ليس هناك أكثر راهنية في أي وقت من تاريخ هذه الأمة، من القرآن و طرائق التعامل معه؛ لا فرق في ذلك بين أزمنة قديمة وأزمنة حديثة. فـ «النص القرآني احتفظ بمكانة مرجعية في المنظومة الثقافية العربية على الرغم من طبيعة التحولات التي عرفتها المجتمعات في علاقتها بالمقدس طيلة الفترة الحديثة» كما يقول النيفر في كتابه «الإنسان و القرآن وجها لوجه»، بل وكما يؤكد، فإن هذه المرجعية تدعمت حديثًا من جراء اهتمامات معرفية حديثة أدخلها إلى حقل الدراسات القرآنية مشتغلون جدد أتوا من خارج دائرة «أهل الذكر»[1]. إن نظرة على حقل الدراسات القرآنية المعاصرة تطلعنا على كوننا أمام خارطة فكرية شديدة الاتساع والتشابك والانطلاق من مرجعيات وأهداف ومنهجيات مختلفة، تدور كلها حول القرآن وكيفية قراءته، وتضع إشكال النص وطبيعته ووظيفته في قلب اهتمامات الفكر العربي، وتجعل مهمة بحث آليات قراءته أحد أهم المهام التي على الفكر العربي إنجازها إن لم تكن المهمة الأكبر على الإطلاق.

ويعد فكر طه العلواني من أهم المواقع فوق هذه الخارطة الفكرية باتساعها وتشابكها. فهذا الفكر بأكمله دائر حول القرآن واستعادة حاكميته، ومحاولة تحديد ملامحه بغية وضع منهجيات لتدبره تتجاوز المنهجيات التراثية لتنطلق من «منهجية القرآن المعرفية» ذاتها بالأساس. ولأن منهجية التفسير ليست محض أداة بل «جملة المفاهيم الأساسية التي تؤطر النص من حيث طبيعته وحركته ووظيفته»[2]، فإن هذا التجديد المنهجي ينتهي كما سنوضح لتغيير وظيفة المفسر وهيئته ومعنى التفسير ذاته مما يعطي لخطاب العلواني ثقلا خاصا في حقل الدراسات القرآنية.

فكون القرآن جملة واحدة هو الذي يبرر مشروع تفسير القرآن بالقرآن، والذي نشر منه الدكتور في حياته نواة أولى في تفسير الأنعام.

كذلك فإننا نجد أن أهم ملامح القرآن كما يراها هذا الخطاب، أي «وحدته البنائية» و «تميز لسانه» الممنطلقين من حاكميته، تعد هي الركن الأساس في هذا الخطاب بأكمله والنقطة المركز التي تتبديء منها الحركة في محاور الخطاب الثلاثة: نقد التراث، وتفسير القرآن بالقرآن، ومحاولة التوصل إلي المقاصد العليا الحاكمة للقرآن. فهذه المحاور الثلاثة كلها تنطلق من كون القرآن خطاب تتمثل أهم ملامحه في احتفاظه بوحدة تجعله يقرأ كجملة واحدة دون تجزئة.

فهذه «الوحدة البنائية» هي التي تبرر نقد ومراجعة علوم القرآن التراثية، حيث تقوم هذه الأخيرة بتجزئة القرآن لآيات أحكام وآيات عقائد، ولناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وتحتم الاتجاه نحو بناء منهجية جديدة تستطيع التعامل مع القرآن انطلاقًا من تلك المحددات التي تفرضها ملامحه الخاصة. كذلك فإن هذه الفكرة هي التي تعطي هذا النقد والتجاوز للتراث صفته الخاصة تلك كنقد ابستيمي معرفي يشتغل على آليات التعامل مع القرآن في هذا التراث، وكيفية موقعته في مصادر التشريع وطبيعة العلاقة المتصورة له مع الوقائع، وترفعه عن كونه مجرد نقد مضموني يشتغل على بعض أفكار محددة ومكرورة. كذلك فكون القرآن جملة واحدة هو الذي يبرر مشروع تفسير القرآن بالقرآن، والذي نشر منه الدكتور في حياته نواة أولى في تفسير الأنعام، بالإضافة لعدد من السور في طريقها للنشر. فبسبب الوحدة البنائية للقرآن فإن القرآن يفسر بعضه بعضًا، لا على مستوى الآيات التي لا يمكن فهمها إلا باستحضار أخرى فحسب، أو على مستوى وحدة السورة المتمثل في احتواء كل سورة على عمود أو أعمدة تمثل محورها الأساس، بل على مستوى الوحدة الأدق، «الكلمة» بل حتى «الحروف المقطعة»، فكلمات القرآن تفسر بردها بعضها إلي بعض، للخروج بمعنى «المفردة القرآنية» والتي لا تماثل اللسان العربي بل تختلف عنه وتتميز بتحملها بدلالات جديدة تختلف عن دلالات العربية القرشية، وهو ما يربط فكرة الوحدة البنائية بفكرة لسان القرآن ليفصل تفسير الدكتور في بعض السمات عن ما يسمى بالتفسير الموضوعي الذي ربما يكتفي بضم الآيات الخاصة بموضوع معين للخروج بقول القرآن فيه، تاركًا تلك الخطوة التي لابد أن تسبق هذا الإجراء وتتساوق معه، أي تحرير «المفردة القرآنية».

كذلك فإن فكرته عن المقاصد العليا القرآنية الخمسة الحاكمة: التوحيد، العمران، التزكية، الدعوة، الأمة؛ وبردها للقرآن «حاكميته التشريعية ابتداءً وكشفًا وإنشاءً»، كذلك بكونها تجاوزًا تطبيقيًا لتجزئة القرآن وتوهم تعارضه الملجئ لتقنيات رفع التناقض مثل النسخ وخلافه؛ فإنها وكما يقول العلواني في مقدمته لكتابه «التوحيد والتزكية والعمران»، تبرز الوحدة البنائية للقرآن، حيث تنطلق من الإيمان بهذه الوحدة كأهم ملمح للنص والمحتم لمنهجيات خاصة في التعامل معه.

تبرز فكرة المقاصد الخمسة العليا الوحدة البنائية للقرآن، حيث تنطلق من الإيمان بهذه الوحدة كأهم ملمح للنص والمحتم لمنهجيات خاصة في التعامل معه.

هذه الفكرة الأخيرة، أي فكرة المقاصد الحاكمة، تحتل أهمية خاصة في فكر العلواني. وفي ظننا، فإن هذه الفكرة تعد هي الفضاء الذي يتأسس فيه تجديد خطاب العلواني للتفسير. فهذه المقاصد هي كسر لاحتجاب النص عن العالم، حيث تعمل هذه المقاصد كوسيط بين عالم الإنسان: غيبه ومجتمعه وأمته وذاته، وبين كلام الله عنهم، لنقل المحورية من النص إلي الفعل الإنساني[3]، حيث يكون محور التفكير هو الفعل الإنساني ويكون النص هو مصدر تقييم هذا الفعل والتشريع له. وهذا يجعل فكرة الوحدة البنائية، ورغم تعلقها بملامح القرآن كنص إلا أنها لا تقف عنده، حيث تفتح هذا النص على الواقع، مما يجعلها تحقق هدفًا رئيسًا لمشروع العلواني وهو إخراج القرآن من مجالس الدرس والحوزات العلمية المتخصصة ليعود كتابًا يتم تدبره من الجميع ويحوِّل العلاقة معه لعلاقة حوار دائم، وهو الفعل الذي يغير معنى التفسير نفسه.

وفي حقيقة الأمر، فنستطيع التعامل مع خطاب العلواني بأكمله على كونه تفسيرًا للقرآن؛ هذا برغم عدم إنجازه مشروع تفسير مكتمل، لكن كل ما كتبه ينضوي تحت معنى التفسير، فقط لو حاولنا التخلص من تلك الحمولة الدلالية التي تحملها كلمة التفسير ووظيفة المفسر في أذهاننا، حيث أن التفسير يحضر في خطاب العلواني بمعنى جديد، ويحمل ملامح خاصة في تصوره للقرآن ولوظيفة المفسر وهيئته. فالتفسير عند طه ليس علاقة مغلقة بين عنصري المفسر والنص مؤدَّاها تحصيل معانيه كما عند المفسر التقليدي، بل يقوم على «منهجية القرآن المعرفية» وفي مركزها منهجية الجمع بين القراءتين: قراءة القرآن «كتاب منزل متلو معجز»، وقراءة الكون «كتاب مخلوق مفتوح»[4] مما يدخل الكون بمعناه الواسع الذي يشمل الإنسان وتجاربه البشرية كعنصر ثالث في عملية القراءة، فضلا عن احتلاف هيئة المفسر عند طه عنه في الإطار التقليدي، أو فلنقل إن المفسر التقليدي المحترف في خطاب طه يخلي موقعه ليحل محله «المتدبر»، والمتدبر هو كل مسلم وليس المختص بالتفسير فحسب. كذلك فالتدبر مفهوم أكثر تركيبا من التفسير، حيث يتعالق بمفاهيم: النظر، والتبصر، والفكر المتحرك لا الفكر الكسول[5].

هذا التغير الذي يشهده معنى التفسير وتشهده وظيفة المفسر وهيئته يجعلنا لو سايرنا أحميدة النيفر في اعتباره هاتين الصفتين محددين رئيسين في تمييز مدارس التفسير المعاصرة بين التقليد والتجديد، نضع فكر العلواني في جانب التجديد وإن كان من فوق أرض شرعية لا معرفية حديثة كالمفكرين الذين ذكرهم النيفر تحت عنوان التجديد (ألم نقل إن خارطة الدراسات القرآنية شديدة التشابك؟!).

إذن، وإذا كانت فكرة «الوحدة البنائية» للقرآن، وما يرتبط بها من فكرة تميز «لسان القرآن» كملامح لكتاب يرغب خطاب طه في استعادة حاكميته، هي الفكرة المركز في هذا الخطاب بحيث يبتدئ الخطاب منها ويعود إليها وينفتح مع آثارها على معنى التفسير ووظيفة المفسر: فإن اقتراب أكثر مما تعنيه تحديدًا هاتين الفكرتين وما يمكن أن تعِدا به في حقل الدراسات القرآنية بصورة أكثر تفصيلا يعد أمرًا غاية في الأهمية لاستيعاب هذا المشروع والتطلع لآثاره وما يفتحه من إمكانات.


الوحدة البنائية

إن كون نقد التراث عند طه هو نقد معرفي يشتغل على الأدوات، لا يعني في حقيقة الأمر أنه قام بالتخلص من هذه الأدوات ليضع محلها أدوات حديثة ومعاصرة منتقاة من التأويليات المعاصرة، بل تعني محاولة الخروج بمنهجية قرآنية كبديل عن المنهجيات التراثية والمعاصرة كليهما. أيضًا، فإن طه لا يقطع تمامًا مع التراث الأصولي والتفسيري والبلاغي الذي ينتمي له بكل قوة؛ هذا لأنه يعتبر أن غلبة المناهج التجزيئية وشيوع الإسرائيليات في التفسير والعلاقة غير المنضبطة بين القرآن والسنة، والقرآن والكتب السابقة، والقرآن ولغة الشعر الجاهلي في هذه الآليات –مما يعني جملة إهدار حاكمية القرآن- لا يعني أبدًا غيابًا تامًّا لفكرة الوحدة البنائية للقرآن عن هذا التراث. لذا، فإنه يجتهد كثيرًا في البحث عن ملامح وبقايا هذه الفكرة في التراث ليعيد استثمارها من جديد داخل خطابه. وإذا كان لا يجد ما يواصل فكرته في تراث الأصوليين وعلماء الكلام وجمهرة المفسرين، إلا أنه يجده عند البلاغيين و أصحاب البيان، في حديثهم عن «فلسفة التحدي» و «الإعجاز» و «نظرية النظم» من الجاحظ إلى الجرجاني، بالإضافة لبعض أفكار متناثرة لابن العربي والرازي حول وحدة السور وتناسبها الداخلي أو تناسب السور في ترتيب المصحف[6]، مما يؤكد أن هذه الفكرة على جدتها فهي ليست مخترعة، بل هي في نظره قائمة ومحايثة للقرآن. فهي و «نظرية النظم» يشكلان حجر الزاوية في المنظومة الداخلية التي أودعها الله هذا الكتاب؛ بالرغم من أن ولادتها كفكرة وكمبدأ منهجي جاء متعسرًا كما يقول.

إن طه يقلب تصور آية السيف عبر اشتغال معرفي بأدة منهجية تنطلق من تعالي القرآن، مما يؤكد كون القرآن هو الأساس لنقد ومراجعة التراث.

وكما قلنا فإن «الوحدة البنائية» بما تفضي له من فكرة «المقاصد العليا»، تعني نقلنا للحوار مع القرآن حول كل الإشكالات التي تتعلق بعلاقة المسلم بذاته وبغيره. ولعل هذا ما جعل إشكالا مثارًا في الآونة الأخيرة مثل علاقة الإسلام بالعنف ومعنى الدعوة قرآنيًا ودلالة الجهاد وموقع الآيات الخاصة بقتال المشركين يشغل العلواني كثيرًا. فانشغال العلواني بهذا الإشكال ليس لراهنيته فحسب، بل لأنه يتعلق بأحد المقاصد الخمسة المتمحورة حول الفعل الإنساني[7]، أي «مقصد الدعوة» المتعلق بعلاقة المسلم بغير المسلمين. وإذا كان الدكتور يتبنى في هذه القضية رأيًا يدور حول كونها قضية مفتعلة، وينبني على اعتبار القرآن لا يحوي أي دعوات لممارسة العنف المقدس تجاه غير المسلمين، فإن ما يميز خطاب طه في هذه النقطة لا مضمون رأيه بل المنهج المستخدم للتوصل إليه، والذي توفره له فكرة الوحدة البنائية.

فعبر هذه الفكرة يخرج دكتور طه تمامًا من الخلاف الشهير حول آيات القتال، وكون آية براءة، أو المسماة بآية السيف، ناسخة لبقية الآيات. فلا يبني طه خلافه مع هذه الآراء كما البعض حول أي هذه الآيات ناسخة و أيها منسوخة، بل يخرج من تقنية النسخ نفسها التي سببت كل هذا الخلط المفهومي في رأيه، لكنه لا يخرج من هذه الآليات تجاه تقنيات تأويلية معاصرة بل تجاه البحث عن القول القرآني في مجمل آيات القتال كآيات لها وحدة بنائية لا يمكن فهمها من دونها، ليخرج بقراءة مفصلة ومحكمة عن آيات القتال يقسم فيها أنواع المشركين في الخطاب القرآني، ويتوصل فيها لكون القرآن حدد طرقًا مختلفة للتعامل مع كل صنف من أصناف المشركين، ويقرأ آية براءة الشهيرة قراءة جديدة داخل هذا الإطار الأكثر اتساعًا، ليعتبر أن الدعوة للقتال كانت لناكثي العهد من الأصناف الست للمشركين فقط[8].

إن طه يقلب التصور لهذه الآية تمامًا، لا عبر اشتغال مضموني جديد بنفس الآليات القديمة ولا عبر إقصاء كل هذه الآيات انطلاقًا من علاقتها بظروف تشكلها عبر تبني مناهج حديثة اجتماعية وتاريخية، بل عبر اشتغال معرفي بأدة منهجية تنطلق من تعالي القرآن، مما يؤكد هذا المحور الأساس في فكر طه، وهو كون القرآن الأساس لنقد ومراجعة التراث. هو مبتدأ هذا النقد والمصاحب له والغاية الواصلة منه.

ولعل هذا أكثر ما تعد به هذه الفكرة ثراءً، أي ضرورة مسائلة الأدوات التي نتعامل بها مع القرآن كنص له خصوصية بنيوية، ومحاولة اكتشاف بعض الملامح الخاصة به والتي وإن كانت ربما لا تعطينا صورة خاصة ومحتمة للمنهج الذي علينا التعامل به معه، فإنها على الأقل تسطيع كشف محدودية كثير من المنهجيات سواء القديمة أو المعاصرة.


لسان القرآن

كما قلنا يرتبط بهذه الفكرة فكرة أخرى هي تميز لسان القرآن عن اللسان العربي؛ بمعنى أن القرآن: لغته وأساليبه وتراكيبه، ليس مجرد لسان عربي، بل هو لسان له أساليبه الخاصة وتراكيبه المتميزة ومفرداته المستقلة التي تستوعب دلالات الكلمة في عصر التنزيل وتتجاوزها نحو وحدات أعلى. ولأن القرآن جملة واحدة، فلا بد من اكتشاف ما تعنيه كل مفردة داخل هذه الجملة. فكما قلنا فإننا نستطيع اعتبار فكر العلواني عبارة عن نفسير للقرآن بالمعنى الجديد الذي يحمله خطابه عن التفسير.

تميَّز لسان القرآن عن اللسان العربي، بمعنى أن القرآن ليس مجرد لسان عربي، بل هو لسان له أساليبه الخاصة وتراكيبه ومفرداته.

ومن أهم خطوات إنجاز هذا التفسير والوصول لفهم القرآن بوحدته البنائية كجملة واحدة، خطوة بلورة معجم مفاهيمي قرآني -ولنضف أيضًا ربما: معجم تركيبي وأسلوبي قرآني- وهو ما يتبدَّى لكل قارئ للعلواني باعتباره عمود فقري لفكره. فكل المفاهيم التي يتحرك فيها هذا الخطاب: التدبر، الأمة، العمران، حاضرة كمفاهيم قرآنية. بل إن نقد العلواني لما أسماه الآليات التجزيئية مثل الناسخ والمنسوخ، يقوم هو أيضًا على فكرة المعجم المفاهيمي القرآني، حيث يعيد طه تعريف النسخ وتعريف الآية من داخل القرآن، رافضًا تلك المعاني الاصطلاحية التي حُملت على القرآن لانطاقه بجدوى ومشروعية هذه الآليات التي استخدمها الأصوليين والفقهاء[9].

إن المفهوم القرآني وفقا لطه تم سجنه من قبل المفسرين واللغويين في دائرة الرجز والشعر الجاهلي، وتناقلوا جيلا بعد جيل، المعنى الضيق الذي التزموا به انطلاقًا من هذه الفرضية الخاطة: القائمة على اعتبار «الحاكمية على لسان القرآن، للغة العربية، ولقراءة الآيات وكأنها كيانات مستقلة لا رابط بينها، في حين تأبى حاكمية القرآن هذا. فإنه وإن كان بالإمكان الاستئناس بما ورد عن العرب من قريش ومن إليها ممن نزل القرآن بلسانهم للحصول على مزيد من الفهم، يبقى القرآن متعاليًا مستوعبًا و متجاوزًا»[10].

ويعد تحديد العلواني لمفهوم كلمة «رجا» كمفهوم قرآني مختلف عن المعنى اللغوي والذي قام في كتابه «لسان القرآن» عبر دراسة دقيقة لدلالة المفهوم قبل التنزيل وفيه، عبر دراسة بعض نماذج تعامل المفسرين معها، مع تحديد المفهوم القرآني للمقاصد الخمسة الحاكمة: نواة شديدة الأهمية في إطار صياغة معجم مفاهيمي قرآني. وهي نواة في ظننا قابلة للتطور لا في سياق التوصل لتحديد مفاهيم جديدة فحسب، بل كما قلنا لتحديد معجم تركيبي ومعجم أسلوبي يتعلق بتركيبات وأساليب قرآنية تختلف هي أيضًا عن التراكيب والأساليب المعهودة جاهليًا. فضلا عن كون فكرة المقاصد ككليات قرآنية تساعد في تشكيل المعجم وترابطه كشبكة من المفاهيم بحيث تمثل هذه الكليات مركزًا لهذه المفاهيم[11].

ولعل من أكثر ما قد تعد به هذه الفكرة ثراءً، قدرتها على التداخل مع النقاش القديم الجديد حول عروبة وأعجمية بعض الألفاظ والتراكيب والأساليب القرآنية، بإرجاع كل ما لم ينصرف أو يركب على أساليب النحاة والبلاغيين العرب للسيريانية أو اليونانية أو الآرامية. وهو الخلاف الذي تجدد إثر بحوث آرثر جيفري ويوسف الصديق وكريستوف لوكسنبورج وغيرهم. فربما يعِد هذا المعجم المفاهيمي باكتشاف أن هذه الاختلافات بين لغة وأساليب القرآن ولسان قريش مرده فحسب لتميز اللسان القرآني وتفرده لا لوجود لغات أخرى داخله!


التأسيس الرأسي والـتأسيس الأفقي

انطلاقًا من خلفية أصولية متينة قام العلواني عبر كتاباته بتأسيس خطابه وفكرته المركزية حول ملامح الخطاب القرآني في هذا التراث وعبر الحوار معه، كالمثال الذي ذكرنا عن تأسيسه لفكرة الوحدة البناية وتبلورها كولادة متعسرة فيما يمكن اعتباره تأسيسًا رأسيًا للخطاب. لكن ما ينقص خطاب العلواني وما نظنه خطوة هامة في تأسيس هذا الخطاب هو التأسيس الأفقي، بفتح فكر دكتور طه على الأفكار المعاصرة الدائرة حول القرآن والتفسير، والتي ربما لا تتوقف لحظة. فكما قال النيفر في الكتاب سالف الذكر، فإن أكثر من عشرين تفسير قد صدروا في القرن الأخير!

ومن أهم التفاسير الحديثة والتي تقارب كثيرا فكر الدكتور وتغري الباحث بالمقارنة بينهما، هو هذا التفسير الصادر سنة 1987 لسماحة تقي الدين المدرسي العلامة والمرجع الديني العراقي بعنوان «من هدي القرآن». فهذا التفسير والذي وصفه أحد الباحثين هو السيد محمود الموسوي باعتباره «تفسيرًا رساليًا»، بمعنى أنه «يعتمد على إسباغ صفة المسؤولية على الإنسان في أعماله، وأن يكون ذا رسالة يتحمل مسؤولية تبليغها وتمكينها في المجتمع، ويتحمل الأذى في سبيل تحقيقيها، ويتبع بصائر القرآن الكريم في حركته في الواقع»[12]: يلتقي كثيرًا مع فكر دكتور طه حول التدبر وحول تغيير هيئة المفسر والتعامل المباشر مع القرآن وفتح القرآن على الحياة والواقع الشخصي والأمتي، وجعل الحوار هو مركز العلاقة معه. كذلك يلتقي كثيرا معه في استثمار ممكنات تراثية بطريقة جديدة ومتميزة، وفي كونه لا يترك الآليات التراثية لآليات حديثة بل لآليات تجتهد في أن تكون منطلقة من القرآن ذاته وملامحه الخاصة، خصوصًا وحدته البنائية[13].

وإذا كان الموسوي قد أشار بذكاء في دراسته لكون القصص القرآني هو أحد أهم جوانب المجال الرسالي لتفسيرالمدرسي، فربما يسعنا أن نشير لأهمية الأمثال في «تفسير طه المقاصدي» -ودوما بالمعنى الجديد للتفسير وللمقاصد الذي يجعل المقاصد نتاجا التفسير ويجعل التفسير تطبيقا للمقاصد في حياة المتدبر- وهذا لارتباط الأمثال كما كان يؤكد الدكتور دوما باكتشاف علماء المسلمين لـ «العلة» سواء في الفقه أو الكون، مما يعني كون الأمثال مجالا جيدا لتحريك فكرة الجمع بين القرائتين، مركز “منهجية القرآن المعرفية” تلك التي يبغي هذا الخطاب اكتشافها كمخرج من التأزمات التي نعيش.


[1] الإنسان و القرآن وجها لوجه، أحميده النيفر، ص9.[2] نفسه، ص17.[3] التوحيد والتزكية والعمران، طه العلواني، ص9.[4] الجمع بين القراءتين، طه العلواني، ص20.[5] أفلا يتدبرون القرآن، طه العلواني، ص84.[6] الوحدة البنائية لللقرآن المجيد، طه العلواني، ص38 إلى 62.[7] كما قلنا فإن العلواني يعتبر أن مقاصده تنقل المحورية من النص للفعل الإنساني، و هذه المقاصد تشمل فعل المسلم تجاه كل ما يتعلق به، تجاه الله «التوحيد»، تجاه نفسه «التزكية»، تجاه الكون «عمران»، تجاه أمته «الأمة»، تجاه غير المسلمين «الدعوة». لذا فإن سؤال العلاقة بالمشركين و ضابطها هي أحد أهم جوانب كشف المقاصد العليا الحاكمة.[8] نشرت هذه القراءة في مقال موجود على موقع الدكتور.[9] نحو موقف قرآني من النسخ، طه العلواني، ص11 إلي ص27. يرى العلواني أن معنى النسخ هو بيان انتهاء مدة «بني إسرائيل» أو ما يسميه بـ «الظاهرة الإسرائيلية»، وكل ما يتعلق بها من حاكمية إلهية وخوارق في العطاء و العقاب، وابتداء الشريعة الخاتمة شريعة التخفيف والرحمة، القائمة على حاكمية الكتاب والجمع بين القراءتين.[10] لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب، طه العلواني، ص76.[11] الانطلاق من المقاصد القرآنية كمركز لمعجم مفاهيمي قرآني تحقق تجاوزًا لإشكال اقتصار بعض الدراسات السابقة الطامحة للبحث عن كليات القرآن على أحد الشقين الأساسين لهذا البحث، أي الوحدة الموضوعية وتميز المفردات القرآنية. فمثلا نجد أن دراسة فضل عن المسائل الكبرى للقرآن، لا تلتفت للأهمية اللسانية المفردة القرآنية، في حين تقتصر دراسة ايزوتسو عن «الله و الإنسان في القرآن» على الانشغال اللساني مع غياب أساس منهجي مفهومي يحدد مركزا للدلالات القرآنية.[12] نشرت مجلة البصائر في عددها (45) ملفًا حول تفسير «هدي القرآن» للمدرسي، و هو حافل بدراسات جيدة للغاية.[13] فكرة وحدة السورة حاضرة عند الاثنين، ففكرة «عمود السورة» عند العلواني، يقابلها «سور السورة» عند المدرسي.