لا خلاف في أدبيات النظرية السياسية أن «أنطونيو جرامشي» هو واحد من أهم مفكري القرن الـ20، لكن ما أدعيه هنا هو أنه أهم مفكر ماركسي بعد «ماركس» على الإطلاق، وعن طريقه تم التمهيد للمشهد النقدي بداية من «ألتوسير، وحتى سلافوي جيجك، وجوديث باتلر» المعاصرين خصوصًا لاستعماله مطرقة من المفاهيم والأفكار النقدية.

هذه الأفكار النقدية يسميه (البراكسيس) تقوم بعمل قطيعة معرفية مع الأفكار الماركسية بشكليها التقليدي والدوجمائي، وتولي الاهتمام للممارسة النظرية والتصورات الواقعية، وما سأحاوله في هذا المقال هو البرهنة على ادعائي بخصوص موقع «جرامشي» من النظرية الماركسية، وإسهاماته النظرية بل والحركية في هذا الشأن.

تمثل الدولة بالنسبة لـ«ماركس» قمة الهرم التطوري لنمط البنية الفوقية، حيث تعتبر أداة لاستمرار البرجوازية، وتنظيم المجتمع.

يعتبر «ماركس» أحد أهم المنظرين السياسيين على الإطلاق، وبالتالي ففي قلب نظرته إلى العالم يكمن تصوره عن الدولة. والدولة بالنسبة له تمثل قمة الهرم التطوري لنمط الإنتاج الرأسمالي (البنية الفوقية)، فهي أداة استمرار البرجوازية، وتنظيمها للمجتمع وخصوصية سيطرتها عليه.

وفي الوقت نفسه هي نقطة نهاية تلك الطبقة، إذ ينظّر «ماركس» لضرورة سيطرة الطبقة العاملة على هذه الأداة وتحطيمها لإرساء أداة مُنظِمة جديدة عادلة خاصة بالمقهورين.

وهو [أي ماركس] يبدأ في باكورة حياته، وخصوصًا خلال فترة نقده لأستاذه «هيجل» بوضع عدد من الأعمال يوضح فيها تصوره عن الدولة مثل «نقد فلسفة الدولة عند هيجل» و«نقد فلسفة الحق» و«الأيدولوجيا الألمانية»، وهي أعمال تتناول مفاهيم الدولة وتشابكاتها مع المجتمع المدني.

ثم ينتقل «ماركس» إلى أهم أعماله، وسفره الأكبر «رأس المال» الذي أصبح، بعد كثير من الدمج والتعديل، يتناول 4 نقاط أساسية:

1. رأس المال.

2. الدولة.

3. التجارة الدولية.

4. السوق العالمية.

بيد أنه خلال انشغاله بتحليل نمط الإنتاج وبنيته الاقتصادية (رأس المال) الذي أنفق فيه «ماركس» فترة حياته الواعية مستغرقًا كل اجتهاده النظري من فترة 1843 إلى 1883؛ لم يوفّق إلى الانتقال للنقاط الأخرى التي كان قد قرّر تناولها.

بالتأكيد كانت لديه الرغبة النظرية للانتقال من تحليل البنية التحتية (نمط الإنتاج) إلى تحليل البنية الفوقية (الدولة والمجتمع السياسي)، لكن ذلك هو ما لم يتسنَّ له فعله. وعند جمع كل ما كتبه «ماركس» عن الدولة ومقارنته بأعماله الكاملة، فإنها تصنع 45 صفحة فحسب ضمن 42 مجلدًا.

يتحدث الكثير من المفكرين الماركسيين عن نفس الفكرة. فبحسب «ميليباند هيرست، وكارنوي»، ترك «ماركس» تراثًا عن الدولة عبارة عن مجموعة غير منظمة من التعليقات والتحليلات السياسية. وبسبب دراسته غير التفصيلية لبنية الدولة وتطورها بشكل واسع كما فعل مع رأس المال؛ فإن أغلب تصوراته عنها تظل منقوصة وقاصرة بقصور الزمان والمكان، وعينة الدراسة التي اهتم بالتركيز عليها (فرنسا وبريطانيا وألمانيا).

وعلى الرغم من أن الماركسية هي نظرية مرنة نقدية، وهذا ما يجعلها دائمًا غير مكتملة وفي حاجة إلى مساعدة أكثر من حقل معرفي لتحقيق مُرادها النظري، فإن فلاسفة الدولة الستالينية الدوغمائيين لم يفهموا ذلك.

وعن طريقهم تم تحويل كل ما قاله «ماركس» إلى عقيدة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بينما في الحقيقة كانت الطريقة الوحيدة لإكمال النظرية هي عن طريق الممارسة النقدية، وهذا هو الإسهام الذي سيقدمه «جرامشي» للماركسية.


عمن نتحدث؟

ولد «أنطونيو جرامشي» في 22 يناير/ كانون الثاني عام 1891 في سردينيا، وهي جزيرة فقيرة كانت الزراعة فيها متأخرة بفضل الظروف التي فرضتها سيطرة الشمال الإيطالي الأكثر تقدمًا ومدنية، وهي التي ستشكل أغلب تصورات جرامشي مستقبلاً كما سنرى.

تعرض والد «جرامشي» للسجن، وعاشت العائلة حياة صعبة وفي حرمان شديد. وفي سن السابعة، تعرّض «جرامشي» لحادثة تضرر فيها حبله الشوكي، وأصبح من وقتها أحدب، وعانى مشاكل صحية عديدة.

بعد إصابة «جرامشي» بالتحدّب، انطوى خلف ستار الخوف والاضطهاد، لكن إصابته أصبحت مصدر إصراره على الدراسة، حيث تقدم لمنحة تعليمية في جامعة تورينو لدراسة علم اللغة.

وفي مجتمع متأثر بالخرافات، جعلته هذه الإعاقة موضعًا للخوف والاضطهاد، ليصمم «جرامشي» على الدراسة، ثم يتقدم لمنحة تعليمية في جامعة تورينو لدراسة علم اللغة، وفيها تعرف على صديقيه «بالميرو تولياتي، وأنجلو تاسكا»، وغيرهما.

سوف يؤسسون فيما بعد صحيفة النظام الجديد (The Ordine Nuovo)، لينضم «جرامشي» بعدها 1913 إلى الحزب الاشتراكي الإيطالي، ويبدأ في كتابة المقالات المثيرة للجدل، ويشرع في تقديم محاضرات عن الثورة الفرنسية وكوميونة باريس، وعن ماركس، ثم عن تمجيد الثورة البلشفية ولينين.

وفي عام 1917، بدأت الطبقة العاملة في تورينو الرافضة للحرب في مهامها النضالية والقيام بأعمال شغب، ويتم اعتقال عدد كبير من الزعماء الاشتراكيين على إثرها، ثم القيام بإضراب عام 1920 وهي الحادثة التي ستؤثر في التوجيه الراديكالي لأفكار «جرامشي» عن ضرورة مقاطعة المنهج الإصلاحي وتأسيس حزب شيوعي ثوري جديد.

وهو ما كان، حيث تم انتخابه عضوًا في اللجنة المركزية للحزب تحت زعامة «أماديو بورديجا»، ليوجّه «جرامشي» اهتمامه بعدها إلى تحليل الحركة الفاشية الإيطالية التي بدأت في الهجوم، وازدادت لهجة خطابها بعد فشل الحركة العمالية في احتلال المصانع، ويقوم على إثرها بتحليل أزمة الديموقراطية الليبرالية، والحركة الجماهيرية الفاشية بعيدًا عن التسطيح والاختزال.

وفي عام 1924، أخذ «جرامشي» في تحويل الحزب الشيوعي الإيطالي إلى سلاح فعال ضد الفاشية. ونتيجة لحدوث ارتباك وحل تكتل المعارضة في البرلمان، بدأت الفاشية في التماسك وتوحيد أجزاء مختلفة من البرجوازية ،وتم اعتقال «جرامشي» عام 1926 على الرغم من تمتعه بالحصانة البرلمانية، ليبدأ في وضع خطة بحث يكون فيها المثقفون هم القضية المركزية التي سيعمل عليها طوال فترة سجنه.

حُكم عليه 20 عامًا وأربعة أشهر، قضى «جرامشي» نصفها في السجن يعمل على بحثه، حتى توفي في عيادة بروما 1937 نتيجة نزيف في المخ. وفي خلال تلك الفترة، كان قد كتب سبعة​ دفاتر خلال ثلاث سنوات من عام 1929 إلى 1931، وهي التي تم تطويرها في مسودة عشر كراسات تشكل جوهر كتابه «مذكرات السجن – The Prison Notebooks».

وفي هذه الكراسات العشر المركزية، يناقش فيها «جرامشي» أهم القضايا والتيمات التي شغلت فكره، دراسة الفلسفة وتاريخ المثقفين، وسياسات «ميكيافيللي» حول الوحدة الإيطالية، وحول الأمريكانية والفوردية.


المثقف العضوي

للمثقفين وضعية خاصة بالنسبة لـ«جرامشي»، فهم المُناط بهم الفعل السياسي والتأثير المهم في الحركة وتشكيل وعي الجماهير من خلال المجتمع المدني. وكما قلنا في البداية، فـ«جرامشي» هو مفكر القطيعة المعرفية بامتياز، فهو لا يأخذ التعريفات المتعارف عليها أكاديميًا للمثقفين في الحسبان، وإنما يهتم بتحليل الواقع المشاهد أمامه.

يعرّف «جرامشي» المثقف العضوي، بأنه المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ ويفرض تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضها على الطبقات الأخرى عن طريق الهيمنة.

يقول «جرامشي»:

إن كل الناس مثقفون، ولكن لايمارس كل الناس دور المثقف» (*p140). من ثمّ، فهو لا يميز بين أنواع الأعمال ويضع التقسيمات على أساس العمل الذهني والفكري واليدوي، كما كان متّبعًا في القرن الـ19، فهو يبيّن أنه حتى لو كان عمل الإنسان عضليًا بشكل خالص، فهو يقوم على مهارة ما يتعلمها من مثقف لديه معرفة كافية بهذه المهارة، ويساعد على تأهيله مهنيًا، بالإضافة إلى أن كل إنسان يمارس نوعًا من الثقافة والتذوق الفني والأدبي خارج مهنته بالضرورة.

فليس ثمة فعالية بشرية لا يدخلها جهد فكري، يستحيل عزل الإنسان الصانع عن الإنسان العارف. في الأخير، يمارس كل منا فعالية ذهنية معينة خارج نطاق اختصاصه المهني، إنه بعبارة أخرى فيلسوف أو فنان يساهم في تعزيز رؤية شاملة أو تغييرها أو يساهم في تشجيع أنماط جديدة للتفكير (p134). من ثمّ فهو يعرّف المثقف بوظيفته وموقعه داخل البنية الاجتماعية بدلاً من تقسيمه بين الفكري والعضلي.

وينتقل «جرامشي» نتيجة وضعية المثقف وعضويته في المجتمع إلى الحديث عن نوعين متقابلين من المثقفين؛ المثقف التقليدي والمثقف العضوي. يعرّف العضوي بأنه هو المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى من خلال «الهيمنة»، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية، والأداتية لضمان تقسيم العمل الاجتماعي داخل الطبقة من ثم استمرارها.

يقول جرامشي:

«كل جماعة اجتماعية، يظهر وجودها على الأرض الأصلية لوظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي، وهي تخلق بنفسها عضويًا»، طبقة أو أكثر من المثقفين يمنحونها تجانسًا ووعيًا بوظيفتها الخاصة ليس فقط في المجال الاقتصادي لكن في المجالين الاجتماعي والسياسي أيضًا» (p135).

بيد أن «جرامشي» لا يعرف المثقفين بشكل تقليدي، وإنما يتوسع في التعريف، ويضم كل من كان يمارس مهام عضوية بالمعنى العريض سواء في حقل الإنتاج الاقتصادي أو الثقافي أو الإداري، وهو ما يصطلح بتسميتهم بـ«الإنتلجنسيا»؛ وهي فئة عريضة من المتعلمين تعليمًا جيدًا يمارسون وظائف تقنية في المجتمع سواء مهندسين أو أطباء أو محامين أو موظفين في الدولة.

ويربط «جرامشي» ظهور المثقفين العضويين بنشأة البرجوازية والتي نمت في جنبات النظام الإقطاعي، والتي انسلخت منه تدريجيًا وبدأت صعودها بتوسع صناعاتها الصغيرة (المركنتيلية)، وقيام سوق آخذ في الاتساع شيئًا فشيئًا.

وبقيام الثورات الفرنسية وشيوع أفكار التنويريين والإنسيكلوبيديين أمثال «ديدرو وفولتير، روسو، مونتسيكيو»، وغيرهم، احتاج هذا النمط الجديد من الإنتاج إلى فئة من المثقفين تعمل على مصحلته وتضفي تجانسًا على بنية الطبقة الصاعدة الجديدة، وتساعدها في التوسع والانتشار، وحسمها للصراع مع النمط القديم (الإقطاعي) وهو ما كان سواء من خلال الثورة الفرنسية أو الثورة الصناعية في إنجلترا.

إلا أن هذا المثقف العضوي له عدو طبيعي؛ وهو المثقف التقليدي الذي هو نتاج نمط إنتاج قديم يحمل تصورات عالم اختفى. يقصد به «جرامشي» رجال الدين، والإكليروس، وهم مثقفون يرون أنفسهم مستقلين عن الطبقات الاجتماعية، وأنهم فوق التاريخ والتطور الاجتماعي، ويقومون بحجب أصولهم الاجتماعية من خلال الأيدولوجيا التي يبشرون بها.

ينتهي جرامشي إلى أن الطبقة الصاعدة على الرغم من تنظيمها لمثقفيها العضويين فإنها أيضًا تعمل على تجنيد واحتواء هؤلاء المثقفين التقليديين، والتماس جهودهم في مساعيها للهيمنة على المجتمع المدني.

ونتيجة لنشأته في الجنوب الإيطالي فـ«جرامشي» قد خبر ماذا يعني الفارق بين الشمال والجنوب. فيبين بأن مثقفي الجنوب هم أغلبهم من المثقفين التقليديين المرتبطين بالفلاحين من جهة، وبالبرجوازية الصغيرة من التجار في المدن. وجزء من المثقفين المهنيين الذين يؤدون مهامًا خاصة بالدولة من الموظفين الذين يحصلون على مستوى معيشي أفضل من مستوى الفلاحين.

وينتقل «جرامشي» من هذه النقطة إلى خضوع مثقفي الجنوب لمثقفي الشمال العضويين في المدن الصناعية ذات البنية الرأسمالية الواضحة، وهي الظروف التي قد عايشها في تنشئته في سردينيا، لينتهي بنتيجة مفادها بأن الثورة لابد وأن تأتي من خلال تنظيم الفئة في الجنوب لنفسها في شكل حزب له مثقفوه العضويون، وأيدولوجيته الواضحة المعادية لأيدولوجيا الطبقة المسيطرة، وربط ذلك الحزب في الجنوب بالحراك العمالي في الشمال.


الأمير الحديث: الحزب عند جرامشي

يرى «جرامشي» أن السياسة هي التحزب، فلا يمكن للطبقة الاجتماعية أن تنظّم نفسها بنفسها، وإنما لا بد من وجود منظمة مدنية يقع على عاتقها هذه المهام التنظيمية الفاعلة، وهو يتعامل مع مفهوم الحزب بشكل غير تقليدي أيضًا.

ينظر «جرامشي» إلى الأمير بأنه أحد الأفكار التقليدية الراسخة التي يجب القضاء عليها، كونه شخص أوحد ذو خطاب أوحد وحزب واحد. وينسب مهمة القضاء عليه إلى المثقف العضوي.

فيرى أن «الحزب هو المثقف الجمعي» (p354)، هو شكل من أشكال التوافق الطبقي بين المثقفين من جهة والطبقة العاملة من جهة أخرى، يتم فيه تبني القضايا التي تنادي بها الجماهير الفاعلة، وممارسة دور ثقافي وأيديولوجي في توعية الطبقة بموقعها ووظيفتها في المجتمع، وتخليصها من هيمنة أيدولوجيا الطبقة المسيطرة التي تعيقها عن الحركة وتسبب اغترابها.

وتصور «جرامشي» عن الحزب أبعد ما يكون عن التصور التقليدي للأحزاب الشيوعية التقليدية ذات البيروقراطية المركزية والمصالح الشخصية لأعضاء لجانها المركزية، هو يطرح نموذجًا لتجمع ثقافي بشكلٍ ما يخلق وعيًا جديدًا ويمارس التفكير بطريقة نقدية.

إحدى الوظائف التي يختص بها المثقف العضوي (البروليتاري) كما يُعيّنها «جرامشي»، هي القضاء على الأفكار التقليدية الراسخة ومنها فكرة الأمير، وهو الشخص الكاريزماتي الأوحد ذو الخطاب الواحد، والحزب الواحد الذي ينتج دولة توتاليتارية؛ مثل دولة السوفيتات بعد وصول «ستالين»، وهو على الجانب الآخر يطرح تصورًا حديثًا للأمير على أنه إستراتيجية أو مجموعة من الأفكار (عقل) تقوم بتوجيه الحزب وتشكله بحسب الظروف التي يمر بها.

وينظر «جرامشي» إلى الأمير بوصفه ممارسة ضد التحجر الحزبي، وفي الوقت عينه يحقق الوحدة الجدلية بين النظرية والسياسة، وبين المثقفين العضويين وما لديهم من دور تاريخي بتوعية الطبقة التي ينتمون إليها وبين كتلة الجماهير (اللامبالية) التي يعمل الحزب الثوري على الارتقاء بها إلى مستويات ثقافية أعلى.

وبدون وجود «الأمير»، يقع الحزب في فخ الروتين، ولا يقوى على ملاءمة الأوضاع التي يتعرض لها، ويأخذ في تشكيل سلوك منفصل عن سلوك أعضائه، ويفرّغ الحزب من مضمونه ويصبح معلقًا في الفراغ، مثل الأحزاب التي نراها اليوم في كل بلداننا العربية، وهو ما لا يريده جرامشي.

ومن خلال هذه الأقانيم الثلاثة (المثقفين – الحزب – الأمير) تتشكل النظرية الماركسية باعتبارها براكسيس؛ أي ممارسة واقعية تقوم على نقد العقل السياسي، وتؤسس للثورة بوصفها قفزة نوعية تعتمد بالأساس على الوعي والحزب والإستراتيجية الصحيحة.


الهيمنة Hegemony

يرى «جرامشي» الدولة على خلاف «ماركس، وإنجلز»؛ أي ليس بكونها أداة سيطرة الطبقة الحاكمة، ولكن كنسيج عضوي شديد التعقيد لها دور كبير في السيطرة على المجتمع وإعادة تشكيله ويمارس فيها المثقف دورًا مركزيًا. وإدراك تلك النقطة هو البداية لفهم جرامشي للعقل السياسي.

يرى «جرامشي» أنه كي تتحقق ثورة لا بد أن يكون هناك حرب مواقع حيث يحاول مثقفو الطبقة العاملة فرض هيمنتهم القيمية، والقضاء على التصورات المهيمنة على المجتمع المدني.

يستخدم «جرامشي» مفهوم الهيمنة بشكل غير تقليدي، لا كما تستخدمه الأحزاب الماركسية بوصفها (إخضاعًا) وسيطرة طبقية، ولا كما تستخدمه الرأسمالية بوصفها سيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى وإخضاعها واستنفاد مواردها، لكنه يستخدمها باختصار على اعتبار أنها مفهوم «واحدية الحقيقة».

فالهيمنة هي السيطرة التي تحققت بواسطة القبول -القيادة الأيدولوجية والأخلاقية بديلاً عن السيطرة السياسية- بدلاً من ممارسة قهر الدولة.

وتلك الهيمنة تمارسها الطبقة على بقية المجتمع من خلال وسائله وقنواته المتعارف عليها مثل: النقابات والأحزاب والنوادي والآداب وأدوات السيطرة الإعلامية، ومن خلالها تتقبل الطبقة الخاضعة قيم وتصورات الطبقة المسيطرة بالموافقة والإذعان التام.

يقول «جرامشي»:

«عندما يتحقق جهاز الهيمنة، فبقدر ما يخلق أرضية أيدولوجية جديدة، فإنه يحدد إصلاحًا لوعي البشر ومناهج المعرفة، فيكون حدثًا معرفيًا جديدًا، حدثًا فلسفيًا» (p605). فهي الحالة التي تسير فيها فلسفة المجتمع وممارساته في انسجام تام وفي نظام يسوده أسلوب معين في الحياة والفكر، ومفهوم واحد للحقيقة يشيع في المجتمع ويضفي تذوقًا خاصًا وأخلاقًا ومبادئ وعادات وأنماطًا دينية وسلوكية واحدة، تنطوي «واحدية الحقيقة» تلك على عنصر توجيه وتحكم خفي يستبعد كل وعي نقدي بالضرورة.

لذلك، فـ«جرامشي» يرى أنه كي تتحقق ثورة لا بد أن يكون هناك حرب مواقع؛ أي حرب في الهيمنة، يحاول مثقفو الطبقة العاملة فيها فرض هيمنتهم القيمية وتصورهم عن الحياة، والقضاء على تصورات البرجوازية المهيمنة على المجتمع المدني.


كيف يرى جرامشي المجتمع المدني؟

على الرغم من أن «ماركس» أطلق مفهوم «المجتمع المدني» على البنية التحتية ونمط الإنتاج وقام بتحليله، إلا أن «جرامشي» نسب هذا المفهوم إلى البنية الفوقية، وقسّم تلك البنية الفوقية إلى قسمين: المجتمع المدني، يقابله المجتمع السياسي (الدولة).

والمجتمع المدني في صورته المعاصرة (المعقلنة) كما فرضته الأدبيات الحديثة عند «جون لوك، وهوبز»، هو باختصار كل ما يقع خارج سيطرة الدولة بالأساس، لكونه نتج في شكل من أشكال التعاقد المجتمعي «عقد اجتماعي» تقوم عليه سلطة تحقق أمنه وضمان الحفاظ على ممتلكاته ومصالحه الشخصية كما يرى «جون لوك».

ويعرّف «جرامشي» المجتمع المدني قريبًا من تلك الأدبيات، لكنه يبعدها عن تدخل الدولة القهري، فهو يعرفه بأنه شبكة أفقية من المنظمات والعلاقات المهنية تنتظم في الحياة الاجتماعية مثل: النقابات والأحزاب والصحافة والمدارس والكنيسة، باختصار كل ما هو خارج سلطة الدولة.

أو كما يقول «هابرماس»:

«الرأي العام غير الرسمي (أي الذي لا يخضع لسلطة الدولة)»، ومن خلال هذه المؤسسات يتم نشر القيم والأفكار وهي منطقة صراعات الهيمنة، فيها يتم إنتاج وإعادة إنتاج أيدولوجيا الطبقة المسيطرة من خلال تجسيد تلك الأيدولوجيا وتحقيق إجماع جماهيري، وقبول بالوضع الراهن، وبسياسات النخبة الحاكمة ومصالحها، و«جرامشي» يضع المجتمع المدني في موضع بين البنية التحتية (الاقتصادية)، والبنية الفوقية (الدولة والمجتمع السياسي) بخلاف ماركس.

وفي المقابل، يموضع «جرامشي» المجتمع السياسي، بوصفه المجتمع الذي يقوم على ممارسات القهر والانضباط المباشر والوظائف التنظيمية والبيروقراطية، وفي الجمع بين المجتمع السياسي، والمجتمع المدني تظهر الدولة في شكلها الجدلي، ويكون عمادها هو الهيمنة الثقافية من ناحية، والسيطرة السياسية والقانونية من ناحية أخرى.

وفي الناحيتين يكمن المثقف ممارسًا مهامه السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الإدارية، على اعتبار أن المثقف العضوي هو الطبقة الإسمنتية بين البنية الفوقية والبنية التحتية، لذلك اختصه «جرامشي» بالتنظير في المقام الأول.

يقول «جرامشي» معرفًا الدولة:

«ينبغي ألا تُفهم الدولة على أنها جهاز الحكومة، ولكن أيضًا الجهاز الأهلي (غير الحكومي والخاص) للسيطرة السياسية أو ما يعرف بالمجتمع المدني. ولابد من ذكر أن الفكرة العامة للدولة تشمل عناصر تحتاج أن نرجعها إلى فكرة المجتمع المدني. ويمكن القول إن الدولة = المجتمع المدني + المجتمع السياسي» (p524).

ويقول أيضًا:

«سوف يكون على المرء المرور من مرحلة ستكون فيها الدولة معادلة للحكومة والدولة متطابقة مع المجتمع المدني إلى مرحلة تصبح فيها الدولة أشبه بخفير ليلي – أي تصبح منظمة قهرية تقوم بحراسة تطور العناصر المتكاثرة باستمرار للمجتمع المنظم، وسوف تقلل باضطراد من سلطويتها وتدخلاتها القهرية» (p525).

ويحدد «جرامشي» مراحل نشأة المجتمع المدني وعلاقته بالدولة في 5 مراحل كالآتي:

1. القرون الوسطى حيث لم يكن هناك فصل بين الدولة والمجتمع، وكان التنظيم التعاوني للطبقات السياسية يجمع بين الاقتصاد والسياسة.

2. ثم الفصل بين الاقتصاد والسياسة دون تسيس للطبقات في دولة الحكم الملكي.

3. انحلال البنى العضوية التقليدية ذات الطابع الأخوي والطائفي والحرفي والتمهيد للحداثة المبكرة.

4. قيام الثنائية بين الدولة والاتحادات الاجتماعية الطوعية، مثل المنظمات المدنية والنقابات والأحزاب.

5. قيام التنظيم الدولي الشيوعي للمجتمع بعد انتصار البروليتاريا في حرب المواقع وسيطرتها على الدولة.


الثورة كنتيجة حتمية لفكر جرامشي

يرى «جرامشي» أن المجتمع المدني ينتمي إلى البنية الفوقية، بعكس ما أطلقه «ماركس» عليه بأنه بنية تحتية ونمط إنتاج. وفي رأي «جرامشي» يقابل هذا المجتمع المدني؛ الدولة (المجتمع السياسي).

كل هذه النقاط تتجه بالضرورة صوب فكرة واحدة: الثورة، بوصفها تلك الغاية أو الفكرة الشاملة التي يمكنها إرساء القيم الجديدة في المجتمع بعد هيمنة الطبقة العاملة على مؤسساته المدنية. فهي انقلاب نوعي في الوعي أولاً من خلال حرب المواقع، قبل أن تكون انقلابًا ماديًا. يقول «جرامشي» عن حرب المواقع:

حرب المواقع تتطلب تضحيات هائلة من جانب عدد هائل من جماهير الشعب، ومن ثم من الضروري وجود سيطرة غير مسبوقة، ومن ثم حكومة أكثر تدخلاً تقوم بالهجوم بشكل أكثر صراحة على المعارضين، وتنظم نفسها دائمًا لمنع إمكانية تفككها الداخلي من خلال وسائل التحكم المتعددة السياسية والإدارية وغيره.. وتقوي أوضاع السيطرة السياسية للجماعة المهيمنة. (p481)

وهي الحرب التي تنتهي بهيمنة طبقة على طبقة أخرى من خلال المفاهيم الأيديولوجية قبل أن تتحول إلى حراك مادي في الشوارع يتم فيها تنفيذ إستراتيجية الطبقة العاملة ذات الأحقية التاريخية في السلطة.


* أرقام الصفحات هي وفقًا لـ Selection from prison notebooks of Antonio Gramsci. Edited by Quentin Hoare and Geoffrey Nowell Smith. Lawrance & Wishart – London, 1971.

المراجع
  1. مداخل إلى جرامشي: السيطرة السياسية والثورة والدولة، تحرير آن شوستاك ساسون، ترجمة سحر توفيق، المركز القومي للترجمة.
  2. ما بعد ماركس؟ فالح عبد الجبار، دار الفارابي – بيروت، لبنان.
  3. How to change the world,reflection on marx and Marxism. Eric Hobsbawm. Yale University Press.
  4. Selection from prison notebooks of Antonio Gramsc. Edited by Quentin Hoare and Geoffrey Nowell Smith