النظر إلى الأرض من فوق القمر كان له أثرٌ خاص في نفسي. كانت تبدو حية وتتحرك بهدفٍ وجمال في الفضاء والزمن.

جين سيرنان – قائد المركبة الفضائية أبولو 17، وآخر شخص سار على سطح القمر

إذا تواجد أيّ كائن بشري على مسافة 400 كم من سطح الأرض، أو على أيّ مسافة أبعد من ذلك؛ فسيكتب شعرًا غزليًا في جمال هذا الكوكب. وبدأت سيناريوهات السفر خارج الغلاف الجوي للفضاء تثير فضول البشر فترة كبيرة من الزمن. تساءل كثيرون حول قدرة البشر على تحمل آثار السفر لهناك، وما الذي يمكن أن يحدث لهم في حال حدوث ذلك؟

فكانت الإجابة على هذا السؤال هي أن انطلقت الكلبة «لايكا» في رحلة خارجية إلى مدار الأرض على متن المركبة الفضائية الروسية «سبوتنك 2» التي أطلقها الاتحاد السوفيتي في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1957.

كان الهدف الرئيسي لمهمة لايكا هي اختبار سلامة الكائنات الحية في سيناريوهات السفر بين النجوم في الفضاء؛ من ضمنهم البشر. وبطبيعة الحال؛ فالتقنيات والأدوات المتاحة والمستخدمة آنذاك لم تكن متطورة بالقدر الكافي الذي سيحافظ على سلامتها. لذا لقيت الكلبة حتفها، ولم تعد مجددًا إلى الأرض لتخبرنا بالمزيد عما هناك.

لكن فضول البشر لمعرفة المزيد عما يوجد خارج غلافنا الجوي لم يتوقف عند موت لايكا. وبدأ شكل آخر من البحث والعمل؛ بدءًا من رحلة الفضاء الروسية المأهولة الأولى عام 1961، ورحلة الفضاء إلى القمر على متن المركبة أبولو 11 عام 1969، وصولًا للعام 1998 حين تم تجهيز الوحدة الأولى لمحطة الفضاء الدولية؛ محور حديثنا اليوم.

وصلت بعثة المحطة الوليدة الأولى إلى بؤرتها المدارية عام 2000 على ارتفاع 400 كم فوق سطح الأرض. أصبحت هذه المحطة بمثابة مختبر البشرية الوحيد والدائم في الفضاء، يدور حول الأرض بسرعة 28 ألف كم/ ساعة ليكمل بذلك دورة كاملة كل 90 دقيقة. تزن المحطة إجمالًا نحو 400 طن، بمساحة ملعب كرة قدم.

شارك في إنشائها خمس وكالات فضاء عالمية؛ تمثل 15 دولة مختلفة بتكلفة نحو 100 مليار دولار. هذه الوكالات هي «ناسا – NASA»، شركة «روسكوسموس – Roscosmos» الحكومية الروسية للأنشطة الفضائية، و«وكالة الفضاء الأوروبية – ESA»، و«وكالة الفضاء الكندية – CSA»، و«الوكالة اليابانية لاستكشاف الفضاء الجوي – JAXA» للعمل على بدء شكلٍ جديد من الأبحاث العلمية في الفضاء والتي تفيد أيضًا في تطوير العلوم وطريقة تناولها على الأرض .

نأخذك سريعًا بصحبة سيمفونية المحطة الدولية من الشُبّاك هنا:


علوم المحطة الدولية

صورة لزهرة الفضاء (زينيا – Zinnia) التي نبتت على متن المحطة الدولية، ونشر صورتها رائد الفضاء سكوت كِلي في الـ 16 من يناير/ كانون الثاني عام 2016

هل تساءلت يومًا؛ ما الذي يفعله روّاد الفضاء على متن المحطة الدولية طوال العام؟

بجانب ما يعيشونه من تجربة فريدة من النظر إلى كوكبنا من زاوية أخرى بعيدة عما يحدث فيه، والتقاط صور مذهلة له بين حين وآخر، والمرح أحيانًا؛ فهناك أيضًا تتم عمليات بحثية كبيرة ربما لا نسمع عنها كثيرًا.

وإذا ما ذكرنا علوم أو أبحاث الفضاء نتذكر هذه الجميلة «زينيا – Zinnia»، الزهرة التي أبصرت الحياة على متن المحطة، ونشر صورتها رائد الفضاء «سكوت كلي – Scott Kelly» في العام 2016.

تتم في المحطة الدولية مجموعة واسعة من التجارب العلمية الأكثر تعقيدًا في بيئة تصل فيها الجاذبية لدرجة منخفضة جدًا. لهذا فإن بيئة العمل الخاصة تلك تتيح للعلماء القيام بتجارب علمية عديدة في تخصصات مختلفة لا يمكن القيام بها على الأرض.

أبرز هذه المعدّات هي مختبرات جهّزت بمعدّات كاملة وآمنة، تحتوي على أدوات تسخين عالية مثل الأفران المعدنية، وبيئات ملائمة لإنبات أنواع من المزروعات في الفضاء، وتجميد المواد لدرجات حرارة تصل إلى نحو 80 درجة مئوية تحت الصفر.

رحلة داخل كولومبوس

مختبر العلوم الذي يعد أهم مساهمات «وكالة الفضاء الأوروبية – ESA» في محطة الفضاء الدولية. يحتوي مختبر العلوم والتكنولوجيا هذا على مجموعة كاملة من المعدات البحثية، وتتركز الأبحاث العلمية فيه على تطوير الاكتشافات العلمية، وإيجاد أفضل التطبيقات الممكنة التي تتناسب مع الأشخاص على الأرض. هذه التطبيقات تفيد في عمليات التحضير لمهمات استكشاف الفضاء مستقبلًا بمشاركة البشر.

مختبر كيبو الياباني

وحدة التجارب أو المختبر الياباني «كيبو – Kibo»؛ الذي يعني «الأمل» باللغة اليابانية. تتركز التجارب والأبحاث فيه على أبحاث الطب الفضائي، علوم الأحياء، رصد كوكب الأرض، إنتاج المواد والتكنولوجيا الحيوية، وأبحاث الاتصالات.

يتكون المختبر من عناصر متعددة. اثنان من المرافق البحثية، وحدة ضغط، المرافق المكشوفة، وحدة المرافق اللوجستية، نظام المناورة عن بعد، ووحدة اتصالات داخلية بين المدارات. كما يحتوي المختبر على غرفة علمية يتم من خلالها نقل التجارب العلمية خارج المحطة وتعريضها للبيئة الخارجية في الفضاء.


الأبحاث البيولوجية

في مختبر كولومبوس في قسم الأبحاث البيولوجية؛ يدرس العلماء تأثير الجاذبية المنخفضة، والإشعاع الفضائي على الكائنات الحية سواءً أكانت كائنات أحادية الخلية مثل البكتيريا، أو متعددة الخلايا مثل الحشرات، الكائنات الحية حقيقية النواة، والبذور النباتية.

المناعة في الفضاء

إذا نظرنا لآلية عمل الجهاز المناعي في الكائنات الحية؛ فإن «كريات الدم البيضاء – leukocytes» هي خط الدفاع الأول المسئول عن سلامة الكائن الحي. تقوم كريات الدم البيضاء بمهاجمة البكتيريا أو الأجسام الغريبة التي تدخل الأنسجة الخلوية، وتغلفها بغشاء بلازمي، ومن ثم تقوم بإطلاق الأكسجين داخل الغشاء لتدميرها. تسمى هذه العملية باسم «البلعمة – phagocytosis».

في ظروف الفضاء وتحت تأثير الجاذبية الصغرى يقوم العلماء بإجراء تجارب معينة باستخدم وحدة التجارب المعملية «TripleLux-B»، حيث تقارن الاستجابات الجينية والمناعية والخلوية لآلية عمل خلايا الكائنات الفقارية واللافقارية على المستوى الخلوي.

من خلال هذه المقارنة يدرس العلماء المناعة في فئران التجارب. حيث يتم دراسة التأثير السلبي لعوامل الفضاء مثل الجاذبية الصغرى على بيئة العمل في المستوى الخلوي لآلية المناعة، وملاحظة التغيرات في الآليات الوراثية التي تنشأ تحت هذه الظروف؛ بما فيها إصلاح الحمض النووي. يؤدي التواجد في الفضاء تحت تأثير الجاذبية الصغرى إلى ضعف وظائف المناعة في الكائن الحي.

شتلات زراعية

تحتاج أيّ نبتة زراعية إلى ضوء الشمس كعامل محفز لعملياتها الداخلية حتى تبصر الحياة. وعلى متن المحطة الدولية في الفضاء الخارجي؛ تتكيف النباتات على التواجد في بيئة ضوئية صناعية لفترة زمنية تصل إلى نحو 16 ساعة.

يقوم علماء النباتات في المحطة الدولية بإجراء التجارب لمعرفة تأثير الجاذبية المنخفضة، والضوء على آلية عمل الإشارات الخلوية لخاصية «الانتحاء الضوئي – phototropism» – المعروف بأنه الاستجابة الخلوية لمحفزات الضوء- وهنا في ظروف الفضاء الخارجي.

تعمل هذه التجارب على فهم أكثر لطريقة إنبات النباتات في بيئات فضائية متنوعة، يمكن الاستفادة منها في نظم دعم الحياة الحيوية للبشر في سيناريوهات استكشاف الحياة في الفضاء مستقبلًا.

يدرس العلماء نباتًا يدعى (رشاد أذن الفأر – Arabidopsis)، حيث يتم رصد ودراسة تأثير وآثار الجاذبية على استجابته للضوء. هذا النوع من النباتات تحديدًا يقدم فهمًا أفضل لآلية استجابة الإشارات الخلوية للانتحاء الضوئي.

كما تتركز أبحاث النبات في برنامج المحطة الدولية على إنماء الخلايا الجذرية وانتشارها، حيث تعتبر هذه العملية أساسية من أجل تطوير البرنامج.

تمايز الخلايا الجذعية

التمايز الخلوي؛ هو الميزة الخاصة لنمو الخلية وانقسامها. وأثناء عملية النمو والانقسام هذه؛ تتغير الخصائص الفيزيائية والوظيفية للخلايا لتشكل أعضاء الجسم المختلفة.

تتميز الخلايا الجذعية بإمكانياتها الهائلة على التطور إلى أي خلية أخرى في جسم الكائن الحي. يمكن أن تنمو لتصبح جزءًا عظميًا، أو عضوًا كاملًا، أو جزءًا من الدماغ. لذا فإنها يمكن أن تساعد وتساهم كثيرًا في إصلاح أجزاء، أو أعضاء تالفة في أجسادنا، أو يمكن الاستفادة من قوتها على التشكل هذه بأي وسيلة متطورة أخرى.

في مختبر كيبو الياباني؛ يتم إجراء تجارب الخلايا الجذعية. يقوم الفريق البحثي بتجميد خلايا جذعية مأخوذة من أجنة فئران، وإبقائها في الفضاء فترة زمنية تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات. يتم إعادة هذه الخلايا إلى الأرض؛ ويتم زرعها في فأرة حية للنمو.

يأمل الباحثون من هذه التجارب فهمٍ أكثر لكيفية تأثر الخلايا الجذعية بالإشعاعات الفضائية، والجاذبية الصغرى. كما يصر الفريق البحثي على أهمية دراستها؛ من أجل معالجة مشكلة فقدان كثافة العظام بسبب انعدام الجاذبية في الفضاء.


أبحاث الفيزياء

يوجد في مختبر كولومبوس فرن «التعليق الكهرومغناطيسي – the Electromagnetic Levitator»؛ الذي يستطيع تسخين المعادن إلى درجات هائلة تصل لنحو ألفي درجة مئوية؛ ثم يتم تبريدها بسرعة. إجراء هذه العملية في الفضاء؛ تقدّم لعلماء الفيزياء فهمًا أكبر لتأثير عملية التسخين والتبريد سريعًا على ذوبان وتكوّن المعادن في بيئة منخفضة الجاذبية.

يمكن تسخين المعادن في الفراغ أو في الغاز. وتراقب هذه العملية كاميرات عالية السرعة، وأجهزة استشعار تسجل درجة الحرارة، والمتغيرات الأخرى التي تحدث للمعدن. يتم إعادة المعادن إلى الأرض لبعد تبريدها لإجراء فحوصات ودراسات أكثر عليها.

Magnephas

تستخدم في هذه التجربة؛ كاميرا عالية السرعة لمراقبة السبائك؛ مثل الحديد والكوبالت والنيكل أثناء عملية التعليق الكهرومغناطيسي. أهم مرحلة في هذه التجربة؛ هي لحظة وصول المادة إلى حالة جديدة مثل السائلة أو الصلبة.

Metcomp

في هذه العملية؛ يتم ملاحظة كيف يؤثر انعدام الجاذبية على الهيكل المعدني لسبائك النيكل – التيتانيوم. على نطاق ذري؛ تحدث عملية تلامس بين جزيئات المعادن الصلبة والمعادن السائلة الأخرى. يؤدي فهم طريقة إتمام هذه العملية إلى استحداث سبائك معدنية أكثر غرابة، أو تحسين سبائك معقدة الموجودة بالفعل.


الأبحاث البيئية

خارج غلافنا الجوي؛ يوجد الإشعاع الفضائي بمستويات خطرة تصل ضعف مستواه على الأرض بنحو 15 مرة. يعمل جهاز الكشف الإشعاعي «DOSIS-3D» على قياس مستوى الإشعاع الفضائي داخل المحطة الدولية، وتخطيط توزيعه داخل الوحدة. كما يساعد روّاد الفضاء على فهم طبيعة إشعاع الفضاء، وكيف يخترق جدران المحطة.

الطاقة الشمسية

الطاقة الشمسية هي مصدرنا للحياة على الأرض. وتخبرنا دراساتنا للشمس عن طبيعتها، وأهميتها، وخطرها الذي يجب أن نحمي أنفسنا منه. تزودنا دراساتنا العلمية عن الشمس؛ بأهمية تزويد الأقمار الصناعية ومسباراتنا الفضائية بالمواد التي تعزلها وتقيها من خطر شمسنا.

ومن أجل دراسة الشمس بشكلٍ أكبر؛ وضعت مزيج من الأدوات خارج مختبر كولومبوس، حيث تحدد الإشعاعات الشمسية مثل الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية بدقة عالية جدًا. كما تستخدم أيضًا أجهزة استشعار خاصة لقياس درجة حرارة الشمس، وكل خواصها.

أما عن التنبؤ بكيفية تصرف الشمس؛ فيقوم العلماء بإنشاء نماذج محاكاة حاسوبية معقدة لبناء نجم افتراضي يضاهي الشمس. وبالمزيد من البيانات التي يستمدونها منها يمكن للعلماء تحسين وصقل نماذجهم لدراسات أكثر. هذه النماذج هي خطوة مهمة نحو فهم تأثير المناخ على الأرض، وتأثير البشرية على مناخهم الأرضي أيضًا.

في النهاية؛ إذا أردت أن تفهم أكثر عن طبيعة الكون، فالأرض وحدها ليست كافية. فالكوكب قد تشكل بالفعل بتجميع ذراته في فضاء كوني منذ مليارات السنين، تحت ظروف الجاذبية الصغرى، والإشعاعات الكونية الخطرة.

فتجارب مختبرات المحطة الدولية؛ ربما تكون عملية تطوير هائلة للطريقة التي يعيش من خلالها البشر على الأرض، أو تكون مجرد إعادة المادة لأصلها في الفضاء لمعرفة المزيد عنها؛ من أجل التجهيز لرحلة جديدة نعيش من خلالها في نمط حياة جديدة، على كوكب جديد، في مجرة بعيدة. من يدري!