القراءة لفانون قراءة في العنف الكولونيالي، وتحليل للصراع بين النظم الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تشكل «نظام العالم». فانون الذي يعد الشخصية المحورية في كتابات ما بعد الاستعمار، يؤسس في نصوصه لــ «قلب هذه النظم قلبًا مطلقًا» عبر دفاعه عن أطروحة أن المناضل الذي ينتجه خطابه «قد أدرك منذ ولادته إدراكًا واضحًا أن هذا العالم المضيق، المزروع بأنواع المنع، لا يمكن تبديله إلا بالعنف المطلق» (معذبو الأرض، ص13).

«العنف المطلق» عبارة ثورية شديدة الوقع يبشر بها خطاب فانون، ولعل هذا الجرس هو ما دعا حنة آرندت إلى اعتبار نص فانون ليس سوى «مبالغات خطابية» (الزواوي بغورة: الهوية والعنف)، وأنه عنف من أجل العنف، غير أننا نعتقد أن إميه سيزار كان أكثر توفيقًا حين وصفه بـ «إنّ عنفه، بدون مفارقة، هو عنف رجل غير عنيف، وأقصد بذلك أنه عنف العدالة وتطهير النفس» (كوت، ص146).

وإذا كان العنف لغة الصراع في البلاد المستعمرة، فإن المثقف هو أيقونته، وأحد المتفاعلين الأساسيين معه. ولذلك خصص فانون طرفًا صالحًا من تحليله لدراسة المثقف، فحلله من مدخل نفسي، وآخر اجتماعي، وثالث ثقافي، وهو في كل ذلك يسائل موقفه السياسي. تحاول هذه المقالة أن تعرض مداخل فانون في تحليله للمثقف. فتركز في المبحث الأول على تحليل فانون، الطبيب النفسي، لشخصية المثقف، ثم تناقش في المبحث الثاني طبيعة علاقته بالسلطة، ممثلة في الحكومة الاستعمارية، لتنتهي في المبحث الثالث لِلَحْظِ علاقته بواقعه، بشعبه وأمته. من خلال التفاعل مع نصوص: «في العنف»، «الانطلاق العفوي»، «مزالق الشعور القومي» و«فجر إفريقي»؛ وهي المنشورة جميعها في كتاب «معذبو الأرض»[1].


المثقف، إنسان الاغتراب!

المثقف الإفريقي المستعمَر مثقف يولد في حي «سيئ السمعة، يسكنه أناس سيئو السمعة» في مدينة «جائعة؛ جائعة إلى الخبز، وإلى اللحم، وإلى الأحذية، وإلى الفحم، وإلى النور»، لكنه يمد بصره إلى الأفق ليرى «مدينة صلبة مبنية بالحجر والحديد؛ مدينة أنوارها ساطعة، وشوارعها معبدة بالإسفلت» (ص15). منذ الولادة، يعيش المثقف المستعمَر حياة اغتراب، بين واقعه وأفقه، بين حاضره ومستقبله، بين مدينة الله ومدينة الشيطان.[2]

سعيا لتقليص الفجوة بين «المستعمِر» و«المستعمَر» يحاول هذا المثقف عبثًا [3] محو الحدود بين العالمين عبر حواره وبرجوازيةَ البلاد المستعمِرة. إن العالم الاستعماري منقسم إلى عالمين، لغته الوحيدة العنف. ولأن للمثال سطوة توازي سطوة الواقع، يجد المثقف نفسه في خضم هذا الاغتراب، بعيدًا عن مدينته، يحاول هضم ثقافة المحتل واستيعاب مفرداتها، حتى لكأنه يصير من أهلها، يقرأ بلسانهم، ويكتب بلغتهم، وربما يهتم لمشاكلهم. غير أن لحظة التمثل الكامل لحضارة المستعمِر لا تدوم، فسرعان ما تَهُزُّ الأحداث العنيفة المثقفَ، تذكره بنفسه، بشعبه، بماضيه. فيحاول أن يرجع إلى التاريخ، إلى أقدم «ينابيع شعبه، إلى أبعدها عن عهد الاستعمار»، ليستحضر شخصيات وأساطير يمجدها، يعبر بها عن لحظة حرية كاملة. غير أن هذه العودة لا تخلو من مفارقة، فبالرغم من أن دافعها هو الشعور بالاغتراب وسط الثقافة الاستعمارية، إلا أن العودة إلى الماضي لا تقل اغترابًا عن هذه الأولى، فالماضي الأسطوري منقطع الصلة بالحاضر المستعمَر لن يقرب المثقف من مدينته، ولن يواجه القيم الاستعمارية الحاضرة. وهنا ينتهي المثقف إلى توتر مزدوج، إلى اهتزاز يرفع عنه الاغتراب، يعيده إلى المعركة، معركة التحرر، فيصير المثقف ناطقًا باسم اللحظة، مشاركًا في صياغتها، قولا وعملا، مساهمًا في قيام أدب قومي، أدب ثوري يكون الناطق «بلسان واقع جديد يتحقق» (ص198).

هل يرسم لنا فانون هنا مسيرة المثقف الفرد في تفاعله مع واقعه؟ أم هو يرسم لَحْظَاتٍ زمانيةً، لكل لحظة مثقفوها؟ لنتجاوز الإجابة عن هذا السؤال ولنواصل القراءة في ملامح هذا الاغتراب، لا من زاوية المثقف، بل من زاوية الصراع.


صراع المثقف والسلطة!

الاستعمار في مستوى منه صراع بين النخب المثقفة والاستعمار؛ صراع حول القِيَمِ، والسلطة، صراع حول قيادة هذه الشعوب إلى لحظة التحرر. تحليل هذه النخب المثقفة؛ مثقفي السلطة، مثقفي الاستعمار، الذين «تغلغلت فيهم الروح الاستعمارية وطرائقها في التفكير»[4]، هو ما تتطرق إليه الفقرات التالية.

المثقف المستعمَر مُحَلِّلُ الحياة السياسية في نظر المستعمِر، تُطلَب خدماته حين يرتفع صوت العنف بين المستعمَرين، يُطلَب منه الدعوة إلى «التعايش» و«السلام العام». أيكون المثقف بهذا خائنا لشعبه، بتماهيه مع السياسات الاستعمارية؟ الأمر ليس بهذه البساطة.

يختار فانون المدخل النفسي لدراسة هذا الموقف، حسبه؛ الخوف هو معيار علاقة المثقف بالمستعمِر صاحب السلطة. إن المثقفين «تحتل دبابات المستعمرين، والطائرات المقاتلة في أدمغتهم مكانًا كبيرًا … إن عجزهم عن انتصار بالعنف لا حاجة إلى البرهان عليه، إنهم يبرهنون على هذا العجز في حياتهم اليومية وفي مناوراتهم» (ص39). المثقف يخشى العنف، هكذا يكون الواقع في لحظة الاستعمار، فبالرغم من أنه يملك «القوة» إلا أنه يفضل أن «يُلوِّح بها لا أن يستخدمها»، إن «النخبة المثقفة عنيفة في الأقوال، إصلاحية في المواقف والأعمال» (ص36).

هذه الإصلاحية لها ما يبررها اجتماعيًا وسياسيًا: «إن قاعدة الأحزاب السياسية الوطنية تتألف من أفراد سكان المدن. وهؤلاء العمال والفلاحون وأصحاب الحرف والتجار الذين بدأوا يستفيدون من الوضع الاستعماري ولو استفادة ضئيلة، هؤلاء لهم مصالح خاصة» (ص36). النخب تتحدث بمنطق جماهيرها، والصراع في المجتمع المستعمَر ينتج لنا برجوازية وطنية، هم هؤلاء المنضمون إلى النقابات والمنظمات السياسية الذين يطالبون بتحسين الأحوال، والتمثيل الانتخابي، وحرية الصحافة. إنهم الذين يطالبون بتحسين ظروف العبودية، ولا يطالبون بالتحرر. «إن ما تريده [هذه القاعدة الشعبية] ليس هو الحصول على الحقوق التي يتمتع بها المستعمِر، بل هو أخذ مكان هذا المستعمِر. إن الأكثرية الساحقة من المستعمَرين تريد أن تستولي على مزرعة المستعمِر، ليس هدفهم أن يكونوا والمستعمِر أندادًا متنافسين، وإنما هدفهم أن يحلوا محله» (ص36).

هذه النخب المثقفة، ذات التعليم الاستعماري، الخاضعة لقانون الخوف في علاقتها مع السلطة المستعمرة، والتي تقود قاعدة اجتماعية «مستفيدة» من طبيعة الحياة الاستعمارية تكون سياستها «التسوية» و«اللاعنف». كيف تقوم هذه النخب بالتسوية؟ العنف إذا أصبح «شأنًا عامًا» وارتفعت أصوات المطالبة بالحساب من فئات معينة من الشعب (لا تخضع عادة للانتماء الحزبي/النقابي)، يختار المثقفون أن يقفوا على الحياد، على مسافة واحدة بين الثوار القوميين والسلطة الاستعمارية (هذا إن لم يعلنوا رفضهم للتخريب والهمجية الثورية)، غير أنهم في فترة لاحقة، حين تزداد الأمور سوءًا يعرضون أنفسهم «وسيطًا» بين الطرفين، «وهكذا ترى الناسَ الذين كانوا في مؤخرة الكفاح الوطني، الناس الذين لم يشتركوا يومًا في النضال، يصبحون بنوع من البهلوانية طليعة المفاوضين في سبيل إيجاد ’تسوية‘ لا لشيء إلا لأنهم حرصوا دائمًا على أن تبقى الصلة قائمة بينهم وبين الاستعمار» (ص38). هذه الحلول السلمية التي تطرحها النخبة ليست في صالح الشعوب، بل هي استنفاد لقدرتها على المجابهة. في كل معركة تحاول فيها الشعوب أن تبدأ مسيرة تحررية، تطوقها السلطة الاستعمارية بقدرتها على احتواء النخبة المتعاونة، وإن حدث أن ظهرت على الساحة نخبة تحررية، تقوم السلطة باعتقالها وسجنها، لإنتاج نخبة جديدة متوافقة.

الاستعمار صراع بين النخب المثقفة والسلطة الاستعمارية، وليس صراع المدن المعركة الوحيدة التي يعجز المثقفون والساسة عن الفوز بها، هناك معركة أهم وأبلغ أثرًا، إنها معركة الريف. يبيِّن فانون كيف أن المثقفين «في المناطق المتخلفة» يتوجهون باهتمامهم الأول إلى العناصر الواعية من المجتمع، سكان المدن على وجه التحديد، ما يبعدهم عن وقود الثورة، سكان الأرياف، الفلاحون الذين لا يخشون «أن يخسروا بالثورة شيئًا، بل يطمعون أن يكسبوا بها كل شيء»، إنهم الذين يكتشفون قبل غيرهم أن «العنف وحده هو الوسيلة المجدية»، والذين يتساءلون دومًا: متى نبدأ؟ (ص44)

خسارة النخبة المثقفة معركتها مع الاستعمار في المدينة والقرى، ووقوعها أسيرة للخوف من العنف، والخوف من الاستعمار، وضعية يدركها المستعمر جيدًا، ويوظفها في صراعه معها، فتجده يوظف «الدين» و«سلطة القبائل» ضدًا عن دعاوى التحرر والتغيير، ويوظف «خارج المدينة» ضد من هم «داخلها»، ويوظف «المثقفين» ضد «قاعدتهم الشعبية»، وهكذا وفق توازنات يضبطها هو، ولا يمكن تغيير قواعدها – حسب فانون – إلا بالعنف. (ص86، 136)

غير أن هذه الصورة القاتمة عن وضع المثقفين إبان لحظة الاستعمار ليس خاليا تماما من الآثار الحميدة، فهؤلاء المثقفون باهتمامهم بشكليات السياسة، والدعوة لمثالية الحرية والمساواة، قولا فقط، يجعل الحلم متقدا في نفوس حامليه. فهم في الواقع يساهمون في النضج، ويسمحون للمخيال التحرري «بالطواف خارج النظام الاستعماري»، وهي ميزة ستستثمر لاحقا للوصول إلى لحظة التوتر الكبرى، لحظة التحرر. (ص45)


المثقف ولحظة التحرر!

وإذا كان لكل لحظة رجالها، فإن المشترك بين جميع اللحظات أنها ليست سهلة على مثقفيها، فلحظة التحرر لحظة ضياع المثقف، لحظة البحث عن الأنا الجمعي الذي ينتمي إليه الجميع، لحظة المطالبة بإنشاء أمة. والمثقفون أول من يبحثون عن هذه الصورة: في التاريخ، في العودة إلى الماضي القديم، لا ليستعيدوا أمجاد حضارة بائدة، ولا ليثبتوا أن بإمكانهم القيام بحضارة مستقبلية، بل ليمنحوا أنفسهم وشعوبهم هذا الإحساس النفسي، الإحساس بالرضا والامتلاء، الإحساس بالرغبة في الاندفاع إلى وثبة كبرى. غير أن هذه العودة تحمل مخاطرة هي الأخرى، فالواقع يثبت أنها تتلوَّن فيما بعد إما بالحماسة الزائدة التي تدفع بصاحبها إلى التغني بأمجاد غابرة وإغفال الحاضر، أو بالتماهي في تمجيد الماضي حتى صوره الهمجية التي يرسمها المستعمِر عن الشعوب المستعمرَة، فيتبناها المثقف إمعانًا في الانفصال عن المستعمِر ومظاهره. (ص184-188)

وهنا ينبه فانون على خطورة الشكلانية التي تصيب المثقفين، إن العودة إلى الماضي عودة «إلى ما ليس له وجود راهن، والحق أنما يصوره عندئذ إنما هو فضلات الفكر، إنما هو المظهر الخارجي، إنما هو الجثث الميتة، إنما هو المعرفة المحنطة» (ص200). العودة إلى الماضي لبناء الأمة في مرحلة التحرر طريق محفوف بالمخاطر، وقليل الثمرة في نفس الوقت، فما الحل الذي يقترحه فانون على قارئيه؟

في «فجر إفريقي»، يرسم فانون تباشير الصباح الأولى، باللون الأحمر نعم، لكن تتراءى منها خيوط الشمس الذهبية المشرقة من بعيد. على المثقف أولا أن يكتب لشعبه بغية أن يفتح المستقبل؛ المستقبل معركة الشعوب الثائرة. ثم إن عليه ثانيًا وهو الأهم في هذا كله، أن يشارك في العمل الثوري، أن ينخرط «في المعركة القومية جسمًا وروحًا»، إن عليه أن يشارك «بعضلاته» في المعركة. «ليس يكفي أن نغوص في ماضي الشعب ننتشل منه عناصر منسجمة ونجابه بها محاولات التزييف والاحتقار التي يقوم بها الاستعمار، وإنما يجب علينا أن نعمل، أن نناضل مع الشعب، من أجل أن نوضح المستقبل، من أجل أن نعد الأرض التي أخذت تتفتح فيها منذ الآن براعم قوية» (ص210).

أفق الثقافة إذًا العمل الثوري، والحرية هي الرحم الذي يكون نشوء الثقافة فيه ممكنًا، وعلى المثقف المستعمَر أن يعي أن المعركة ليست معركة كتابات وأفكار فقط، بل هي إضافة لذلك معركة أبدان، معركة تَخَنْدُقٍ في صفوف الشعب، معركة تستحق من الجميع أن يقوم بها، في كل الميادين.

وبعد فما الذي يمكننا أن نختم به عرض فانون هذا؟

إن فانون الذي يوصف بأنه يمثل الشخصية المحورية لدراسات ما بعد الاستعمار يحاول أن يشرح بمبضع جراح نفسي لحظة الاستعمار والتحرر منه، وهي لحظة تحمل في طياتها مشاهد متعددة لفاعلين متنوعين. المثقف، والسلطة، والعنف، مفاهيم أساسية في خطاب فانون، لكنها ليست سوى جزء من منظومة فكرية لم يتَح لها المجال ليعاد قراءتها وإنتاجها في ضوء التغيرات التي تعصف بالعالم العربي.

ولعل سؤال الراهنية هو ما يحسن أن نختم به هذا المقال. فإلى أي مدى يمكن توظيف فانون لإعادة قراءة الواقع العربي، وإلى أي مدى تجد الاغتراب تحليلا، والخوف معيارًا لعلاقة السلطة بالمثقف، والنخبة البرجوازية المستفيدة من الوضع الاستعماري، وغيرها … إلى أي مدى تجد هذه التحليلات طريقها لفهم الراهن العربي؟ هذه تساؤلات قد تجد طريقها لتكون مشروع دراسة مستقبلية.


[1] يصف دايفيد كوت الكتاب بأنه «من أعظم الوثائق السياسية في عصرنا» (كوت: فرانز فانون، 115).[2] هذا التقابل اشتهر به القديس أغسطين في كتابه مدينة الله، لما قابل بين مدينة الخير ومدينة الشر.[3] الحكم القيمي لفانون.[4] فرانز فانون: معذبو الأرض، 21. قلما يفرق فانون هنا بين المثقفين والسياسيين، حتى لكأنه يعد السياسي في لحظة التحرر مثقفًا، لأن مرد الحكم عنده هو قيادة المجتمع في معركة العنف، فمن تأهل لها فهو المثقف.

المراجع
  1. بغورة، الزواوي: الهوية والعنف، نحو قراءة جديدة لموقف فرانز فانون (مجلة يتفكرون، العدد 5، 2015).
  2. فانون، فرانز: معذبو الأرض، ت: سامي الدروبي وآخرون (عمّان، الأهلية للنشر 2015).
  3. كوت، دايفيد: فرانز فانون، ت: عدنان كيالي (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1971).