التعريف والبيان

حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي[1].

قبل أن نشرع في تعريف نظرية المعرفة ونبين الاختلافات الخاصة بهذا التعريف، فلا بد أولا أن نعرف المعرفة، ما هي المعرفة؟

لابد أن نعي تماما أنه ليس هناك تعريف محدد للمعرفة فكلها مقولات واجتهادات حاولت أن تصف حقيقة العملية النفسية والعقلية التي تحدث في الإنسان التي ينتج عنها أن يكون الإنسان عارفا بأمر ما. لذلك تعددت التعريفات الخاصة بهذا المصطلح، وقد يتبادر للذهن أن مصطلحا العلم والمعرفة بهما حالة من الترادف إلا أنهما مختلفان، في حين اشتراكهما في أنهما (اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه وارتفاع الشكوك عنه)[2] وهو قول الإمام ابن حزم، إلا ان المعرفة أخص من العلم، فهي عبارة عن العلم بأمر معين في ذاته، أما العلم فيكون أعم وأشمل، فكل معرفة علم ولكن ليس كل علم معرفة.

فمن هذه التعريفات الكثيرة المعرفة هي: الفعل العقلي الذي يتم به حصول صورة الشيء في الذهن، أو الذي يتم به النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته، فنحن إذًا أمام عملية عقلية ونفسانية تحدث داخل نفس الإنسان ليتوصل إلى معرفة شيء معين أو من أجل التوصل إلى حقيقة هذا الشيء، فلا يمكن تعريف المعرفة إلا بأنها الحالة النفسية التي يجدها الإنسان بالضرورة حال الإدراك[3].

أما نظرية المعرفة، فالتعريف الخاص بها متعلق أكثر بما تبحث عنه وتحاول أن تجاوب عليه من الأسئلة والإبهام فيما يخص حقيقة المعرفة والإدراك والتصورات والتصديقات التي نكونها[4]، ومن أين نحصل على المعرفة وكيف نحصل عليها؟ فكل من حاول أن يؤلف في نظرية المعرفة في مختلف المدارس كان شغله الشاغل هو محاولة الإجابة على تلك الأسئلة.

ويعتبر التعرض لنظرية المعرفة هامًا للغاية وهو شيء مبدئي قبل التعرض لخريطة العلوم الطبيعية والإنسانية والشرعية، حيث الإجابة على هذه الأسئلة تشكل ما نسميه النموذج المعرفي Paradigm الذي يعتبر نظرة عامة وكلية للكون والحياة والإنسان والمرتبطة بعدد من القيم المنبثقة من تلك الإجابات، فيمكننا القول أنه إذا كانت إجابات الأسئلة مرتبطة بمركزية الوحي والشرع فنحن أمام أساس واضح لنموذج معرفي إسلامي، أما إذا كانت غربية، فنحن إزاء نموذج معرفي غربي ولكل منهما قيمه التي تحدد شكله وقضاياه ومسائله، ومحاولة المزج بينهما دون قواعد هي حالة عبثية لم يتأتى منها في التطبيق العملي إلا الفشل.


مصادر المعرفة: من أين نحصل على المعرفة وكيف؟

تعددت أقوال واجتهادات الفلاسفة والعلماء من كافة المدارس الفكرية في مسألة تحديد وتعيين مصادر المعرفة ومن أين نأتي بالمعرفة التي تحصل لدينا حول شيء أو أمر ما، فلدينا المدرسة الغربية والمدرسة الإسلامية وسوف نشرع في شرح مبسط لكل من المدرستين بشكل مختصر.

أما المدرسة الغربية ففيها نظريتين لمسألة المعرفة، النظرة التجريبية الحسية “كارل ماركس” والنظرة العقلانية “ديكارت وكانت”، أما الأولى فتلك التي ترى أن الحس الإنساني هو المصدر الأول بل والوحيد للمعرفة، كأن ترى بعينك شيئا أو تسمع بأذنك أو تلمس بيدك، بمعنى آخر أن تستخدم جوارحك الحسية في معرفة الأشياء والعالم من حولك، وأنَّ ذلك يتأتى بالتجربة التي هي أيضا تعتمد على الحس في الوصول للمعرفة والإدراك وتصور الأشياء ثم تصديقها.

أما النظرة العقلانية ترى أن هناك مستويين من التصور؛ الأول: قائم على الحس، والثاني: قائم على فطرة الإنسان حيث أنه هناك تصورات ومفاهيم مسبقة داخل الإنسان ولد بها يفسر من خلالها ما لا يستطيع التوصل إليه من جانب الحس[5]. والإنسان يمكن أن يرى ظلا يظن أنه لا يتحرك وبعد قليل يكتشف أنه بدأ في التحرك ولكن التحرك كان تدريجيا ذرة ذرة حتى وصل إلى أنه لم يكن ساكنا من الأساس، فالحس إذًا قد يكون خداعًا، فضلا عن أن نتائج أي تجربة إنسانية لأي شيء ما بين المقدمات والنتائج تحصل عملية عقلية لا إرادية لتوقع واستنتاج النتيجة، فالتجربة إذًا تعتمد على العقل في تصور العلاقة بين المقدمة والنتيجة والتي لا يستطيع الحس إدراكها.

أما العقل فينبني على معرفة الضروريات والأوليات “تلك الحقائق الواضحة بذاتها غير المحتاجة إلى برهان لبيان صدقها” مثل الـ 1 نصف الـ 2، والـ 2 نصف الـ 4، ومثل أن الشمس طالعة فالنهار موجود، وهكذا من الضروريات العقلية. إلا أن العديد من الأشياء قد لا تكون بهذه البساطة والوضوح للتوصل إليها بالعقل فقط لمعرفة الحقيقة وإدراكها إدراكا جازما ينتج عنه التصديق.

والأصل الجامع بين هذين التصورين هو إنكار وجود خالق وصانع لهذا الكون، وبناءً على ذلك أنكروا إمكان الاستدلال العقلي على وجود الله، لأن ما لا يمكن التحقق الواقعي من وجوده فلا يمكن عندهم الاستدلال على وجوده. والعقل وحده لا يمكن أن ينبني عليه المعرفة فالفرق بين الإنسان والحيوان ليس العقل بل الإدراك، فالإنسان عندما عرفه علماء المنطق بأنه “حيوان ناطق” أرادوا أن يفصلوا بينه وبين سائر الكائنات التي تجتمع في خصائصها الحيوانية بالإدراك وليس بالعقل أو الحس.

أما المدرسة الإسلامية في المعرفة فمن أمثلتها البارزة «أبي حامد الغزالي» و«نظرية الانتزاع»، مفاد هاتين التجربتين أن الاعتماد على الحس وحده ضلال والاعتماد على العقل وحده أيضا ضلال، بل والاكتفاء بالاثنين فقط ليس بالضرورة ينتج عنه تصور واضح عن حقيقة الأشياء ومن ثم معرفتها وإدراكها والتصديق بها، فإن هناك أشياء ومصطلحات لا بد من التعرض لها ومعرفة دورها في تكوين المعرفة لدى الإنسان.

فالفطرة التي فطر الله الناس عليها، تنتج أفكارا تولد بالقوة وتتحول إلى فعل مع تطور النفس وتكاملها الذهني. ونظرية الانتزاع تقول أن هناك تصورًا أوليًا وتصورًا آخر ثانويًا، أما التصور الأولي فهو متعلق بالإدراك الحسي، أما في التصورات الثانوية فإنه يأتي دور الابتكار والإنشاء، الأمر الذي يعتبر خارجًا عن نطاق الحس، ومن خلال هذه النظرية تعرفنا على العرض والجوهر والعلة والمعلول والعلاقات التي لا يمكن أن ندركها عن طريق الحس وحده[6].

أما الغزالي فبعد أن دار به الشك بين الحس والعقل، وشك في نتيجة كل منهما عاد ليؤكد على ضرورة البرهان العقلي والاستدلال والضروريات العقلية ولكن ليس بالنظر وإنما كما سماه «نور يقذفه الله في القلوب»[7] حتى يدرك الإنسان حقيقة الأشياء ويعرفها ويصل إلى ما هو أقرب للحقيقة، فقد ربط الغزالي مسألة المعرفة بمسألة الهدى والضلال وما عليه الإنسان من حالة نفسية وقلبية تؤثر على عقله وحواسه في إدراك الأشياء، ومن خلالها يمكن للعقل أن يدرك أشياءَ تتجاوز الضروريات والأوليات العقلية ولا تدرك بالحس. والإدراك في المدرسة الإسلامية في المعرفة مسألة حاكمة، والإدراك يخضع أيضا لمسألة الهدى والضلال.

نتطرق هنا إلى مسألة في مصادر المعرفة الإسلامية هامة للغاية، وهي المعرفة والعلم بين العقل والنقل، فتلك المسألة كانت مسارًا للخلاف بين العديد من الفلاسفة والعلماء المسلمين، فمنهم من رأى أن العقل ضروري في استيعاب النقل فجعل العقل متحكمًا في مسألة النقل قبولا وتصديقا ونظرا، ومسار آخر رأى – مع الاعتراف بدور العقل في استيعاب النقل – أن النقل أقوى وأدق وأوسع من العقل الذي قد يقف عند أمور ومسائل لا يستطيع إدراكها دون الاستعانة بالنقل والمعروف في مصادر المعرفة لدى الشرع بـ «الخبر الصادق» أو «التواتر».

فالنقل هو الذي يشكل عقلية الباحث والناظر في المدرسة الإسلامية، بل ويعطيه الوجهة الصحيحة والأدوات السليمة التي بناءً عليها يستطيع أن يقوم بعملية الاستنباط «من العام للخاص» والاستقراء من «الخاص للعام» – هذا قول «الحكيم بديع الزمان» في فصل الفلسفة عن الحكمة (مسألة العقل والنقل) وتأسيسه لمبدأي تأسيس العقل على النقل والتوسل بالنقل في العقل[8]- حتى يصل إلى المعرفة الحقيقية التي ترقى لما سماه الإمام الغزالي بـ «العلم اليقيني: الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم»[9].

وقد فسر الإمام ابن تيمية حصول العلم في القلب إلى ثلاثة أسباب وكلها مرتبطة بفعل وقدرة الله عز وجل وهي:

أولا: أسباب ذاتية كسبية، من خلال نظره واستدلاله وكسبه بواسطة الطرق المعرفية وهي العقل والحس والنقل، ولكنه مفتقر إلى ربه في حصول العلم.

ثانيا: أسباب ذاتية اضطرارية، فإن العلم قد يحصل في قلب الناظر بما يضطره الله إليه من غير اكتساب منه.

ثالثا: أسباب خارجية بما يقذفه الله في قلب الناظر، ومن أسباب ذلك الملائكة والشياطين «فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر، والتصديق والتكذيب مقرونان بنظر الإنسان، كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته».

فالخلاصة عند ابن تيمية أن «العلم يحصل في النفس، كما تحصل سائر الإدراكات والحركات، بما يجعله الله من الأسباب، وعامة ذلك بملائكة الله تعالى، فإن الله ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء». وهو ما سماه ابن تيمية افتقار الناظر إلى الدليل الهادي، إذًا فنحن للمرة الثانية نرصد تداخل مسألة الهدى والضلال الحاصلة في نفس وقلب وعقل الإنسان والتي ينبني عليها حصول المعرفة والتوصل إلى الحقائق وكيفية الاستدلال بناء على تلك الحالة النفسانية[10].

منتهى القول في مصادر المعرفة، أنها لا تأتي بمصدر وحده دون اعتبار للمصادر الأخرى، ولكن الاختلاف هو الأصل والأساس، فالمدرسة الغربية كان تفسيرها نابعًا من مركزية الإنسان وأنه هو الأصل، وأما المدرسة الإسلامية بمختلف مذاهبها ومدارسها فإنها تعتمد على مركزية الوحي وكلام الله، بل وأن الله هو الأصل وهو الحقيقة الثابتة القطعية، وما عدا ذلك من أحكام وأخبار ومدراك فهي تحتمل القطعية والظنية.


النموذج المعرفي

من أهم نتائج نظرية المعرفة على المستوى النظري والتي لها بعد تطبيقي أيضا هو النموذج المعرفي Paradigm، ذلك المفهوم الذي ينطوي على نظرة شاملة كلية للكون والحياة والإنسان والطبيعة من خلال منظومة قيم تحكم النموذج المعرفي والتي تجعل نموذجا معينًا يختلف عن غيره.

وبناء على ذلك نفرق بين النموذج المعرفي المحتكم لقيم المادة والنظرة المادية للطبيعة والكون وأن كل شيء خاضع للتجربة، وهو الممثل للنموذج المعرفي الغربي، الذي ينظر للطبيعة نظرة مادية هدفه التحكم فيها والسيطرة عليها، فالغرب معروف بهوسه في اكتساب معرفة السيطرة على الواقع والإنسان والطبيعة باعتبار كل هؤلاء يشكلون حالة مادية، ويفصل هذا النموذج «القيمة» عن «الحقائق» ومن ثم تصبح القيمة شيئا مستبعدا في كثير من الأحيان، كما يولد هذا النموذج ميتافيزيقا مفادها هو سيطرة الإنسان على الطبيعة.

أما النموذج المعرفي الإسلامي فهو يقوم على مركزية الوحي والشريعة وأن الله هو المركز وهو الحقيقة الثابتة في هذا الكون، وأن القيمة ليست منفصلة عن الحقيقة، بل هناك بعد أخلاقي – قيمي في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تساعد الفرد الإنسان على عبادة الله حق العبادة، وأن عقل الإنسان هو أداة للاستنباط والاستقراء والاستدلال والوصول إلى الأحكام الشرعية العملية “الفقه”، والذي يترجم في حياة الإنسان العملية في شتى مناحي الحياة، بدءًا من العبادات انتهاءً بالمعاملات. وأن الميتافيزيقا التي يولدها هذا النموذج هي متعلقة بأنه هناك حساب في الآخرة وأنه هناك جنة ونار وثواب وعقاب مرتبط بالعمل في الدنيا. فالعقل أداة يطوعها “النقل” ويشكلها لتكون في خدمة مركزية الكون، وهو الوحي من أجل الوصول لرضا الله والسعادة الدنيوية والأبدية الأخروية.


الخاتمة: أهمية التفكر في نظرية المعرفة

وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد من الصبا.

هذا جزء مبسط حول فكرة نظرية المعرفة وما ينتج عنها من نموذج معرفي متعلق بنظرة كونية للإنسان والحياة والطبيعة، الأمر الذي يبدو في غاية الأهمية عند دراسة العلوم ومقدماتها، خاصة فيما يتعلق بالنماذج المعرفية، فتلك النماذج هي التي توجه العلم وتحدد إطار المباحث التي تشكل أفكاره وقواعده، وبالتالي تنعكس على البيئة العلمية وعلى حياة الناس والمجتمعات فيما بعد، فهناك فرق بين العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية وبين غيرها من خلال نماذج أخرى وأهمها كما ذكرنا النموذج الإسلامي، وكذلك العلوم الطبيعية، فاستنباط مسائل العلوم وتوليد قواعدها من خلال تفسير مركزية المادة يختلف عن تفسير مركزية الوحي.

المراجع
  1. حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، الطبعة الثانية، دمشق، 1992، ص 31.
  2. د.عبد الله بن محمد القرني، المعرفة في الإسلام، الرياض، 2008، ص 16.
  3. د.عبد الله بن محمد القرني، المعرفة في الإسلام، الرياض، 2008، ص 18.
  4. Marie – Joelle Browaeys, Complexity of epistemology: theory of knowledge or philosophy of science, NYENRODE University, The Netherlands Business School, 2004, p3 ,
  5. محمد باقر الصدر، فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 2009 ص 102،105.
  6. محمد باقر الصدر، فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 2009 ص 110.
  7. حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، الطبعة الثانية، دمشق، 1992، ص 36.
  8. د.طه عبد الرحمن، سؤال المنهج: في أفق تأسيس لأنموذج فكري جديد، المؤسسة العربية للفكر والابداع، بيروت، 2015، ص 184.
  9. حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، الطبعة الثانية، دمشق، 1992، ص 36.
  10. د. عبد الله بن نافع العجاتي، منهج ابن تيمية المعرفي: قراءة تحليلية للنسق المعرفي التيمي، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، الخبر، المملكة العربية السعودية، 2014، ص 77.