فيما يقوم شرطيون ومحققون من مختلف التخصصات بمسح مسرح الجريمة بحثًا عن الأدلة والآثار التي تركها الجاني أو الضحية، يظل الدليل الأهم في جرائم القتل هو جثة الضحية ذاتها. تستطيع الجثة تسليط الضوء على الكثير والكثير من التفاصيل المتعلقة بالجريمة؛ وذلك لقابليتها لأن تعلق بها مختلف أنواع الآثار، سواء تلك ذات المصدر البشري كالسوائل الجسدية أو الآتية من الجوامد كخيط علق بها من ملابس الجاني أثناء المقاومة. لكن تبقى التفصيلة الأكثر محورية هنا هي تحديد توقيت الوفاة Time of death.

يشغل فحص ما بعد الوفاة مرتبة الأولوية في عملية تحديد توقيت الوفاة، سواء كان سبب الوفاة معروفًا (وهنا يسمى فحص سريري) أو غير معروف ومشكوك فيه (ويطلق عليه فحص طبي-قانوني Medico legal). يتطلب النوع الأول موافقة الفرد الأقرب من عائلة الضحية بينما يكون النوع الثاني إلزاميًا، ولا يقوم به إلا أطباء مدربون لهذا الغرض تحديدًا على عكس النوع الأول الذي يقوم به أي طبيب متواجد.

بعد الفحص العام للجثة بالنظر لتحديد النوع، العرق، واستخدام قياسات مبدئية للطول والوزن، يبدأ طبيب الباثولوجي –المختص بعلم الأمراض- في استخدام تقنيات مختلفة لتحديد توقيت الوفاة حتى قبل إمكانية تحديد سبب الوفاة في العديد من الحالات.


تيبس الموت Rigor Mortis

ترتخي عضلات الجسم البشري بعد الموت مباشرة ثم تتيبس بسبب التفاعلات التي تطرأ على بروتينات العضلات –الأكتين والميوسين- بعد مرور 2-4 ساعات بدءًا من الفك، ليشمل هذا التأثير الجسم بأكمله بعد ما يقرب من اثنتي عشرة ساعة. يستمر الوضع على هذا التيبس لمدة تقارب 24-36 ساعة، ثم يرتخي مرة أخرى بعد أن تكون الإنزيمات قد قامت بتكسير هذه البروتينات وفصلت بينهما.

لا تعد هذه الطريقة من طرق تحديد نطاق توقيت الوفاة الدقيق؛ لتأثرها بالعوامل المحيطة بالجثة بشكل كبير. الحرارة العالية على سبيل المثال تؤدي لتبكير ظهور التيبس وسرعة انتهائه أيضًا، بينما يكون للظروف الباردة تأثير معاكس. كذلك يكون لسن الضحية وبنيتها العضلية علاقة وثيقة بطول أو قصر أو حتى انعدام تيبسها. تؤدي هذه المتغيرات إلى جعل التيبس مجرد إشارة عامة لنطاق من الزمن وليست تعيينًا دقيقًا لتوقيت الوفاة


برودة ورخاوة الموت Algor Mortis/Livor Mortis

بغياب عمليات الأيض وميكانيكية الحفاظ على درجة حرارة الجسم، يفقد الجسد حرارته تدريجيًا بمعدل ثابت يجعل بالإمكان استنتاج معدل الانخفاض فيها -أي الحرارة- طريقة أكثر فعالية؛ لأنها تأخذ بالحسبان الظروف المحيطة بالجثة بالفعل. إذا تم قياس معدل انخفاض درجة حرارة جثة ما ووجد أنها تنخفض درجة مئوية في الساعة مثلاً، وكانت درجة حرارة الجثة عند العثور عليها قد بلغت 33، فإن من اليسير استنتاج أن الجثة على الأغلب قد فارقت الحياة قبل إيجادها بأربع ساعات.

تستمر هذه العملية حتى يصبح للجسم نفس درجة حرارة الوسط المحيط به إذا كان أقل من 37 درجة مئوية، ولكن قد يؤدي التحلل إلى تذبذب أو ارتفاع بسيط في درجة الحرارة عند مرحلة متقدمة. تساهم أيضًا بنية الجسم في تحديد معدل تغير درجة الحرارة كما تلعب الملابس ومكان الدفن دورًا أيضًا.

أما رخاوة الموت ويطلق عليها أيضًا Hypostasis فهي نتيجة طبيعية لتوقف نشاط القلب كمضخة للدم في أنحاء الجسم؛ مما يؤدي لتجمعه في المناطق السفلى للأرض بفعل الجاذبية الأرضية. ينشأ عن هذا التأثير تغير لوني واضح يشبه الكدمات في مناطق تجمع الدم ويشي بأن الوفاة قد حدثت حديثًا جدًا.


ماء العيون

طريقة أخرى أكثر دقة في الإشارة لتوقيت الوفاة هي استخدام تركيز عنصر البوتاسيوم في السائل الشفاف المتواجد بالعين. يعود تزايد نسبة البوتاسيوم في هذا السائل إلى التفكك التدريجي للخلايا المبطنة للعين –الشبكية المتحللة- فيختلط دمها مع السائل مؤديًا لارتفاع مستوى البوتاسيوم به. بنفس طريقة حساب برودة الموت يمكن حساب معدل تسلل البوتاسيوم لهذا السائل واستنتاج توقيت الوفاة من العلاقة الرقمية الناتجة. تتحلل القرنية أيضًا كما تتحلل الشبكية مما يؤدي لتحول لون العين إلى لون معتم بعدما فقد سائل العين شفافيته البلورية مع تلاشي الماء شيئًا فشيئًا.

يقوم الطبيب المتولي تشريح الجثة بتجميع البيانات المأخوذة بكل الطرق المذكورة ليصل بتقاطعها لتحديد قيمة دقيقة إلى حد كبير تشير لتوقيت الوفاة الحقيقي، الذي قد يكون له القول الفصل في الاشتباه في شخص ما أو استبعاد آخر. كانت هذه التقنيات محاولة لاستخدام المراحل المبكرة من تحلل الجثة في سبيل معرفة الأحداث التي جرت، لكنها ليست الطريقة الوحيدة. تقوم الحشرات في هذه المرحلة بدور محوري يمد المحققين بإشارات واضحة لتوقيت الوفاة فيما يندرج تحت عمل علماء الحشرات الجنائيين Forensic Entomologists.


الحشرات تحكي القصة

لا تعد هذه الطريقة من طرق تحديد نطاق توقيت الوفاة الدقيق؛ لتأثرها بالعوامل المحيطة بالجثة بشكل كبير.
يستخدم علماء الحشرات دورة حياة الذبابة الزرقاء Blowfly وذبابات اللحم Flesh flies لاستنتاج كم من الوقت قد مضى على موت الضحية.

يستخدم علماء الحشرات دورة حياة الذبابة الزرقاء Blowfly وذبابات اللحم Flesh flies لاستنتاج كم من الوقت قد مضى على موت الضحية. فما إن تبدأ الجثة بالتحلل حتى تقوم الحشرة المجنحة بالتقاط رائحتها على بعد أميال. تصل الذبابة الزرقاء إلى الجثة لتضع المئات من بيوضها في الجثة الميتة والتي تفقس بعد مرور 8-24 ساعة إلى يرقات ثم عذارى Pupa في خلال 5-11 يوم، ثم يكتمل نموها وتصبح ذبابات كاملة النمو فيما بين أسبوع وأسبوعين من تحلل الجثة.

كان الظهور الأول لأهمية أخذ عينات من الحشرات المتواجدة في تجاويف الجثة قد جرى في قضية روكستون الشهيرة عام 1935.

كان الطبيب ألكسندر ميرنز قد قام بفحص الحشرات المتواجدة قرب أشلاء متناثرة لجثتين وجدتا على شاطئ نهر في أسكتلندا، بعد تشويههما لدرجة جعلت التعرف عليهما صعبًا للغاية. توصل ميرنز عن طريق النظر للمرحلة العمرية للحشرات إلى استنتاج أن الفارق الزمني بين الموت واكتشاف الأشلاء تراوح ما بين 12:14 يوم. كانت بعض الأشلاء قد تم لفها بورق جريدة تعود ليوم 15 سبتمبر من عام 1935، وهو التاريخ الذي يتلاءم مع استنتاج ميرنز مضفيًا ثقة كبيرة في طريقة عمله.

بعد التحقق من أماكن توزيع الجريدة ومقارنتها مع بلاغات الاختفاء، تمكن المحققون من الاستدلال على هوية الجثتين اللتين كان يعتقد أنهما لرجل وامرأة عشرينيين. تبين أن الجثتين كانتا تعودان لامرأتين إحداهما تدعى إيزابيلا روكستون والثانية هي خادمتها ماري روجرسون. وكان القاتل هو زوج الأولى الذي اعترف بجريمته زمن ثم تمت محاكمته وشنقه في مايو من العام التالي. كان محور قضية روكستون هو تحديد توقيت الوفاة لاستخدامه في ربط البقايا البشرية مع حقيقة اختفاء المرأتين.

كانت قضية روكستون بداية ظهور اعتماد واضح على الحشرات في التوصل لمعلومات بخصوص الجثة، وتلاه استخدام للنباتات وحبوب اللقاح أيضًا بنفس الطريقة للتعرف على ما إذا كانت الضحية قد قتلت في مكان العثور عليها أم تم نقلها. بهذه السلسلة من الكائنات الحية والعوامل الطبيعية تتضافر المعلومات لبناء نسق يشير إلى المصير الذي واجهته الضحية قبل أن تقضي، جاعلاً الطريق إلى عقاب الجاني أقصر وأقصر.

المراجع
  1. Mark Okuda, Frank H Stephenson-A hands-on introduction to forensic science: cracking the case
  2. William J. Tilstone-Forensic Science: An Encyclopedia of History, Methods, and Techniques
  3. Andrew R.W. Jackson, Julie M. Jackson-Forensic Science