عمال وفلاحين وطلبة… دقّت ساعتنا وابتدينا… نسلك طريق مالهش راجع… والنصر قرّب من عينينا.

«شيد قصورك»، كتبها زين العابدين فؤاد، لحنها وغناها الشيخ إمام

كلمات بسيطة من أغنية «شيد قصورك» للشيخ إمام، ورغم بساطتها هذه فإنها تعبر بوضوح عن الدور الذي لعبته الحركة الطلابية بمصر في تشكيل الحركة الوطنية، سواء كان ذلك بمفردها أو بالتعاون مع الفئات الاجتماعية المختلفة من عمال وفلاحين.

وإذا كنت قد قرأت رواية «في بيتنا رجل» الشهيرة لإحسان عبد القدوس، أو شاهدت الفيلم المأخوذ عنها بنفس الاسم، فإنك تذكر بالتأكيد تلك الحادثة التي يفتتح بها الفيلم، حيث يتظاهر الطلاب فوق كوبري عباس فتقوم قوات الشرطة المصرية المتعاونة مع الاحتلال آنذاك بفتح الكوبري ومحاصرة الطلاب، مما أدى إلى سقوط عدد كبير منهم في المياه. لم تكن تلك الحادثة من وعي خيال الكاتب الراحل، وإنما هي إحدى الوقائع الكبرى لانتفاضة فبراير 1946 التي التحمت فيها المطالب السياسية الوطنية والمطالب الاجتماعية الاقتصادية، والتحمت فيها القوى الشعبية بجناحيها من الطلاب والمثقفين، ومن العمال. هنا نستعيد قصة تلك الصفحة من صفحات الحركة الوطنية المصرية.


انتفاضة فبراير/شباط 1946

استمرت الحركة الطلابية في التطور بمرور الوقت ومع تعدد الأزمات التي مرت بها مصر، إلى أن جاء التطور النوعي مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتشار الأفكار الاشتراكية في مصر. فلأول مرة يتم التنسيق بشكل كبير بين الحركة الطلابية والحركة العمالية في مطالب وطنية تم التعبير عنها من خلال تشكيل اللجنة الوطنية العليا.

وكان السياق الدولي آنذاك العامل المحفز لهذا التطور، فالحرب العالمية الثانية انتهت رسميًا، والآن تنتظر مصر أن تتجاوب بريطانيا مع مطالبها بعد ما قدمت من خدمات للحلفاء أثناء الحرب، إلا أن ما حدث كان مخيبًا للآمال.

ففي 20 ديسمبر/كانون الأول 1945 بادرت الحكومة المصرية برئاسة محمود فهمي النقراشي باشا بإرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تطالبها بإعادة النظر في معاهدة 1936 وبدء المفاوضات حول الجلاء، ولكن الرد البريطاني جاء في 26 يناير/كانون الثاني 1946 ليؤكد علي الثوابت الرئيسية التي قامت عليها المعاهدة ،والتي أعطت مصر استقلالًا منقوصاً يتمثل في بقاء قوات بريطانية في مصر لتأمين قناة السويس، فكان ذلك بمثابة صفعة لكل آمال الشعب، اندلعت على إثرها المظاهرات العارمة للطلبة في كل أنحاء مصر تطالب بالجلاء، ورفض أي معاهدة دفاع مع بريطانيا.

وبالفعل عقد الطلبة المؤتمر العام الأول في 9 فبراير/شباط 1946 في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، هاجموا خلاله مبدأ الدفاع المشترك مع بريطانيا الذي يحمل معنى الحماية الاستعمارية، وطالبوا بعدم الدخول في المفاوضات إلا على أساس الجلاء التام، فيما توجهوا بعد ذلك إلى كوبري عباس في مظاهرات حاشدة توصف بأنها الأكبر منذ قيام الحرب العالمية الثانية.

وما إن توسطت المظاهرات الكوبري حتى قامت القوات البريطانية بمحاصرة الطلاب من الجانبين، وفُتح الكوبري عليهم، مما أدى إلى انقسامهم بين طرفي الكوبري، كما بدأ الاعتداء عليهم فسقط العديد منهم في النيل.

أدت تلك الأحداث إلى قيام الملك بعزل النقراشي باشا من رئاسة الوزراء في 15 فبراير/شباط وتعيين إسماعيل صدقي بدلًا منه، إلا أن اختياره لم يكن جيدًا، فهو الآخر لا يتمتع بشعبية وسيرة جيدة.

نتيجة لذلك بدأت الحركة الطلابية التنسيق مع اللجان العمالية وتشكّلت بالفعل جبهة مشتركة بين العمال والطلاب وهي «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» والتي سرعان ما دعت إلى الإضراب العام وإعلان يوم 21 فبراير/شباط سنة 1946 يومًا للجلاء.

كانت الاستجابة لتلك الدعوة كبيرة، إذ اندلعت مظاهرات ضخمة في العديد من المدن، ونجح المتظاهرون في عبور كوبري عباس ووصلوا إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) حيث معسكرات الجيش الإنجليزي التي فتحت النار على الطلاب وأحدثت مجزرة كبرى، عمَّ على إثرها الغضب بمختلف أنحاء مصر، وأحدث ضغطًا دوليًا على الحكومة البريطانية، مما اضطرها إلى اتخاذ إجراءات عدة لتهدئة الأمور والحيلولة دون تصاعدها.

كان من أهم هذه الإجراءات استدعاء السفير البريطاني من مصر، وإعلان «كلمنت أتلي» رئيس الوزراء البريطاني في 8 مارس/آذار 1946 عزم القوات البريطانية على الانسحاب من القاهرة والدلتا وتمركزها بدلاً من ذلك في القاعدة البريطانية بمنطقة قناة السويس، حتى لا تصطدم مع الطلبة، كما ضغطت الحركة من جانبها على الحكومة لإلغاء المفاوضات مع الإنجليز من طرف واحد وهو ما تحقق في 1951 على يد رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا.


الوعي الطلابي يبلغ ذروته

لم تكن تحركات العمال والطلبة في انتفاضة 1946 ومطالبتهم بالاستقلال والعدالة الاجتماعية قضية منفصلة ومجتزئة في حد ذاتها، بل كانت بالنسبة لهم قضية مرتبطة بوضعهم الطبقي المأزوم، نتيجة التدهور الاقتصادي والتوسع الرأسمالي والهيمنة الاقتصادية للاحتلال.

فقد كانت مصر تعاني أزمة اقتصادية خانقة كنتيجة طبيعية لظروف الحرب العالمية الثانية، والتي حمّلتها أعباء فوق طاقتها؛ حيث ارتفعت نسبة التضخم وازدادت معه تكاليف المعيشة، كما تفاقمت أزمة البطالة بين خريجي الجامعة والعمال على السواء، إذ واجه نحو 1.3 مليون عامل البطالة، وأصبح هناك أكثر من 100 ألف من حملة الشهادات الجامعية عاطل عن العمل.

على هذا النحو أدرك كل من الطلبة والعمال أن تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، لن يتحقق سوى بالتخلص من الاحتلال (السبب الرئيسي في تدهور أوضاعهم)، ومن هنا تركزت مطالبهم الرئيسية على ضرورة إنهاء الاحتلال وإلغاء معاهدة 1936، والتي مثّلت قيدًا ثقيلاً على حركة مصر وأنقصت من سيادتها الوطنية.

وقد مثّل هذا تطورًا نوعيًا في الوعي الطلابي في مصر، فقد أدرك الطلاب التلازم بين ما هو سياسي واجتماعي، فمطالبهم السياسية المتعلقة بالاستقلال لن تتحقق دون تحقيق المطالب الاجتماعية لمختلف الفئات المهمشة، وهذه المطالب الاجتماعية لن يتم تنفيذها دون وجود حقوق سياسية تحميها مستقبلاً.

وبهذا تخلى الطلاب عن مطالبهم التي غالبًا ما كانت تدور حول مجموعة من الأمور الجامعية، أو السياسية البحتة، وبدؤوا الدفاع عن المطالب الاجتماعية للفئات المهمشة من العمال، وتضمينها جنبًا إلى جنب مع المطالب السياسية المتعلقة بالاستقلال ورحيل الاحتلال[1].

بالرغم من نجاح الانتفاضة في تقليص الوجود البريطاني في القاهرة والدلتا، وتركزه في قناة السويس، فإن لهيبها قد خمد بسرعة ولم تتمكن من تحقيق أهدافها الرئيسية المتعلقة بجلاء الاحتلال وتحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى موقف بقية القوى السياسية بالمجتمع من الانتفاضة، وفشل الحركة في الحصول على دعمها.

ففي مواجهة هذا التحرك الشعبي، كان على قيادة حزب الوفد أن تختار بين الحفاظ على الوضع القائم باعتبارها تعبر عن البرجوازية المصرية وتعبئة الجماهير ضد الاستعمار والقصر بما يهدد النظام الاجتماعي. بالطبع اختارت الحالة الأولى، فكانت مشاركة بعض العناصر الوفدية في الانتفاضة مجرد وسيلة لكسب ورقة ضغط لكي تستخدمها بعد ذلك وهي تتفاوض مع الاستعمار.

أما جماعة الإخوان المسلمين فقد انحازت لمحاولات إضعاف الصراع، حيث أنشئوا اللجنة القومية للطلبة، في محاولة منهم لإيجاد قوى موازية للجنة الوطنية للعمال والطلبة، كما رفض حسن البنا تدعيم التظاهرات على أساس أنه غير مستعد. وفيما يخص الماركسيون، فعلى الرغم من دورهم الفاعل إلا أنهم اكتفوا آنذاك بالقضية الوطنية كشيء منفصل في حد ذاته عن الصراع الطبقي، وساهموا بذلك في وأد الثورة نتيجة انفصال رغباتهم عما خرج من أجله العمال، مما أدى إلى إجهاض الحركة بالنهاية.


ماذا عن الواقع اليوم؟

لم تقف جهود الحركات الطلابية عند هذا الحد، فمجددًا عاودت للظهور بقوة عقب هزيمة يونيو 1967، فانطلقت المظاهرات الحاشدة في فبراير/شباط 1968 في جامعتي القاهرة وعين شمس ضدّ الهزيمة وما وصفوها بالأحكام الهزيلة التي صدرت بحقِّ قادة الجيش المسئولين عنها، مما اضطر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى إصدار قرار بإلغاء هذه الأحكام، وإحالة القضية إلى محكمة عسكرية.

كما تجدد الأمر ذاته في انتفاضة الخبز 1977 بعد قرار الحكومة برفع أسعار السلع الأساسية، بنسبة تصل إلى الضعف، حيث انتفض الطلاب مرة أخرى وشاركوا في المظاهرات بكثافة مع عمال المصانع وغيرهم، فجرى اعتقال المئات منهم، وسقط العديد من القتلى، مما أجبر الرئيس الراحل محمد أنور السادات بالنهاية على التراجع عن هذه القرارات.

وعلى الرغم من استمرار نشاط الحركات الطلابية في الظهور بين الحين والآخر مع الأزمات السياسية التي تمر بها البلاد، فإن الواقع اليوم يشير إلى حالة من الجمود. فاليوم يواجه الحراك الطلابي قيود عدة تحد من عمله،يأتي في مقدمتها توجيه تعليمات لرؤساء الجامعات بمنع الطلاب من ممارسة الأنشطة السياسية، وهو ما أعلنه رؤساء الجامعات تباعًا، هذا فضلًا عن تفاقم الوضع في الجامعات الخاصة والتي أجبر بعضها الطلاب على التعهد بعدم ممارسة السياسة. ثم تطور الوضع لاحقًا لكي تحظر الجامعات أي «أسر جامعية» لها ظهير سياسي.

كذلك تم اتخاذ العديد من الإجراءات القانونية والتي من شأنها تقليص صلاحيات الاتحادات الطلابية والحد من الأنشطة السياسية داخل أروقة الجامعة في مقابل توسيع صلاحيات إدارات الجامعات.

بالرغم من هذا التضييق فالتساؤل يظل قائمًا:

هل يعني ذلك اختفاء الحراك الطلابي؟

الإجابة بالطبع لا، فالجسد الطلابي لم يتحلل تمامًا، وإنما انتقل من التواجد بداخل المجال العام وبأرضية المشهد السياسي إلى مجال بديل وهو المجال الافتراضي الذي تم تخليقه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليشكل بديلاً أقل تكلفة سياسية وأمنية عن الانخراط في المجال السياسي بشكل مباشر، وذلك باستخدام أدوات افتراضية تمكن هؤلاء الطلاب من المشاركة دون التعرض لعواقب المشاركة الفعلية.

أخيرًا، يمكن القول إنه بالنظر إلى واقع الحراك الطلابي بمصر، فهو بمثابة مرآة عاكسة للمجتمع، فإذا كانت حدّة الاحتجاجات المناهضة للسلطة قد خفت، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك أيضًا على وضع الحراك الطلابي ليشهد المزيد من الجمود.

المراجع
  1. طارق البشري، الحركة السياسية في مصر، دار الشروق، 2002، ص154-160.