لكن يا دون ميجل، إن التفاؤل والبراءة وهالة الإمكانات التي عشتها قد جفت جميعها إلى حد كبير، والكون آخذ في الإطباق علينا من جديد. ونحن مثلك، نبدو وكأننا نقف عند حافة نهاية عصر وعلى أعتاب عصر آخر. نحن أيضًا قادنا النقاد والمحللون إلى طريق مسدود، ونحن أيضًا نعاني من «أدب الإرهاق» برغم أنه من المفارقات أن أبطالنا لم يعودوا «أما ديس» فارس خيالي في الأدب الإسباني القروسطي الذي لا يكل ولا يمل، بل دون كيشوتات مهزومين وبلا أمل، قعيدي السرير.

الروائي الأمريكي «روبرت كوفر» موجهًا حديثه للروائي الإسباني الكلاسيكي «ميجيل سيرفانتيس» مؤلف رواية دون كيشوت، في إهدائه [1] الذي يفتتح به كتابه «Pricksongs & Descants»

لعل من أسهل التعريفات التي يمكننا أن نُعرّف بها مصطلح «ما بعد الحداثة» هو: انهيار الحداثة وتقوضها على ذاتها، حيث لا تبتعد معظم تعريفات ما بعد الحداثة كثيرًا، عن التعبير عن انهيار المقولات المركزية والقيم التي شيدت على أساسها الحداثة مثل التقدم، وسيادة العقل والإيمان بالعلم، وإمكان توفير الحقيقة واليقين والحلول لجميع مشاكل الإنسان.

على عكس النظرة السائدة عادًة إلى «ما بعد الحداثة» كسياق تاريخي منفصل ومستقل عن الحقبة الحداثية؛ يمكننا أن ننظر في المقابل إلى ما بعد الحداثة كأفق ومشارف لنهاية عصر الحداثة ذاته، في ظل أزمة غياب حلول اجتماعية واقتصادية وسياسية للعديد من المشكلات الإنسانية والاجتماعية التي واجهتها وتواجهها الحداثة الغربية، التي لم تتشكل بعد بدائل حقيقية من الشرق أو الجنوب لتحدي هيمنتها السائدة في عالمنا المعاصر.

تتجلى مظاهر «ما بعد الحداثة» في حياتنا الراهنة على أكثر من مستوى، من الفلسفة مرورًا بالآداب والفنون، وصولًا إلى العمارة وأشكال وتصميمات المباني والمدن. وبعيدًا عن الإسهاب في الشرح النظري لمفهوم ما بعد الحداثة، نقدم هنا سردًا لمظاهرها وآثارها في الفكر والاجتماع والعديد من نواحي الحياة الأخرى، كروح وعنوان لهذا العصر.


«زمن النهايات»: فلسفة وفلاسفة ما بعد الحداثة

عبرت أطروحة الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت المعروفة بـ«موت المؤلف»، التي قدمها في مقال نقدي له يحمل العنوان ذاته، عبرت عن المناخ الفكري العام لمرحلة ما بعد الحداثة الذي شاعت فيه فكرة الموت والنهايات، والتي أصبحت فكرة حاضرة باستمرار في فلسفات النصف الثاني من القرن العشرين، على نحو يعكس حالة من فقدان الثقة في المقولات الرئيسية التي تأسست عليها الحداثة.[2]

أخذ هذا المنحى في الظهور بشكل بارز في الفكر الغربي في البداية لدى الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه الذي أعلن عن «موت الإله»، وهو تعبير قصد به نيتشه التعبير عن تهاوي الدين وأفوله في الواقع الأوروبي الحديث، وتعددت تجلياته بعد ذلك، حيث نجد عالم الاجتماع والناقد الأدبي الألماني والتر بنيامين يعلن عن «نهاية الفن» في عصر الإنتاج الصناعي الآلي.[3]

ونجد أيضًا الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر يعلن نهاية الميتافيزيقا، ونجد كذلك المفكر والمنظر الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو يعلن عن «نهاية الإنسان»، ثم تتطور النهايات بعد ذلك إلى أن تصبح نهاية السرديات الكبرى بحسب المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، ثم «نهاية الفلسفة النسقية» على يد الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، ونهاية الواقع علي يد الفرنسي جان بودريار، ثم «نهاية التاريخ» على يد عالم السياسة الأمريكي فرانسيس فوكوياما، وصولاً إلى إعلان نهاية كل شيء ودق أجراس الموت كما يشير عنوان أحد مؤلفات جاك دريدرا.[4]

تعبر معظم تلك المقاربات عن أزمة إنسان القرن العشرين وإخفاق مشروع الحداثة المعرفي والأدبي في الوصول إلى المعنى والحقيقة واليقين على المستويين الفلسفي والنقدي، وفقدانه للمعايير الواضحة على المستوى القيمي والأخلاقي، ولغياب الصلابة على مستوى إنتاجه لأشكال الوجود الاجتماعي، وعن نهاية العالم التقليدي وعالم الحداثة الكلاسيكي على حد سواء، وعن واقع مفكك بلا مركز يفتقد إلى التماسك والمعيارية.

يصور عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان تلك السيرورة بأنها حالة انتقال من الصلابة إلى السيولة، حيث تمتعت الحياة الإنسانية بقدر من اليقين والصلابة خلال العصر الحديث الذي اعتقد خلاله الإنسان أنه في طريقه إلى السيادة على هذا العالم والسيطرة التامة عليه، وهي المعتقدات التي اهتزت بعد ذلك، وصار التغيير هو الثابت، وأصبح اللايقين هو اليقين الوحيد، وانهارت الروابط الحقيقية بين البشر، في مقابل صعود للعلاقات السطحية والمتع الوقتية والرغبة في الإشباع الفوري على مختلف المستويات.[5]

يرى الباحث والأكاديمي البريطاني تيري إيجلتون أن الحداثة منحت الصفات المهيبة للإله لمجموعة من أسماء عالمنا الدنيوي كالطبيعة والإنسان والعقل والتاريخ والرغبة، بينما دفعت حركة ما بعد الحداثة تلك الحركة العلمانية خطوة أخرى للإمام حيث تصر أنه طالما لدينا أعماق وجوهر وأسس، فإننا لا نزال في حضرة الإله، وليس أمامنا سوى الانفصال عن المفهوم الكلي للمعنى العميق، وعدم السعي وراء ما تؤمن الحركة ما بعد الحداثية أنه وهم البحث عن معنى الأشياء، حتى نستطيع الفكاك تمامًا من المنظومة العتيقة الكاملة للميتافيزيقا واللاهوت.[6]


ما بعد الحداثة كتجربة جمالية

عبر الشكل الفني الذي صممه الفنان الأمريكي كارل أندريه وقدمه في معرض Tate Modern الفني في لندن عام 1976، والمسمى بتساوي 8، عن فن ما بعد الحداثة بجدارة، وكانت قطعة أندريه قد جاءت على شكل مستطيل مكون من مجموعة من القوالب الحجرية المتراصة بشكل لا يحمل أي معنى معبر على المستوى الفني أو التركيبي.[7]

أدى ذلك إلى طرح أسئلة من قبيل، هل هذا فن حقًا؟ أم كومة من الطوب تتظاهر بأنها فن؟

يعكس ذلك سمة نموذجية من سمات ما بعد الحداثة؛ ألا وهي أزمة فراغ المعنى وتجريفه، بينما يقع على عاتق المتلقي سواء للفن ِأو للأدب ما بعد الحديث مسئولية مواكبة الأفكار المحيطة بتلك الأعمال العجيبة الخالية من المغزى.[8]وهو ما يمثل نقطة تحول أساسية عن فكرة الخصائص الفنية المعبرة شعوريًا التى ميزت الفن الحداثي السابق، ومن هنا جاءت فكرة العديد من أعمال فناني ما بعد الحداثة الغريبة والشهيرة كتمثال «المبولة» الشهير، أو عجلة الدراجة الموضوعة فوق كرسي صغير للفنان الفرنسي «مارسيل دوشامب».[9]


ما بعد البنيوية والتفكيك

في كتابه الماتع «المرايا المحدبة: من البنيوية إِلى التفكيك»، يصور د.عبد العزيز حمودة علاقة النقد التفكيكي بالنص الأدبي على أنها علاقة رقص بين الطرفين، حيث يتحرك الطرفان في حركة مراوغة مستمرة، يهتز خلالها كل طرف في الجانب المعاكس من رفيقه، دون أن يتقابلا في منتصف الطريق إلا لثوان عابرة.[10]

إلا أنه رغم ذلك فالمسألة ليست احتفالية بحسب حمودة؛ ولكنها أكثر كآبة، حيث نتعامل مع حالة من الفوضى الشاملة يصفها البروفسور الأمريكي فنسنت ليتش في تمهيده لدراسته عن التفكيك بأنها تخرب كل شيء في التقاليد تقريبًا، وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة والنص والسياق والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير، وإشكال الكتابة النقدية، ليخرج لنا في النهاية شيء فظيع.[11]

التفكيك هو أحد جوانب ما بعد البنيوية المنتمية إلى منظومة معرفة ما بعد الحداثة، وقد جاءت تسمية ما بعد البنيوية من الأكاديميا الأمريكية، والتي صنفت أعمال عدد من المفكرين الفرنسيين تحت هذا المسمى، من أبرزهم جاك دريدا وليفي شتراوس وميشيل فوكو ورولان بارت.

وترتكز المنهجية التفكيكية في النقد الأدبي على إهمال دور المؤلف ومراميه، وتسليط الاهتمام على قارئ النص الذي يستطيع توليد معان وتأويلات لا حدود لها من النص، في منحى عبثي وعدمي إلى حد بعيد.

المراجع
  1. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة،الكويت،العدد رقم 232، أبريل، 1998، ص 57
  2. بدر الدين مصطفى، دروب مابعد الحداثة،مؤسسة هنداوي سي آي سي، ص 135
  3. المصدر السابق
  4. المصدر السابق
  5. زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو بكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت
  6. يري ايجلتون، معنى الحياة: مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي، ص 26
  7. كريستوفر باتلر، ما بعد الحداثة، ترجمة نيفين عبد الرؤوف، مؤسسة هنداوي ص 7
  8. المصدر السابق
  9. المصدر السابق
  10. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، مرجع سابق ص253
  11. المصدر السابق