدريجية. ومن الناحية الرياضية، فهذا يعني أن أي نموذج رياضي أو دالة تصف الظاهرة الطبيعية هي دالة مستمرة؛ أي قد تأخذ أي قيمة على خط الأعداد مهما كانت، مما يجعلها قابلة للتفاضل فنستطيع معرفة معدل التغير اللحظي في تلك الدالة عند لحظة معينة. باختصار، العلم كوصف للظواهر الطبيعية يحتاج إلى حساب التفاضل والتكامل، وحساب التفاضل والتكامل يحتاج إلى سلسة متصلة من الأعداد، وتعريف السلسلة المتصلة من الأعداد هي عدد لانهائي من الأرقام حتى يحافظ على الاتصال وعدم الانقطاع في سلسلة الأعداد بين أي قيمتين، وبالتالي فتعريفه يحتاج لمفهوم اللانهاية الفعلية. وبالتالي فحساب التفاضل والتكامل قائم على مسلمة باعتبار أنظمة الأعداد كلانهاية واقعية. الجدير بالذكر أن البعض يظن أن هذا المبدأ يتعارض مع بعض ظواهر ميكانيكا الكم.

فإذا عدنا لمفارقة زينون، سنجد أنه محق في اعتبار أن الطريق يتكون من عدد لانهائي فعليًا من الأجزاء، وأن أرسطو كان مخطئًا في اعتبار ذلك كلانهاية محتملة وليست فعلية. لكن زينون كان مخطئًا في اعتبار أن اللانهاية الفعلية لا يمكن جمعها، وهو ما يعتمد عليه حساب التفاضل والتكامل في حل المفارقة؛ فالأجزاء حتى لو كانت لانهائية، إلا أن طولها يتناقص مقتربًا من الصفر مما يسمح بجمعها. فإذا وضعناها في صورة متتالية حسابية، تعرف تلك الصيغة حديثًا بالمتتالية الهندسية، سنجد أننا نستطيع جمعها لأنها متتالية هندسية ويوجد حد متناهٍ تتقارب الدالة له، ونتيجة الجمع حسب قانون جمع المتتالية الهندسية للانهاية هي 1 وهو طول الطريق ككل؛ أي أن الشخص يقطع الطريق ككل، كأنه يجمع كل أجزائه، فالحركة تحدث وليست وهمًا.

المتتالية الهندسية للانهاية
المتتالية الهندسية للانهاية

ومع نجاح حساب التفاضل والتكامل في التعامل مع الظواهر الفيزيائية، ظهر جليًا أن اللانهاية الفعلية ليست مفهومًا متناقضًا أو مفهومًا مرتبطًا بالإله وحده، بل حقيقة رياضية ضرورية. ونتيجة للتقارب بين الفكرة اللاهوتية للإله كمُطلق نهائي وبين حساب التفاضل والتكامل، فقد انتشر بين الرهبان الجزويت أنه بدراسة حساب التفاضل والتكامل يمكن للإنسان أن يقترب أكثر من الإله، وكان من نتائج دراستهم المكثفة لحساب التفاضل والتكامل أنه يمكن حساب المساحات والأحجام تحت المنحنيات باستعمال حساب التفاضل والتكامل.

لكن حتى تلك اللحظة لم يستطع أحد إيجاد توصيف اللانهاية الفعلية وظلت تظهر كحقيقة لا يمكن صياغتها أو استعمالها. واتفق الكثيرون، مثل هنري بوانكاريه الرياضي الشهير، مع مقولة جاوس عام 1831: «أنا أعترض على استعمال اللانهاية كقيمة مكتملة، وهو ما لا يمكن قبوله أبدًا في الرياضيات». فاللانهاية بالنسبة له ظلت هي اللانهاية المحتملة وليست اللانهاية الفعلية المكتملة.

لكن في عام 1874، في ورقة علمية، تُعتبر الآن أساس نظرية المجموعات والرياضيات الحديثة ، تغير كل شيء على يد الرياضي المعروف جورج كانتور، والتي كانت غير اعتيادية لدرجة أن الرياضي الألماني كرونكر أستاذ كانتور السابق وأحد رموز النهائيين قال: «أنا لا أعلم ما هو جوهر نظرية كانتور، هل هي الفلسفة أم الدين؟ ولكني متأكد أنها ليست الرياضيات». وعبر ديفيد هيلبرت في محاضرة له عام 1925 عن الرأي المقابل قائلًا: «لا يستطيع أن يطردنا أحد من الجنة التي خلقها لنا جورج كانتور». بل إن كانتور وضع أيضًا فلسفة ميتافزيقية رياضية انتهت به لوضع إثبات لوجود الإله، وهو ما سنستعرضه في المقالة المقبلة إن شاء الله.