تستغل الولايات المتحدة الموقف عبر أنصارها وحلفائها في البنك الدولي أو في صندوق النقد الدولي، الذين يفرضون الوصاية على الدول المقترضة، فارضين شروطهم في كل شيء من وضع أسس سياسة الإنفاق الحكومي إلى الاتفاقيات الأمنية!
جون بيركنز في كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي»

الحرب ثقيلة الوقع على الإنسان؛ فليس من السهل أن يرى إنسانٌ إنساناً آخر وهو يُمزَّق كل ممزَّق. فما عساه يكون حال إنسان يحيا دوماً في حالة صراع وحرب؟ وما عساه يكون حال من خرج لتوّه من فظائع الحربين العالميتين ورأى بأمّ عينه قدرة الإنسان على الانفلات والفجور؟ أليس من المنطقي أن يحاول كبح جماح هذه القُدرة؟ هذا تحديداً ما أُعلن عنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية في مؤتمر «بريتون – وودز»؛ إذ أُعلن عن إنشاء عدد من المنظمات الدولية المصممة كي تمنع الحرب، وتُحل السلام والتعاون بين الدول، ومن هذه المنظمات «صندوق النقد الدولي»[1]. والآن، وبعد مرور ما يقرب من 80 عاماً على إنشاء هذا المنظمة، لمَ يتظاهر ضدها الآلاف حول العالم باستمرار [2]، ولمَ لمْ يحُل السلام أينما حلّت هذه المنظمة؟


الاستعمار الجديد

إن الاستعمار التقليدي كان استعماراً مباشراً تقوم فيه دولة ما أو عدة دول باحتلال إقليم دولة أخرى وممارسة سلطتها على هذا الإقليم، وغالباً ما كانت هذه القوة المُحتلة تسعى لخلق إمبراطوريتها الخاصة لتحقيق أهداف اقتصادية واستراتيجية بالأساس، نابعة من قلب الحداثة الأوروبية [3]. ولهذه الأهداف كان لابد من وجود استقرار داخلي، إلى حد معقول، لدى القوة المُحتلة بالإضافة إلى وجود جيش قوي، لكن مع الحربين العالميتين الأولى والثانية نتج عالم جديد وجدت فيه القوى العظمى نفسها منهكة اقتصادياً وعسكرياً، بالإضافة إلى وجود حالة من الذعر المحلي داخل حدودها، وقد تلاقى هذا الوضع الغربي مع وضع آخر داخل المستعمرات نفسها؛ إذ بدأت تلك المستعمرات في الثورة والمطالبة بالتحرر مما أربك حسابات تلك القوى على كل المستويات [4]. فما عساه يكون رد فعل تلك القوى في مثل تلك الظروف؟

يرى دايفيد هارفي أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت باستغلال الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي من أجل تكوين «إمبراطورية» تعمل في عصرٍ جديد من نبذ صورة الدم

وبما أن هدف المقال فهم مغزى صندوق النقد الدولي؛ فالتركيز هنا سينصب على قوة عظمى واحدة؛ الولايات المتحدة الأمريكية. يرى دايفيد هارفي أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت باستغلال الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي من أجل تكوين «إمبراطورية» تعمل في عصرٍ جديد من نبذ صورة الدم، فهو يرى أن أساس تكوين الإمبراطورية الأمريكية لنفسها هو «الرأسمالية الإمبريالية»؛ وهي مشروع سياسي يقوم فيه عدد من الفاعلين باستخدام سلطتهم على الموارد الطبيعية والبشرية من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية بالأساس. يعمل هذا المشروع وفقاً لمنطقين متضادين: منطق رأس المال غير المقيد بإقليم بعينه والساعي نحو الزيادة المستمرة وكسر الحدود، ومنطق الجغرافية – السياسية الساعي نحو الإمساك بإقليم محدّد وفرض السيطرة عليه.

ولإيجاد مجال يمكن للمنطقين أن يتضافرا فيه، فقد سعى هذا المشروع نحو إيجاد منظمات تتخطى سلطة الدولة السيادية بحيث تسمح لرأس المال بالتمدد الدائم، بينما تكون هذه المنظمات بدورها تحت سلطة دول بعينها بحيث يُسمح لمنطق الجغرافية – السياسة بالعمل وإحكام السيطرة، كما يرى هارفي أن هذا المشروع يحمل صورة داخلية لعالم مُقسَّـم بين مُسيطِر ومسيطَر عليه، لكن صورة السيطرة تغيرت من كونها المحتل المباشر العنيف إلى كونها حاكم النظام العالمي ومانعه من الفوضى؛ وهي أمريكا [5]. وبالرغم من أن هارفي لم يستخدم مصطلح «الاستعمار الجديد»، فإن حقيقة الصورة الواضحة في المشروع الإمبراطوري الجديد هي ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«الاستعمار الجديد».


لحظة التأسيس

بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمعت 44 دولة على رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا في مؤتمر «بريتين-وودز» عام 1944 لدراسة الوضع الاقتصادي بعد الحرب. وقد خرج من هذا المؤتمر ثلاث منظمات أساسية لتنظيم الوضع الاقتصادي وهي: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية [6]. فما الذي جعل تلك المؤسسات ممكنة؟ يُمكن النظر إلى تلك الأسباب كالتالي: السياق الاقتصادي – السياسي، وخطاب [7] علم الاقتصاد.

فأما عن السياق الاقتصادي – السياسي، فقد سادت فترة من السلام النسبي أوروبا بين عامي 1875 و1914 نتيجة وجود ثبات سياسي بين القوى العظمى المحكومة بسياسة الإمبريالية العالمية، ووجود ثبات اقتصادي نتيجة لازدهار التجارة، والتكنولوجيا، والاستثمار. ومثلت بريطانيا حجر الأساس في هذه الفترة نظرًا لثبات مستوى عملتها، بالإضافة لكونها المستورد الأول الذي مكَّـن غيرها من الدول من الاستفادة بشكل واسع. ويمكن النظر إلى هذا النظام الاقتصادي العام حينذاك على أنه نظام من الاقتصاد الحر؛ أي اقتصاد ترفع من عليه الدولة يدها وتدعه يعمل وفقاً لمنطقه الخاص. ولكن بعد الحرب العالمية الأولى، خرجت بريطانيا منهكة إلى حد كبير بعد أن خسرت تفوقها العسكري والسياسي لصالح فرنسا وألمانيا وروسيا؛ مما جعل بريطانيا تخرج من المركز، كما اهتزت خزائن الدول العظمى بسبب الحرب بشكل كبير، وقد مثّلت هذه الظروف البيئة المناسبة التي خرج منها الكساد الكبير عام 1929م. ومع الحرب العالمية الثانية تكبدت الدول مزيداً من الخسائر الاقتصادية والعسكرية؛ الأمر الذي مهَّـد الساحة لتقبل فكرة ضرورة وجود يد للسياسة على الاقتصاد بخلاف الرأي السائد قبل الحرب [8].

وأما عن خطاب «علم الاقتصاد»، فيمكن النظر للخطاب الاقتصادي وقت مؤتمر «بريتون – وودز» في 1944 على أنه نتاج مجموعة من النظريات الاقتصادية التي تشكّلت عبر مراحل مختلفة. فأولاً، ساد في هذا الخطاب رؤية عن دور الدولة مستمدة من نظريات الثلاثينيات، تحديداً «نظرية جون كيينز» والتي تبنتها أمريكا، التي رأت دور الدولة على أنها حامية للاقتصاد وحافظه له، بالإضافة لوجود صدى لأفكار آدم سميث وجون ستيورات ميل عن التجارة باعتبار أن التجارة تمنع الحرب؛ فيرى كلاهما أن تقسيم العمل على مستوى عالمي، بالإضافة إلى تبادل ثمار هذا العمل يستطيعان أن يمنعا الحرب إلى الأبد [9]. ولكن، افترض كل من سميث وميل وجود مساواة بين تلك الدول حتى تتحقق إمكانية منع الحرب تجارياً، بينما كان واقع فترة ما بعد الحرب هو واقع لا مساواة بين دول؛ بحيث أصبحت كل الدول تحتاج إلى بعضها البعض لتحقيق الاستقرار مرة أخرى، في حين لا يوجد لدى تلك الدولة القدرة على القيام بذلك، هنا برزت فجوة مكنت دولة بعينها من استغلالها لربط النظام الاقتصادي بها؛ أمريكا [10].

فبالنظر للوضع العام وقتئذ، نجد أن الدول الأوروبية الكبرى وأمريكا فقط هي من كانت مستعدة للتعاون الاقتصادي بعيداً عن أوروبا الشرقية و«دول العالم الثالث»، وثمة مصلحة مشتركة بين تلك الدول الأوروبية ممثلة في الرأسمالية، كما أن أمريكا كانت القوة الوحيدة المتبقية ذات اقتصاد وقوة عسكرية هائلين مكناها من الاستحواذ على دور القيادة. وبالتالي، مثَّـل مؤتمر «بريتون – وودز»، ومنظماته، لحظة تجلٍ لقوة أمريكا وفرضها لخطابها الاقتصادي الخاص، وقد خرج صندوق النقد الدولي من رحم المؤتمر بعد عامين من المباحثات [11]. وقد تشكّل هذا الصندوق وفقاً لرؤية أمريكية – بريطانية بدايةً، حتى وصل إلى شكله النهائي الذي وافق المخطط الأمريكي، وفي عام 1946 دعت الولايات المتحدة الدول المشارِكة إلى الاجتماع التأسيسي الذي انتهى بالاتفاق على جعل مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن [12].


صندوق النقد وخطاب الاستعمار الجديد

تشكّل صندوق النقد الدولي وفقاً لرؤية أمريكية – بريطانية بدايةً، حتى وصل إلى شكله النهائي الذي وافق المخطط الأمريكي.

ويجدر هنا توضيح نقطة في غاية الأهمية حول «الخطاب» كما يستخدمه ميشيل فوكو: إن الخطاب هو مجموعة من أفعال الكلام التي يقوم بها جماعة من المختصين في حقل ما، وتتحول هذه الأفعال مع التكرار والتعود إلى تشكيل الحدود العامة لهذا الحقل بتحديد ما يُنظر إليه باعتباره ينتمي إليه وما لا ينتمي إليه [13]. وبالتطبيق على صندوق النقد الدولي، فإن الخطاب الممارس فيه هو مجموعة من النظريات والمفاهيم الأمريكية والغربية حول ماهية الاقتصاد والتنمية مُورِست بالقوة عن طريق الصندوق لخلق مجال جديد للاقتصاد يُصبح كل ما دونه غير اقتصادي؛ وغير علمي. فيُطالب صندوق النقد الدولي أيَ دولة بعدة شروط من أجل إعطائها الدين المطلوب؛ هذه الشروط تشمل: «تقديم برنامج عام يُلزم الدولة الطالبة بعدد من السياسات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية» وضمان بيئة مناسبة وآمنة من أجل تسهيل مراقبة تنفيذ تلك السياسات من قبل صندوق النقد الدولي. فأولاً، أسس الصندوق نفسه على أنه المتحدث باسم الاقتصاد «العالمي» ، ثانياً: يُقدم الصندوق سياساته باعتبارها الطريق الوحيد والإلزامي للتنمية، وأخيراً، يضمن الصندوق لنفسه عدداً من آليات المراقبة والعقاب لكي يُلزم الدول بسياساته [14].

وبجمع أطراف الخيط حتى الآن، نجد أن «صندوق النقد» وفقاً لهذا التصور يُعد أدةً مناسبةً لما وصفه دايفيد هارفي بالـ«رأسمالية الإمبرايالية» والتي تبني عليها أمريكا نفسها كإمبراطورية؛ فالصندوق يجمع بين نقيضيْ مشروع الرأسمالية الإمبريالية؛ إذ يجمع بين كونه منظمة تسعى لفتح الحدود الاقتصادية أمام رأس المال، وبين كونه منظمة تخضع للخطاب الأمريكي. ويتبقى السؤال: متى تعي الحكومات، تحديداً حكومات أفريقيا، أن هذه المنظمة ما هي إلا تمثيل لخطاب أمريكي نابع من ظروف خاصة بسياق محدد ويسعى نحو تأكيد سيطرة أمريكا باعتبارها المستعمر الجديد؟ متى تعي أن هذا الصندوق ليس إلا سلسلة أخرى تربطها في طاحونة «الاستعمار الجديد» الساعي نحو السيطرة على كل مواردها بلا هوادة؟!


[1] “History of the IMF: Organziation, Policy, and Market”, ed. Kazuhiko Yago, Yoshio Asai, Masanao Itoh, (Japan: Springr, 2015), p. VI [2] Richard Peet, “the Unholy Trinity: the IMF, the World Bank, and WTO”, (London: Zed Books, 2009), pp: 99-104 [3] Cecil Sagoe, “The Neo-colonialism of development programs”, E-international relations students, August 12, 2012, URL: http://www.e-ir.info/2012/08/12/the-neo-colonialism-of-development-programs/[4] Diana Haag, “The mechanisms of neo-colonialism: current French and British influence in Cameron and Ghana”, Insttut Catala Internacional Per La Pau, Barcelona 2011, URL: http://icip.gencat.cat/web/.content/continguts/publicacions/workingpapers/2011/arxius/wp_2011-6_ing.pdf[5] David Harvey, “the New Imperialism”, (London: Oxford University Press, 2003), pp: 1-42; with emphasis on: p: 26.[6] “History of the IMF”, p.VI [7] تُستخدم هنا كلمة “خطاب” كا يُشير إليها الفيلسوف ميشيل فوكو، وهو ما سيُوضَّـح في آخر المقال.[8] Richard Peet, “the Unholy Trinity”, pp. 37-45 [9] Ibid.[10] Ibid.[11] “History of the IMF”, pp: IX-X [12] Richard Peet, “the Unholy Trinity”, pp: 61 [13] Michel Foucault, “The Archaeology of Knowledge”, trans. A.M. Sheirdman Smith, (New York, Pantheon Books, 1972), pp: 21-40 [14] Peet, “The Unholy Trinity”, p. 66-74