للإنسان القدرة على تحويل أي أداة في متناول يده إلى سلاح، سواء كان ذلك للدفاع أو للاعتداء. وتمتد الجذور العميقة لتاريخ السلاح منذ حاولنا ردع الحيوانات المفترسة قديمًا بالعصي مرورًا بشحذ الأحجار لتكون مدببة وقاتلة وحتى توصلنا لاختراع المدافع الرشاشة.

كان الإنسان القديم قد بدأ يدرك رويدًا رويدًا أن القتل بأداة أكثر فعالية من القتل باليد العارية، بينما صنع الإنسان الحديث -الذي أضحى يعيش في عالم يجرم القتل- سلاحًا متطورًا بهدف زيادة مدى التدميرية والتقليل من تلامسه مع ضحيته وبالتالي تقليل احتمالية عقابه على الجريمة.

إن مخيلة البشرية لم تتوانَ قط عن إمدادها بالأفكار فيما يتعلق بالأسلحة حتى بنيت ترسانة تنمو يومًا بعد يوم بنماذج أكثر تطورًا وسرعة وحداثة. عن علم المقذوفات الجنائي يدور حديثنا اليوم.


مقذوفات جنائية؟ عم نتحدث؟

http://gty.im/84410211

قد يكون اللفظ «مقذوف Ballistic» لفظًا مبهمًا بعض الشيء، فهو ينطبق على العلم المختص بأي شيء يتم قذفه وميكانيكا حركته في الهواء ثم سكونه، قد ينطبق هذا الوصف على حجر أو صاروخ، إلا أن المنحى الجنائي من المصطلح غالبًا ما يكون متعلقًا برصاصة.

تنظر عملية البحث فيما يتعلق بالرصاص إلى مرحلتين تمر بهما الرصاصة، تستمر أولاهما منذ انطلاقها حتى خروجها من فوهة السلاح بعد مرور ما يقارب الجزء من العشرة من الثانية، لتبدأ بعدها الثانية التي تتعلق برحلة الرصاصة من الفوهة إلى حيث ستسكن. اصطلاحيًا، نطلق على المرحلة الأولى علم المقذوفات الداخلي Interior ballistics بينما تسمى الثانية علم المقذوفات الخارجي Exterior ballistics.

يقوم عمل عالم المقذوفات الجنائي بشكل أساسي على نقطتين أساسيتين؛ الأولى تتناول كيفية إعادة تمثيل مشهد الجريمة بما في ذلك استنتاج موقع الجاني، وضعية جسده ويده أثناء إطلاق النار، مصير الرصاصة بعد خروجها من السلاح وحتى استقرارها في جسد الضحية أو في أي مكان آخر. أما الثانية فهي تختص بالرصاصة والسلاح ذاتهما؛ ما نوعية الرصاصة، علام تدل البروزات والانخفاضات على الرصاصة، نوعية السلاح، وربما يمكن تحديد هوية مالكه أيضًا إذا تم التوصل لتعيين السلاح.

بالنسبة لخبير المقذوفات، تنقسم الأسلحة المطلقة للرصاص إلى مجموعتين عامتين طبقًا لكيفية حمل السلاح والحجم. نرى في المجموعة الأولى الأسلحة المحمولة باليد Handgun وهي أسلحة صغيرة الحجم تنتمي إليها المسدسات Pistols والمسدسات الدوارة revolvers، بينما نجد في المجموعة الثانية الأسلحة التي تسند على الكتف وتضم مختلف أنواع البنادق الآلية والنصف آلية والرشاشات.

تكمن فكرة المسدس في خلق غاز ما لضغط عالٍ يقوم بدفع الرصاصة في مجرى أسطواني محفور بشكل حلزوني ليعطي الرصاصة الزخم والسرعة الكافيين متحكمًا في اتجاهها، بحيث تنطلق خارجة لتحط في مستقرها. كل ما نراه من تنويعات هي ميكانيكيات مختلفة لتحقيق كل هذه الخطوات الأساسية. هل ينطلق عيار ناري واحد مع كل تعبئة مثل أسلحة single-shot، أم تنطلق العيارات النارية متتابعة بشكل أتوماتيكي كالرشاشات الأتوماتيكية؟، هل يتم خلق ضغط الغاز بواسطة احتراق أم غاز مخزن؟، هل يتم تخزين الذخيرة في مخزن مثبت في المسدس أم مخزن دائري يمكن إخراجه للخلف أو لأحد الجوانب كما في المسدسات الدوارة؟ هذه التفاصيل التصميمية وأثرها على مسيرة الرصاصة وكفاءة أدائها للمهمة هو ما يصنع الفرق بين مسدس وآخر.


بالتصوير البطيء

http://gty.im/82374995

لكل سلاح وكل نموذج من الأسلحة علامات مميزة تنشأ عن تكوينها الداخلي تؤدي لإمكانية التعرف عليها جراء الفحص. فبناءً على علامات الحز على الرصاصة والتي تتكون من مرتفعات ومنخفضات متبادلة grooves and lands، يمكن تحديد نوعية السلاح الذي أطلقها بمطابقة آثار المجرى barrel الذي مرت فيه الرصاصة داخل المسدس بالآثار على الرصاصة. ولكن لنلق نظرة متأنية على ما يجري داخل السلاح الناري بمجرد الضغط على الزناد.

مبدئيًا، عند ضغطك على الزناد أنت تبادر بجعل مطرقة صغيرة في مؤخرة السلاح تقوم بتوجيه ضربة إلى ما يشبه الدبوس أو المسمار ويسمى firing pin. ما إن يتلقى هذا الأخير اللطمة فإنه يتحرك داخل ثقب ليقوم بتوجيه دفعة إلى ما يسمى بكبسولة الدق Primer cap والمحتوية على مواد كيميائية، ما إن تتلقى الصدمة حتى تبدأ بالاشتعال لينتج عن احتراقها زيادة في الضغط وشعلة نارية تؤذن ببداية احتراق المادة الدافعة والتي أصبحت تتكون الآن من نيتروسليلوز ومادة مؤكسدة.

ينتج عن كل هذا مزيد من زيادة في الضغط، والذي يقوم بدفع الرصاصة نحو المجرى حيث ستقوم بالدوران بناءً على شكل الأطراف المحفورة في المجرى وتتسارع حتى تنطلق خارج الفوهة ومعها ما يطلق عليه «بقايا إطلاق النار Gunshot residue» الذي يتم جمعه وتحليله واختباره بعناية. لماذا؟

تلعب بقايا إطلاق النار GSR دورًا بالغ الأهمية في الربط بين الضحية وبين السلاح الذي أطلق النار عليها. تتكون البقايا المذكورة من خليط ينتج عن الحرارة الناتجة داخل السلاح وتأثيرها على مختلف مكوناته ومكونات الرصاص. فمثلاً، تحتوي هذه البقايا على آثار من مكونات كبسولة القدح بالإضافة لبقايا المادة المتفجرة داخل الرصاصة كالنيتروسليلوز، مضافًا إليها آثار من المعدن المكون لجدار مجرى السلاح الذي قد تبخر من حرارة احتكاكه بالرصاصة المسرعة.

كل هذه المكونات تعمل كبصمة محتملة تستطيع تأكيد أو نفى ما إذا كان السلاح س قد أطلق النار على الضحية ص أم لا.

إذا نظرت إلى أنواع الأسلحة النارية المتاحة ستجد أنها دائمًا ما تعتمد على ثنائيات، فمثلاً قد يكون السلاح قابلاً لإطلاق رصاصة واحدة ثم يجب إعادة تعبئته مرة أخرى، أو قد يقوم بإطلاق كل الرصاص الموجود في خزينته بشكل متتابع دون الحاجة إلى تعبئة، كما في الرشاشات التي يكفي استمرار الضغط على زنادها بعد أول تعبئة لإطلاق شلال من الرصاص لا ينتهي إلا بانتهاء الذخيرة.

كذلك قد يقوم السلاح بالتخلص من الرصاصة وعليك إعادة تعبئته بينما تقوم أسلحة أخرى بمجرد الانتهاء من إطلاق الرصاصة بالتخلص من الغلاف وحمل الرصاصة التالية ووضعها في موقعها في غرفة الإطلاق فيما يعرف باسم self-loading. أيضًا تتعدد الطرق التي يتم بها حمل الرصاصة إلى غرفة الإطلاق ما بين استخدام مزلاج Bolt-action أو دوران مخزن الذخيرة كما في المسدسات الدوارة أو حتى تلقيم الرصاصة للمسدس يدويًا.

بالطبع تتواجد الكثير والكثير من القطع التي تهدف لتسهيل أو إضفاء بعض الأمان لاستخدام السلاح. فمثلاً تتم إحاطة الزناد بقطعة تسمى حارس الزناد تصل ما بين القطعة الأفقية والرأسية للمسدس وتجعل الإطلاق عند طريق الخطأ أثناء الحركة صعبًا، أيضًا يختلف تصميم المخرج الذي يتم قذف غلاف الرصاصة المستخدمة منه أو تصميم مقبض المسدس ليوفر قبضة أفضل أو ليكون سهل الإخفاء وأصغر حجمًا.

نأتي هنا لمصطلح يتردد كثيرًا في المسلسلات البوليسية ويتمتع بأهمية بالغة في المعامل الجنائية. ماذا تعني كلمة «عيار»؟.

لكلمة عيار Caliber معنيان مختلفان ولكنهما مترابطان، فأولاً كان العيار يعني قطر فوهة السلاح الناري، ثم أصبح يدل على حجم أو قطر معين للذخيرة التي يتم إطلاقها من سلاح معين، وبالتالي فإنها لا زالت تدل على قطر الفوهة التي يمكن أن يتم إطلاقها منها. مع ذلك، فإن العيار هو كلمة تقريبية لا تدل على القطر حرفيًا. فمثلاً يمكن إطلاق رصاصة بحجم ثابت من فوهتين متقاربتين جدًا في القطر ولكنهما غير متساويتين، بالطبع سيدفع الثبات ثمن هذا الفارق إلا أن عملية الإطلاق ذاتها ممكنة.

كانت هذه خطوطًا عريضة حول الأفكار الأساسية التي يتناولها عالم المقذوفات عند احتياجه لاستخلاص ما حدث في أقل من الثانية من قطع المعدن المشوهة وفوهات الأسلحة التي أطلقتها. يمكن تلخيص كل هذا العناء بمحاولة يائسة من الإنسان أن يكافح ما جنته يداه بعد أن تبين له –كما تبين لألفريد نوبل بعد اختراعه للديناميت- أننا ماهرون في إساءة استخدام كل ما نصل إليه من تقنية.

المراجع
  1. Mark Okuda, Frank H Stephenson-A hands-on introduction to forensic science: cracking the case
  2. William J. Tilstone-Forensic Science: An Encyclopedia of History, Methods, and Techniques
  3. Richard Saferstein-Criminalistics: An Introduction to Forensic Science