صبيحة يوم هادئ من أيام القاهرة، كان شاب في الثانية والعشرين من عمره يمر عند سور الأزبكية بحي العتبة. عثر الشاب الذي كان يبحث عن كتب التراث الإسلامي التي يمكنه عبرها معرفة دينه معرفة أفضل على أحد كتب ابن تيمية. ما إن قرأ هذا الشاب كتاب ابن تيمية حتى أعجب بالرجل، وذهب إلى البحث عن المجموعة الكاملة لأعماله لقراءتها والتزود منها، مركِّزًا بوجه خاص على قراءة كتاب ابن تيمية «مجموع الفتاوى»، ولاسيما الأجزاء الخاصة بالجهاد. كان هذا الشاب هو نبيل البرعي الذي ستتشكل على يديه نواة التيار الجهادي في مصر.

بعيدًا عن القراءات التاريخية المتباينة للظاهرة الجهادية المعاصرة، واختلافاتها في تحديد نقطة البداية لتلك الظاهرة، ربما كانت هذه اللحظات هي البداية غير الرسمية لتيار السلفية الجهادية.


النشأة والسمات الأولى

رغم الاتجاه السائد الذي تذهب إليه معظم الدراسات عن نشأة الفكر الجهادي داخل السجون المصرية في مطلع الستينات، يرجح في المقابل الباحث والقانوني هشام مبارك، أن أولى حلقات تشكل التيار الجهادي نشأت في مصر عام 1960 بتأثير من نبيل البرعي الذي نجح في تنظيم حلقة ضمت مجموعة من الطلبة الشباب أبرزهم طلال الأنصاري وإسماعيل طنطاوي وأيمن الظواهري وعلوي مصطفى، واقتصر نشاطها في البداية على التعمق في دراسة تراث ابن تيمية والمناقشات الفكرية وحسب.

كان علوي مصطفى وإسماعيل طنطاوي، الطالبيْن بكلية الهندسة، يواظبان في البداية على حضور دروس الشيخ محمد خليل هراس بمسجد جمعية أنصار السنة المحمدية ذات التوجه السلفي، في شارع قولة بحي عابدين بالقاهرة، وهناك تعارفت المجموعة التي أسست لتنظيم الجهاد.

نلاحظ هنا أنه على خلاف ما هو سائد عن انحدار التيار الجهادي من تيار الإسلام السياسي، نجد أن الخط التنظيمي الرئيسي داخل الظاهرة الجهادية المعاصرة نشأ في المقابل بصورة عفوية في البداية من داخل أوساط التيار السلفي، عبر تلقي وقراءة خاصة داخل ذلك الوسط لكتابات سيد قطب، الأديب الحليق غير المعمم، الذي كان اختلافه في السمت الشكلي عن أتباعه المفترضين، تمظهرًا للفوارق المائزة بين الرجل وبين التيار الذي يُزْعَم أنه أبوه الروحي.

بتأثيرات مباشرة وغير مباشرة، تحوّلت النواة الأولى التي تشكّلت على يد نبيل البرعي، عبر انشقاقات واندماجات وتفرعات عدة، إلى أبرز التنظيمات والمجموعات المسلحة التي شهدها عقدا السبعينات والثمانينات في مصر، مثل مجموعة الشباب التي التفت حول الفلسطيني صالح سرية، وهي التي عرفت باسم «تنظيم الفنية العسكرية» وقامت بمحاولة الانقلاب الفاشلة الشهيرة في عام 1974، ومثل مجموعة يحيى هاشم، وكيل النيابة المصري في الإسكندرية عام 1975، وتنظيم مصطفى يسري المسلح في القاهرة بين 1977 و1979.

المجموعة الأبرز بطبيعة الحال بين كل تلك المجموعات كانت هي تنظيم الجهاد الذي قام باغتيال الرئيس المصري أنور السادات، وهو الذي توجه عدد من قادته بعد خروجهم من السجن إلى أفغانستان، حيث التقوا هناك بأسامة بن لادن ليؤسسوا معه بعد ذلك تنظيم القاعدة والجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين التي أعلن عن تأسيسها في عام 1998.

لم يتبنَّ تنظيم الجهاد والمجموعات المسلحة الأخرى في البداية في مواجهتهم «للعدو القريب» مبدأ حرب العصابات، بل اعتمد على إستراتيجية الانقلاب العسكري من خلال اختراق صفوف الجيش والطلبة في الكليات العسكرية والوصول إلى السلطة بالقوة عبر العمل الانقلابي، وهو الأمر الذي أخفقوا فيه خلال جميع محاولاتهم في هذا الإطار.


المنعطفات الكبرى

ظلّت المجموعات الجهادية المصرية منذ نشأتها في ستينات القرن الماضي تفتقد إلي التنظير الشرعي المتماسك، إلى أن قام محمد عبد السلام فرج بتأليف كتابه الشهير «الفريضة الغائبة» الذي أصّل فيه للفكر الجهادي، حيث كان حتى ذلك الوقت حبيس المداولات الشفهية بين معتنقيه القلائل. لم يقتصر دور فرج في هذا الإطار على تأليف الكتاب وحسب، بل قام كذلك بتدريس ما فيه من آراء في مسجد بحي بولاق الدكرور في القاهرة.

إحدى أهم الأفكار التي قدمها فرج في كتابه، وأكثرها تأثيرًا في صياغة مسار الحركة الجهادية خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، هي طرحه لذلك التقسيم الشهير لأعداء المشروع الجهادي الإسلامي (العدو القريب والعدو البعيد)، وتقديمه الأولوية في هذا الإطار لضرورة المواجهة مع العدو القريب (أي الأنظمة في العالم العربي والإسلامي) قبل العدو البعيد.

ظلّت الأولوية التي وضعها فرج هي البوصلة الموجّهة للعمل الجهادي المسلح حتي عام 1998 الذي شهد تأسيس «الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبين» التي أسّسها أسامة ابن لادن وأيمن الظواهري، وكان تأسيسها تجليًا لتبني التيار الجهادي خطًا جديدًا في العمل يقدم العدو البعيد على العدو القريب بناءً على فكرة أن استهداف الولايات المتحدة الأمريكية (رأس الأفعى بحسبهم) وإنهاكها واستنزاف مواردها وإسقاط هيمنتها العالمية، سيؤدي بالتبعية إلى إسقاط الأنظمة العربية الموالية لها.

على المستوى التنظيري، كان العمل الأهم في سياق هذا المنعطف هو الإستراتيجية التي صاغها أبو مصعب السوري عن المراحل التي ستتطور خلالها الحالة الجهادية حتى تبلغ مرحلة التحقق، وهذه المراحل هي:

1. مرحلة الإفاقة (2000-2003): يتم خلالها استدراج أمريكا إلى المنطقة عبر شن أعمال عدائية، كاستهداف المدمرة اس اس كول عام 2000، وكعلمية الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

2. مرحلة تفتيح العيون من (2003-2007): وهي المرحلة التي بدأت مع الاحتلال الأمريكي للعراق.

3. مرحلة الوقوف على القدمين (2007-2010): بناء القاعدة الصلبة في العراق، وخلخلة الأوضاع في جواره الإقليمي وتحديدًا في بلاد الشام.

4. مرحلة استعادة العافية (2010-2013): وهي مرحلة سقوط الأنظمة الرسمية.

5. مرحلة إعلان الدولة (2013-2016): وهي مرحلة إعلان الدولة الإسلامية.

6. مرحلة المواجهة (2016-2020): وهي مرحلة إعلان المواجهة الشاملة، حيث ينقسم العالم في ذلك إلى فسطاطين، فسطاط للإيمان وفسطاط للكفر، بحسب رؤية أبي مصعب السوري وتفسيره لحديث نبوي في هذا الإطار.

7. مرحلة الانتصار النهائي 2020.

العمل النظري الأكثر تأثيرًا بعد ما قدمه أبو مصعب السوري في هذا الإطار كان بطبيعة الحال هو سلسلة المقالات والمنشورات التي كتبها أبو بكر الناجي – وهو اسم مستعار على الأرجح – وهي التي تم تداولها على المنتديات الجهادية على الإنترنت، وجمعها لاحقًا في كتاب تحت عنوان «إدارة التوحش»، كان عنوانه الشارح هو «أخطر مرحلة ستمر بها الأمة». وهو عمل يمكن اعتباره التنظير الثالث الأهم للمشروع الجهادي بعد كتابي «الفريضة الغائبة» و«دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» لأبي مصعب السوري.

محتوى ذلك الكتاب الأخير هو الإطار النظري المهيمن تقريبًا في الفترة الراهنة لعمل الجماعات الجهادية المسلحة، حيث تنبّأ الكتاب الذي تم تأليفه بعد احتلال العراق مباشرة بحالة التفكك الجيوسياسي للعالم العربي التي ادّعى أنها قادمة لا محالة، وهو التقدير الذي لم يخطئ الكتاب تمامًا فيه، إذ عاش العالم العربي ويعيش حتى الآن إثر اندلاع الربيع العربي والثورات المضادة التي شنت عليه، حالة من السيولة الأمنية والسياسية لم يشهدها النظام العربي الرسمي منذ تأسيسه.


الإشكاليات الفقهية

تعد المفارقة الأهم في قضية التنظير الشرعي لأعمال الجماعات الجهادية المسلحة على مدار تاريخها هي كون صاحب الأعمال الفقهية الأهم في هذا الإطار، وهو سيد إمام الشريف، المعروف أيضًا باسمي عبد القادر بن عبد العزيز والدكتور فضل، صاحب كتاب «العمدة في إعداد العدة» الذي كان يتم تدريس محتواه في معسكرات تنظيم القاعدة، قد تبرأ لاحقًا من الخط العام الذي تتبناه الحركات الجهادية المسلحة، الذي يتسم بالاستباحة المفرطة للدماء.

في هذا السياق يقول سيد إمام في الفصل الثاني من كتابه «مذكرة التعرية لكتاب التبرئة» الذي يرد فيه على أيمن الظواهري:

وقبل تعرية مغالطات الظواهري الفقهية، أحب أن أنبه القارئ إلى أن الأمر ليس مجرد رجل أخطأ في بعض المسائل الفقهية، وإنما نحن أمام تأسيس مذهب فاسد منحرف لتأصيل الإسراف في سفك الدماء، وسوف أذكر كيف نشأ هذا المذهب، وما هي أركانه مع الرد عليها إن شاء الله، وهذا المذهب الفاسد هو ما يطلق عليه البعض: فكر القاعدة. نشأ هذا المذهب في أوائل التسعينيات من القرن العشرين الميلادي لدى كلٍ منهما، ولكل منهما دوافعه الخاصة به وليس هنا محل شرحها، ثم تضخم هذا المذهب في نهاية التسعينيات عندما التقت إرادتهما (أسامة بن لادن وخالد شيخ محمد) على قتل أكبر عدد ممكن من الأميركان، وترجموا هذا عمليًا في تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 للقتل بالجملة بدون تمييز بين مدنيين وعسكريين. ونظرًا لما انطوى عليه هذا المذهب من مخالفات شرعية فقد كان يجري الإعداد لتبريره فقهيًا، وتمريره وتسويقه إسلاميًا تحت مظلة الجهاد في سبيل الله، وقام بن لادن بدوره في ذلك قبل 11/9 وبعدها، وكذلك ترك لأتباعه مهمة التبرير التي جمعها الظواهري في كتابه الأخير الأثيم «التبرئة».

وتمتلئ فصول كتاب «مذكرة التعرية» في هذا السياق بتفنيد شرعي شامل للنهج والممارسات التاريخية التي تبناها تنظيم القاعدة، في مفارقة منقطعة النظير، يتبرأ خلالها المنظر الشرعي الأهم في تاريخ الفكر الجهادي قاطبة عن ممارسات ذلك التيار الذي تتلمذ على أعماله ومصنفاته الفقهية.