على الرغم من ترويج اليهود لدينهم على كونه ديناً متفرداً، متمايزاً، ويختلف بشكل كامل مع جميع أديان الشرق الأدنى القديم، فإن الباحث المُدقِّق في تاريخ تطور الدين اليهودي عبر القرون سيندهش من كثرة وتعدد المؤثرات الثقافية والدينية الوافدة، تلك التي أسهمت في صياغة وتشكيل المعتقدات اليهودية على صورتها النهائية المعتمدة.

في الحقيقة يمكن القول إن مصادر تلك المؤثرات قد تنوعت بحسب الفترات التاريخية المختلفة التي مرت بها الأمة العبرانية عبر القرون، فنجدها -أي اليهودية- تقتبس في بعض الأحيان من الميثولوجيا المصرية القديمة التي اتصل العبرانيون بها قبل الخروج من مصر، كما نجدها تنهل في أحيان أخرى من معين الميثولوجيات العراقية والإيرانية، تلك التي عرفتها عن قرب في مرحلة السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد.

لما كان اليهود قد عاشوا في كنف المسلمين لقرون طويلة في فترة العصور الوسطى، فلم يكن من الغريب -والحال كذلك- أن تؤثر الثقافة الإسلامية على الكثير من الأفكار اليهودية، وقد ظهرت تجليات تلك التأثيرات في ساحات الفكر، والفلسفة، والعبادات، والتشريع.

رأس الجالوت والناجد: المناصب اليهودية في الإمبراطورية الإسلامية

أتاح توسع السلطة الإسلامية -شرقاً وغرباً- في عهد الخلفاء الراشدين، الفرصة لدخول الآلاف من يهود العراق وبلاد فارس وبلاد الشام تحت سلطة الخلافة، الأمر الذي أدى بالتبعية لاستحداث -أو تطوير- بعض المناصب السياسية والدينية، والتي خضع لها اليهود، وكانت حلقة الوصل بينهم من جهة، وبين السلطة الإسلامية من جهة أخرى.

بحسب ما يذكر الباحث المصري الدكتور عطية القوصي في كتابه «اليهود في ظل الحضارة الإسلامية»، فإن أول تلك المناصب كان المنصب المعروف برأس الجالوت، وكان صاحبه يتولى السلطة السياسية على جميع اليهود الساكنين في أراضي الإمبراطورية الإسلامية، وكانت له القدرة على تحصيل الأموال، وتطبيق الغرامات المالية على المخطئين، كما كانت له حظوة كبيرة عند الخليفة، ومن أشهر من تولى هذا المنصب أفراد عائلة البستاني، ذات الشهرة الواسعة في الأوساط اليهودية العراقية في القرون الوسطى.

على الصعيد الديني-الروحي عرف اليهود منصب «الجاءون»، والذي يعني الأفخم أو المعظم، وكان هذا اللقب يُعطى لكبار علماء الشريعة اليهودية في العراق، ممن قضوا حياتهم في دراسة وتعليم التناخ والتلمود، وكان الحبر اليهودي المولود في مصر سعديا جاءون الفيومي، المتوفى 330هـ، واحداً من أشهر من تولوا هذا المنصب المهم.

ولأن ظهور ذلك النوع من المناصب كان مرهوناً -في المقام الأول- بالتغيرات الواقعة في الدولة الإسلامية، فلم يكن من الغريب -والحال كذلك- أن نجد أن منصباً يهودياً جديداً قد ظهر في مصر بعد سيطرة الفاطميين عليها وانفصالها بشكل كامل عن الخلافة العباسية في بغداد، ألا وهو منصب «الناجد»، والذي كان صاحبه يُعين من قِبل الخليفة الفاطمي نفسه، وكان من المعتاد أن توكل إليه مهمة الرئاسة السياسية والروحية لليهود في مصر والشام، وكان الفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون، المتوفى 602هـ، أشهر من تولى هذا المنصب في العصر الأيوبي.

القراءون: فرقة يهودية بنكهة معتزلية

من الأمور التي اتفقت عليها الأغلبية الغالبة من العلماء والباحثين أن التأثير الإسلامي قد وضح بشكل كبير في تطور الديانة اليهودية من خلال ظهور بعض الفرق والطوائف، التي مالت للاقتباس والنقل عن المذاهب الإسلامية الكلامية والفقهية.

في هذا السياق تظهر فرقة اليهود القراءون، تلك التي عُرفت واشتهرت في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، والتي تحدثت المصادر الإسلامية عن تأثرها بالفقه الحنفي والأفكار المعتزلية. في كتابه «التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي» يذكر الدكتور محمد جلاء إدريس أن الإمام أبا حنيفة النعمان قد لعب دوراً مهماً في تأسيس تلك الفرقة.

فأثناء فترة سجن أبي حنيفة في عهد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، بحسب الرواية الشائعة، قابل أبو حنيفة في السجن الحبر اليهودي عنان بن داود، الذي زج به في السجن لنشوب الخلافات بينه وبين طائفة اليهود الربانيين بسبب عدم تنصيبه رئيساً للطائفة اليهودية في العراق، فلما عرف الإمام النعمان بقصة رفيقه نصحه بأن يرسل التماساً للخليفة، وأن يعرض في هذا الالتماس أهم النقاط التي تفرق بينه وبين الربانيين.

لما فعل عنان ذلك أُفرِج عنه، وسمحت له الدولة حينذاك بتأسيس وتنظيم فرقة جديدة من اليهود الذين يؤمنون بتعاليم التوراة المكتوبة وحدها، وعُرفت تلك الفرقة باسم القرائية نسبة إلى المقرا/ التناخ، وهو الكتاب المقدس عند اليهود.

تأثُّر القرائين بالثقافة الإسلامية ظهر بشكل واضح في الكثير من المعتقدات التي نصوا عليها في كتبهم، على سبيل المثال، وعلى العكس من الثقافة اليهودية التقليدية، والتي لا تؤمن بالبعث الأخروي، فإننا نجد أن القرائين قد أعلنوا عن اعتقادهم بيوم الدين/ يوم القيامة، فقالوا بوقوع البعث والنشور، وإن المؤمن المطيع سوف يدخل الجنة، أما الكافر العاصي فمصيره هو النار، هذا الاعتقاد سينتقل فيما بعد للكثير من الفلاسفة اليهود على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم.

لعل أبرزهم هو الحاخام موسى بن ميمون، الذي سينص على الاعتقاد في يوم القيامة بشكل صريح، إذ يقول في كتابه الأصول الثلاثة عشر:

أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الخالق تبارك اسمه وتعالى ذكره الآن، وإلى أبد الآبدين.

التاثير الإسلامي-المعتزلي في تشكيل مذهب القرائين ظهر في رفض  عنان بن داود وأتباعه الاعتماد على التلمود والشروحات الشائعة، واكتفائهم بالنص التوراتي فحسب، وكذلك ظهر هذا التأثير في قول القرائين بالاعتماد على العقل في استنباط الأحكام، وبأن باب الاجتهاد لم يُغلق بعد.

التأثير الإسلامي ظهر أيضاً فيما يخص أصول الفقه، فقد اعتمد القراءون على النص، والقياس، والإجماع، الأمر الذي يتشابه كثيراً مع الأصول الفقهية المعروفة عند الكثير من الطوائف الإسلامية.

في السياق نفسه، اعتمد القراءون التقويم القمري الشهري، واتخذوا من حادثة خروج موسى وبني إسرائيل من مصر، بداية لتقويمهم، فيما يتشابه كثيراً مع التقويم الهجري الذي بدأه المسلمون بالعام الذي هاجر فيه الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كما أنهم قد اقتبسوا بعض التشريعات الإسلامية، ومنها منح الابنة نصف ميراث الابن عند وفاة الأب، وحرمان الابن المرتد من الميراث، وتطبيق أحكام الملاعنة في حالة أن شك الزوج بوقوع زوجته في خطيئة الزنا دون أن يكون هناك شهداء على ذلك.

في الفكر والشريعة: من جاءون إلى الميموني

من المعروف أن الكثير من المفكرين والفلاسفة اليهود قد تأثروا بالثقافة العربية الإسلامية، وقد ظهرت نتائج هذا التأثر في كتاباتهم ومؤلفاتهم بصور متعددة.

على سبيل المثال، اعتمد سعديا جاءون في تفسيره لأسفار التوراة على التفسير بالمأثور، وكان متأثراً في ذلك بروح عصره، ولا سيما ما قام به معاصره ابن جرير الطبري، المتوفى 310هـ، عندما قام بتفسير القرآن الكريم في كتابه «جامع البيان عن تفسير آي القرآن»، اعتماداً على المرويات والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين.

وبحسب ما لاحظ الكثير من الباحثين الذين تصدوا لدراسة تفسير سعديا للتوراة، فإن تأثر المؤلف بالثقافة الإسلامية قد وضح في كتابه من خلال ملمحين واضحين؛ الملمح الأول لغوي، وظهر في نقل بعض المفردات العبرية إلى اللغة العربية بجذر مشابه أو مطابق للجذر العبري.

الملمح الثاني ديني، وظهر في استخدام بعض الألفاظ الأكثر اتساقاً مع الثقافة الإسلامية، ومن ذلك استخدام مصطلح الإيمان بدلاً من التصديق، واستخدام اللفظ القرآني/ العربي الله بدلاً من لفظي يهوه وإلوهيم الشائع استعمالهما في التوراة.

وبحسب ما تذكر موسوعة ستانفورد للفلسفة، تحت عنوان «تأثير الفلسفة العربية والإسلامية في الفكر اليهودي»، فإن كتب حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، المتوفى 505هـ، ولا سيما كل من «مقاصد الفلاسفة» و«معيار العلم»، قد أثرت بشكل عميق على الفلاسفة اليهود بدءاً من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وذلك في مباحث الوحدانية، والنبوة، والعناية الإلهية.

على سبيل المثال، نظَّم المفكر اليهودي بحيا ابن فاقودة، المتوفى 551هـ، كتابه -الهداية إلى فرائض القلوب- بنفس الطريقة التي كتب بها الغزالي كتابه الشهير إحياء علوم الدين، كما أنه قد لجأ لاستخدام الرسم العثماني، الذي يُكتب به القرآن الكريم، واستخدم بعض الكلمات والأساليب، التي تغلب عليها الصفة الإسلامية، ومن ذلك مصطلح عز وجل، وأسماء الله الحسنى، وأخذ بالكثير من الأحاديث النبوية والأحاديث القدسية، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور عبد الرازق قنديل في كتابه «التأثيرات العربية والإسلامية في كتاب الهداية».

في السياق نفسه، تضمن كتاب رسالة الحديقة لرجل الدين اليهودي موسى بن عزرا، المتوفى 533هـ، العديد من الاقتباسات الحرفية من رسائل إخوان الصفا، وذلك فيما يخص نظريات خلق الكون، وانبثاق المادة من الله. كما يجب ملاحظة أن الكثير من الفلاسفة اليهود -خصوصاً في الأندلس- قد تعرفوا على فلسفة أرسطو من خلال شروحات ابن رشد، الأمر الذي أسهم في زيادة تأثير الفيلسوف الأندلسي في الفلسفة اليهودية، للحد الذي ظهرت معه المدرسة الفلسفية المعروفة باسم الرشدية-اليهودية.

تأثير الثقافة الإسلامية في الفكر اليهودي القرن أوسطي تجلى في أوضح صوره في كتب الحاخام الشهير موسى بن ميمون، ومما يؤكد على ذلك ما ذكره الباحث اليهودي إسرائيل ولفنسون في كتابه «موسى بن ميمون ..حياته ومصنفاته».

يقول إسرائيل:

ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثراً بالغ الحد، حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة …

موسى استفاد كثيراً من مؤلفات الفارابي عند تصنيفه لكتابه الشهير دلالة الحائرين، ولا سيما مما ورد في كتاب آراء المدينة الفاضلة، فيما يخص الأدوار المختلفة التي يلعبها كل من النبي والفيلسوف. من جهة أخرى، فإن ابن ميمون قد اعتمد نفس التقسيمات المتعارف عليها عند المفكرين المسلمين عندما قام بتصنيف كتابه مشناه التوراة.

في سياق آخر، أشار الباحث اليهودي نفتالي فيدر، في بحثه الموسوم بـ «التأثيرات الإسلامية في العبادة اليهودية»، إلى الكثير من الشعائر  والعبادات التي انتقلت في العصور الوسطى من الحيز الإسلامي للحيز اليهودي، ومن ذلك ما دعا إليه الحبر إبراهيم بن موسى بن ميمون، المتوفى 635هـ، والمعروف بإبراهيم الميموني، في كتابه «كفاية العابدين»، عندما نادى بصبغ العبادات اليهودية بالصبغة الصوفية النسكية القريبة الشبه بالتشريعات الإسلامية.

وكان مما دعا إليه ضرورة غسل الرجلين قبل الصلاة، والغسل من الاحتلام، وإلغاء صلاة السر، وإحياء شعائر الركوع والسجود في الصلاة، والجلوس على الرجلين الموضوعتين تحت الفخذين، والاصطفاف، وبسط اليدين نحو السماء، واستقبال القِبلة في الصلاة، هذا فضلاً عن الاهتمام بالصلاة النسكية المتشبعة بالروح الصوفية، من خلال البكاء والاجتهاد في دعوة الله والاستغفار.