انتاب سكان مدينة نيويورك الهلع جرّاء سلسلة تفجيرات وقعت في أماكن عامة، لمجموعة قنابل يدوية الصنع في أواخر أربعينيات القرن الماضي، عرّف مُرتكِب تلك الفواجع نفسه في الخطابات باسم F.P، ولقّبته الصُحف المحلية في نيويورك بـ«أعظم تهديد فردي واجهته مدينة نيويورك على الإطلاق».

ورغم أنّ قوات الشرطة لم تتوانَ للحظة في البحث منذ عام 1940، فإن التحقيق لم يتحرك قيد أنملة، ولم يكن ذلك بالأهمية القصوى في البداية، لأن المُفجّر المُتسلسل استخدم قنابل بدائية جدًا، ولم تُسفِر تفجيراته الناجحة عن قتل أحد، لكن مع حلول 1956 صارت القنابل أكثر تطورًا، وباتت نبرة المفجر أكثر حدة وتهديدًا في خطاباته، فكان لا بد للشرطة من أن تنقل التحريات إلى بعدٍ آخر.

قررت الشرطة الاستعانة بالخلفية المعرفية للطبيب النفسي «جيمس بروسيل» وخبرته في التعامل مع المجرمين، فأرسلت إليه الأدلة التي حَوت صورًا للقنابل غير المنفجرة ومجموعة خطابات من المجرم ليس إلا، في البداية احتج معترضًا، إذ إنّ ما فشلت تحريات الشرطة في كشفه لـ16 عامًا لن يستطيع هو حله في وقتٍ قصير، لكن شخصًا كبروسيل يعشق القصص البوليسية ويقتدي بـ«شيرلوك هولمز» و«سي أوغست دوبين» فكان لا بد في النهاية أن يوافق.

استغرق الأمر دكتور بروسيل ساعتين فقط ليخرج بالاستنتاج التالي:

إن المفجِّر المجنون مصاب بانفصام الشخصية، منعزل، في منتصف الأربعينيات من عمره، ذو جسم رياضي لا بالسمين ولا النحيف، رجل مهندم، أزياؤه ومظهره أبعد ما يكونان عن البهرجة، لا يرتدي المجوهرات، متقن في عمله، ملتزم بالمواعيد، لم ينخرط من قبل في أيٍّ من حلقات اللهو أو المشاغبة، سريع، أصيب بعقدة أوديب ما بين الثالثة والسادسة من العمر.

التنميط الجنائي وتحديد أوصاف المجرمين

سُجلت قضية دكتور جيمس بروسيل كأول عملية لتحديد أوصاف المجرمين، قبلها، لم يكن لهذا الإجراء اسمٌ بعينه، حتى إن بروسيل نفسه سمّى ما قام به «علم النفس العكسي»، وفي ثمانينيات القرن المنصرم أصبح العالم يعرفها باسم «التنميط النفسي/ تحديد أوصاف الجُناة».

حين لا تسفر الأدلة الشرعية في مسرح الجريمة عن استدلالات تستحق، أو تندر مفاتيح حل الجريمة، يتعيّن على المحققين إجراء بعض القفزات التخيلية من أجل الوصول إلى بعض التخمينات حول الجاني، ويبدأ المحققون باستنتاج الفرضيات من خلال طريقة ارتكاب الجريمة بشأن نوعية مقترفها، بمعنى القيام بالتفكير في الجريمة على نحوٍ معكوس، ولعلّ أكثر التركيز هنا ينصب على سبب ارتكاب الجريمة.

لنفرض أن تلفًا ما بالدماغ يقود إلى العنف، وأنّنا نحقق في جريمة تخلّلها العنف، هنا يمكن أن نصل إلى أن الشخص صاحب التلف مشتبه به، لكن الواقع أصعب بكثير، فليس كل شخص عنيف هو بالضرورة مُصاب، وليس كل مصاب سيكون عنيفًا.

هل الأدب الروائي محض خيال؟

الآن وأنت تقرأ عن عملية استنتاج دكتور بروسيل لأوصاف جورج ميتيسكي، المُفجِّر المجنون، ربما لم تستشعر نفس الكمّ من التشويق الذي ينتابك وأنت تتابع إحدى حلقات مسلسل Sherlock، لن ألومك في ذلك، فالأدب الروائي يُضخّم كثيرًا من عملية «تحديد الأوصاف»، فهو لا ينشد الواقعية بقدر التسلية واجتذاب الجماهير، ويتجاهل تمامًا حقيقة أن تحريات الشرطة عملية معقّدة للغاية، وأن معرفتنا بطبيعة شخصية المجرم ربما لن تقودنا سوى نحو سراب، وأنّه ربما لو تحرى الدقة قليلًا لما عجّت عناوين الصحف الرئيسية بالحديث عن أوصاف المجرم، ولما صار أول ما يسأله الصحفيون لعناصر الشرطة في جريمة ما: هل استعنتم بمحدد أوصاف؟

رغم أن تحديد الطبيب جيمس بروسيل لمواصفات المفجّر المجنون جاءت صحيحة تمامًا من حيث بنيته الجسمية وتعليمه وصفاته، بل وتنبّأ بروسيل أيضًا بما سيرتديه المفجّر لحظة إلقاء القبض عليه، ورغم أن فعلته نالت استحسان الجماهير ممّن اعتبروها بداية واقعية لتحديد أوصاف المجرمين، فإنّ كل هذا لم يفد الشرطة بشيء ولم يدفعها ولو بقدر خطوة في تحقيقها في ملابسات الجريمة.

كتالوج المجرمين: هل للمجرم هيئة محددة؟

تبارى علماء الجريمة منذ مائة عام في تحديد أوصاف بيولوجية معينة للمجرمين، مثلًا رأى بعضهم أنّه لا بد للمجرم وأن يمتلك يدين طويلتين، بينما حدّد «تشيزاري لومبروزو»، عالم الجريمة الإيطالي ذائع الصيت، إرشاداتٍ بعينها في بناء الرأس، كأن يملك المجرم أُذنين بارزتين، وشعرًا كثيفًا، ولحية خفيفة، وفكًا عريضًا، وضمّن تلك الصفات في كتابه «أطلس أنواع المجرمين». (كما بالصورة)

أوصاف المجرمين تشيزاري لومبروزو كتاب أطلس أنواع المجرمين
أوصاف المجرمين كما «تشيزاري لومبروزو» في كتابه «أطلس أنواع المجرمين»

في حين ابتعد الفكر الحديث كل البعد عن بنية المجرم الجسدية، وعزا سلوكه إلى مستويات الهرمونات وربما تكوينه الجيني، فانحاز عدد من الخبراء إلى أنّ الإجرام ناجم عن اضطراب بالمخ نتيجة التعرّض لحادث سواء وقت ولادة المجرم أو حتى في وقتٍ لاحق في حياته.

ولكن أيضًا الأمر ليس بهذه السهولة، وإلا لجرى التعرّف على المجرم من خلال تاريخ تعرّضه لصدمات برأسه في الطفولة، أو من خلال اختبارات مسح المخ بالأشعة، وهم بذلك يذهبون إلى إمكانية اكتشاف المجرمين قبل ارتكاب الجرائم.

يُلقي كذلك البعض اللوم على التستوستيرون، أو على بنية الجهاز العصبي للمجرم وفقدانه نظام الثواب والعقاب، ويستند جماعة من العلماء إلى نظرية التطور، فيزعمون أن المجرم أقل تطورًا من أقرانه.

لكن كل ما ذكرناه لا يعدو كونه فرضيات تُصيب في جانب وتخطئ في جوانب أخرى.

الاضطرابات العقلية والسيكوباتية

فجّرت قضية «داريل رينارد أتكينز» الجدال بشأن وعي المجرمين بارتكاب جرائمهم. أُدين داريل أتكينز عام 1996 بقتل رجل من خلال إطلاق النار ثماني مرات عليه عقب سرقته، وحُكم عليه بالإعدام إثر ذلك، لكن لدى إجراء علماء النفس تقييمًا لأتكينز، أفادوا أنّ حاصل ذكائه يبلغ 59، وفي الاستئناف اعتبرت المحكمة العليا ذاك دليلًا على كون أتكينز يعاني من صعوبات التعلّم، أو بالمعنى الأقل حساسية «متخلف عقليًا». لذلك برّأت المحكمة أتكينز باعتبار إعدام شخص متخلف عقليًا، مخالفًا للقانون.

قبل تلك القضية لم يملك علماء النفس السلطة ذاتها في قاعة المحكمة، إذ إنه منذ عام 1976 جرى تنفيذ حكم الإعدام بالولايات المتحدة على 750 متهمًا، من بينهم 35 شخصًا كانوا مثل أتكينز، ذوي ذكاء أقل من الطبيعي.

إذن هل يمكن أن نُسلِّم إلى نظرية جديدة بأنّ أغلب المجرمين ذوي ذكاء أقل من المتوسط؟ في الواقع «لا»… فعلى النقيض تمامًا ينتشر المجرمون بين شريحة أخرى من البشر تعرف باسم «السيكوباتيين»، وهم يقومون بارتكاب الجرائم وهم يعون تمامًا ما يقومون به وعدم قانونيته، أضف إلى ذلك أنّهم غير مصابين بأي مشكلات عقلية واضحة، بل عقلانيون جدًا ومنطقيون تمامًا، أشخاص عاديون، بل ربما هم أذكى من الأشخاص العادية، الأمر الذي يفسر لِمَ يكونون جذابين في الظاهر.

لا تعدّ مصطلحات مثل «سيكوباتي» و«اضطراب الشخصية» سوى أحكام أخلاقية متنكرة في صورة تفسيرات طبية، فهي لا تساعدنا في فهم لماذا يتصرف هؤلاء البشر هكذا، أو لماذا يقترفون مثل تلك الفظائع.

كل الطرق تؤدي إلى اللاشيء، لا هيئة معينة للمجرم، ليس بالضرورة أن يملك صدمة عقلية، أو اضطرابًا نفسيًا، أو يبلغ ذكاؤه قدرًا معينًا. تتعدد التفسيرات وتتضارب، لكن علم النفس يقف مكتوفًا أمام ما يجب اعتباره صحيحًا، وما هو ليس كذلك، ليرضخ في النهاية لأن المجرم مُتفرِّد في إجرامه تفرد أي إنسان عن أقرانه، ببساطة جدًا علينا أن نعرف أنه ليس هناك كتالوج للمجرمين.

آلات الكشف عن المجرمين

انتهت حلول التخمين وتصنيف المجرمين، وربما علينا أن نرتاح قليلًا ونترك الأمر للآلات، إذا كانت تحرياتنا على جسد المريض أو عقله لا تفلح، فسنلجأ إلى اختبار استجابته الفسيولوجية ونعتمد على جهاز كشف الكذب.

لا أريد أن أصدمك مجددًا، لكن لجهاز كشف الكذب نجاح محدود، وربما تكون الأعمال الدرامية قد خدعتك حين علّقوا عليه كل تلك الأهمية.

مبدئيًا يعتمد الجهاز على الاضطراب الذي يُصيب الشخص موضع الاستجواب حين يكذب، وهذا يعني أنّ شخصًا مقتنعًا بصدق روايته وإن كانت خطأ لن يكشفه الجهاز، أو شخصًا معتادًا على الكذب، ومن ثمّ تتضاءل أهمية جهاز كشف الكذب.

لحسن الحظ أوجد علماء النفس طرقًا أخرى متعلقة بأسلوب سرد المجرم، فمثلًا الشخص المعتاد على الكذب سيبني كذبته على شيء حدث بالفعل، لأنه يعلم أن الكذب يتطلب الخيال، وسوف يُسهِب في الوقائع، أو قد لا يرغب في الإجابة.

يلجأ المُحللون النفسيون الآن إلى تحليل صحة العبارات الذي يعتمد بدوره على 13 معيارًا، من ضمنها الاتساق المنطقي وانتظام الرواية ومقدار التفاصيل الواردة في شهادة الجاني… إلى آخره من المعايير.

وماذا بعد؟

إن مجرمًا خبيرًا قد يتمكن من اجتياز كل هذا، فليست كل الإجراءات في النهاية سوى كشّافات تنير طريقنا عدة خطوات فقط في سبيل القبض عليه، لكنها كذلك ليست بالدقة الكافية، فمثلًا في الفيلم الشهير The Silence of the Lambs نرى «أنتوني هوبكنز» مُجسدًا لدور سيكوباتي ذكي يأكل لحوم البشر، تمكّن من تضليل الشرطة عدة مرات، لا تظهر عليه أي علامات للإجرام، يأكل ضحاياه من دون أدنى توتر ومن دون أن تزداد ضربات قلبه ضربة واحدة، صحيح أنه شخصية سينمائية لكننا لا نستبعد وجود كثير منه على أرض الواقع.

في عالم المجرمين لا قواعد معينة، ومثل كل ديكتاتور مرّ تاركًا بصمته في التاريخ، كذلك يفعل أي مجرم في حدود قدرته وبيئته، ومنْ يدري لعلّ شخصًا ممّن تحبهم من المشاهير أو من معارفك المقربة قد نكتشف في النهاية أنّه مجرم مُتخفٍ.