لقد تركت الحضارة العباسية آثارًا باقية حتى يومنا هذا، سواء في الفكر والعلوم المتنوعة أم في الواقع؛ حيث الآثار والأبنية التي ظلت شاهدة على عصر من أزهى عصور الإسلام المجيد.

لم يتوان العباسيون في الاجتهاد من أجل استعمار الأرض واستثمارها وفقًا للضوابط الشرعية، لا سيما في فترات قوة دولتهم.

فقد اهتم العباسيون بأرض السواد (المناطق الزراعية في العراق)، ودأبوا على المحافظة على شق القنوات وتجديدها، وجعلوها من الوظائف الرسمية للدولة. وحرصًا منهم على استثمار الأراضي الواقعة بين دجلة والفرات؛ أوصلوا مياه النهرين بالآخر، وبقيت هذه الأقنية يُستفاد منها حتى يومنا هذا[1].

ومما يُدلل على اهتمام الخلافة العباسية بالمياه، وشدة الحرص على استثمارها وحمايتها، ما ذكره «ديورانت» بقوله:

كانت الحكومة العباسية تُشرف على قنوات الري الرئيسية، وتتعهدها بالصيانة والتطهير. فأوصلت ماء الفرات إلى أرض الجزيرة، وماء دجلة إلى أرض فارس، وشقت قناة كبيرة بين النهرين التوأمين عند بغداد.

وكان خلفاء الدولة العباسية الأولون يشجعون الأعمال الخاصة بتجفيف المستنقعات، وتعمير القرى المخربة والضياع التي هجرها سكانها. وكان الإقليم المحصور بين بخارى وسمرقند؛ يعد في أثناء القرن العاشر (إحدى الجنات الأرضية الأربع)، وكانت الثلاث الأخرى هي «جنوبي فارس، وجنوبي العراق، والإقليم المحيط بدمشق في بلاد الشام»[2].

كما عنيت الخلافة العباسية بصيانة السدود والقنوات، وجعلوا عليها جماعة من الموظفين أُطلق عليهم اسم المهندسين، ومهمتهم المحافظة على هذه السدود خشية انبثاق الماء منها. اللافت هو أن العباسيين قد جعلوا لماء الري بمرو ديوانًا أطلقوا عليه «ديوان الماء».

كان يُشرف على هذا الديوان موظف كبير يعاونه أكثر من عشرة آلاف عامل، وتودع في سجلاته مقادير خراج الأراضي على حسب نوع ريّها. كما كانوا يعنون بإقامة مقاييس على الأنهار للوقوف على مقدار ارتفاع الماء وانخفاضه للاستئناس بذلك في فرض الخراج، كما كانت مهمته المحافظة على المجاري المائية، وتنقيتها بصورة مستمرة[3].

وقد وجدنا الخليفة العباسي «المأمون» ينزل في دمشق، ويرى أن المصلحة تحتم عليه أن يجري قناة من نهر منين في سفح جبل قاسيون إلى دير مران[4]. وقد أقام العباسيون سَدّين في شمال غرب بغداد ليتوزع منهما نهران هما؛ نهر «الدجيل» الذي جعلوا له قنوات تنفُذُ في الشوارع والدروب لإيصال المياه إليها صيفاً وشتاء[5]، ونهر «كرخايا» لسقاية البساتين هناك.

وفي أطراف بغداد، أقاموا سدين للسيطرة على مياه نهري «القلائين، والبزازين» اللذين تم تنفيذهما لسقاية بساتين هذه العاصمة[6]، وكذلك أقاموا سدًا على نهر «عيسى» وعملوا عليه سدًا آخر ليتفرع عنه نهر «الصَّراة» مارًا بمنخفض «عقرقوف»، ثم أقاموا سدًا آخر ليتفرع عنه نهر «الخر» الذي عُرف باسم نهر «الخير» وقد طمر لاحقًا.

ومع اتساع حجم خزانات المياه والسدود التي سيطروا على مياهها، ونظموا تدفقها؛ جعلوا لها ديوانا سموه «ديوان الأقرحة» (ديوان الماء)[7]· ومن الأنهار العظيمة التي شقها العباسيون؛ نهر «النهروان»، الذي عملوا له سدًا عند الجهة الشرقية لنهر «دجلة» جنوب بلدة «الموصل» ليمتد النهر 150 ميلاً شمال بغداد، ثم يمتد من العاصمة العباسية جنوبًا، ولمسافة 100 ميل حتى شمال مدينة واسط.[8]

الجدير بالذكر أنه كانت هناك محاولات أخرى نفذت في مواقع أخرى أيام الخلافة العباسية؛ كالسد الذي اقترحه وحاول تنفيذه «الحسن بن الهيثم» على نهر النيل في مصر، إلا انه لم يفلح، مع العلم أن هناك العديد من العرب والمسلمين الذين أبدعوا في هذا المجال؛ منهم أبناء «موسى بن شاكر»[9] و«عبد الغني بن مسافر»، وغيرهم كثير[10]·

واهتمت مؤسسة الخلافة ببناء المقاييس على الأنهار الجارية للاستفادة الكاملة من المياه، ومعرفة أوقات الانحسار والفيضان بصورة علمية منتظمة من أجل استثمار هذه الأنهار استثمارًا جيدًا.

ففي مصر، بنى الخليفة المتوكل «مقياسًا في سنة 247 هــ في ولاية «يزيد بن عبد الله»، وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد [الموجود حتى يومنا هذا]. قَدِم من العراق «محمد بن كثير الفرغاني» المهندس فتولّى بناؤه؛ وأمرَ «المتوكل» بأن يعزل النصارى عن قياسه؛ فجعل «يزيد بن عبد الله» أمير مصر على القياس «أبا الردّاد» الفقيه المعلم، واسمه «عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الرداد» المؤذن.

أجرى عليه «سليمان بن وهب» صاحب خراج مصر سبعة دنانير في كل شهر، فلم يزل القياس من ذلك الوقت في أيدي «أبي الرداد» وأولاده. ومات أبو الرداد المذكور في سنة ست وستين ومائتين»[11]. ولقد حرص فقهاء المسلمين على جعل الارتفاق بالمياه حقًا عامًا تحميه الدولة[12]، بل وألزموا الدولة بتطهير الأنهار العامة وصيانة جسورها.

أما إذا كان مورد المياه يخص طائفة بعينها، فإن عليهم صيانتها؛ ولذلك أفتى الإمام «أبو يوسف» -قاضي قضاة العباسيين، وتلميذ «أبي حنيفة النعمان»- فتوى مفيدة توضح كيفية تحمّل هؤلاء عبء العمل، قال:

سألتَ يا أمير المؤمنين عن نهر بين قوم خاصّة يأخذ من دجلة أو الفرات أرادوا أن يكروه [يستأجروه] أو يحفروه، فكيف الحفر عليهم ؟ فإنهم يجتمعون جميعًا فيكرونه من أعلاه إلى أسفله. فكلما جازوا أرض رجل رفع عنه الكري، وأكري بقيتهم كذلك حتى ينتهي إلى أسفله.

وقد قال بعض الفقهاء:

يكرى النهر من أعلاه إلى أسفله، فإذا فرغ من ذلك حسب أجر جميع حفر ذلك النهر على جميع من يشرب منه من الأرض، فلزم كل إنسان من أهله، بقدر ماله، فخذ يا أمير المؤمنين بأي القولين أحببت.

ثم قال:

وإذا خاف أهل هذا النهر أن ينشق عليهم، فأرادوا تحصينه من ذلك، فامتنع بعض أهله من الدخول معهم فيه، فإن كان في ذلك ضرر عام أجبرهم جميعاً على أن يحصنوه بالحصص، وإن لم يكن فيه ضرر عام لم يجبروا على ذلك، وأمرت كل إنسان أن يحصن نصيب نفسه[13].

وفيما يتعلق بالاهتمام بالحيوان ورعايته؛ فقد انطلقت المؤلفات في علم الحيوان في العصر العباسي انطلاقة مهمة في تاريخ علم البيطرة العالمي؛ بل حرص كثير من أبناء المجتمع الإسلامي بامتهان هذه المهنة.

فقد ذكر «سارتون» أن من أهمية علم البيطرة عند المسلمين، ولشدة احترامهم لهذه المهنة؛ تجد الكثير من العائلات تأخذ كنية البيطري، وأن هذا العلم قد أصبح فرعًا متخصصًا من فروع العلاج في ذلك الوقت المبكر في التاريخ الإسلامي.

ولكي نعطي القارئ فكرة عن المدى الذي وصل إليه المسلمون من التطور العلمي في ميدان الطب البيطري.. حسبنا أن نسرد بعض الأبواب من كتاب (الفروسية) الذي ألفه «أحمد بن الحسن بن الأحنف» (البيطار) سنة 1200م، وهو عبارة عن موسوعة علمية في أمراض الخيل ورعايتها[14]، فهذه الموضوعات العريضة والدقيقة التي يطرقها المؤلف في القرن السادس الهجري (الـ12 الميلادي) تدلنا على مدى اهتمام المسلمين بالبيطرة وعلاج الحيوان وحمايته.. وعلى إنجازاتهم وتفوقهم في هذا الميدان.

كان من أشهر الذين ألّفوا عن الحيوان وغلب على تناولهم الطابع اللغوي؛ «النضر بن شميل» (ت 204هـ، 820م)، ومن آثاره كتاب (الصفات في اللغة)، الذي يتكون من خمسة أجزاء، خصص الجزء الثالث منه للإبل. كما تناول الغنم والطير وخلق الفرس من بين ما تناول في الجزأين الرابع والخامس[15].

كذلك «أبو زياد بن عبد الله الكلابي» (ت نحو سنة 200هـ، 815م)، وله كتاب (الإبل)، و«هشام الكلبي» (ت 204هـ، 819م) ومن تصانيفه (أنساب الخيل)، و«أبو عبيدة التَّيمي» (ت 207هـ، 823م) ومن مؤلفاته في الحيوان: كتاب الفرس، كتاب الإبل، كتاب الحيات، كتاب أسماء الخيل، كتاب البازي[16].

و«الأصمعي» (ت 214هـ، 829م) ومن مصنفاته؛ خلق الفرس، الخيل، الإبل، الشاء، كتاب الوحوش[17]. و«ابن السكيت» (ت 243هـ، 857م)، ومن تصانيفه؛ كتاب الوحوش، كتاب الحشرات، كتاب الإبل[18]. و«الدينوري» (ت 282هـ، 895م) وله كتاب الخيل.

كما ألّف «أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» (ت 255هـ، 869م) موسوعته الضافية بعنوان «الحيوان»[19]، وهي مصنف يحتوي على معظم المعارف، والمسائل الفلسفية، الدينية، السياسية، الجغرافية، الطب، القرآن والحديث، والفكاهة. أما بحثه في الحيوان؛ فقد درس فيه سلوكه وأعضاؤه، وتطوراته، وطعامه وشرابه، وسلاحه وطباعه، وأمراضه وعمره، وموطنه وأثر البيئة فيه، وعلاقته بغيره من الحيوان.


*باحث في التاريخ والتراث

[1] شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص377.

[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/ 107.

[3] الخوارزمي: مفاتيح العلوم ص26.

[4] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 2/ 391.

[5] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 2/ 304.

[6] رضا جواد الهاشمي: المقومات الاقتصادية لمجتمع الخليج العربي القديم مجلة النفط والتنمية، العدد 7 و 8 ص88 ·

[7] عماد محمد ذياب: أثر المشاريع الإروائية في النمو الحضاري العربي، ندوة الري عند العرب، جامعة بغداد، بغداد 198، ص92 ·

[8] السابق ص92، 93.

[9] ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي 1/ 277.

[10] الدوميلي: العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي، ترجمة عبد الحليم النجار ومحمد يوسف ص305-306·

[11] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 1/ 254.

[12] د. محمود الرفاعي، حقوق استثمار المياه في الإسلام، ص71، مجلة الدارة، العدد 1، السنة 19، شوال 1413هـ

[13] أبو يوسف: الخراج ص202، 203.

[14] فالباب الأول: يتناول دراسة أسنان اللبن والأسنان الثابتة.. والباب الثاني: عن المظهر الخارجي والصفات العامة المميزة للفرس والحمار والبغل، والباب الثالث: وظائف الأعضاء الخارجية، والباب الرابع: عن الفروسية وطريقة الركوب، والباب الخامس: عن سباق الخيل، والباب السادس: عن العيوب الوراثية في الخيل، والباب السابع: عن الصفات السيئة والعيوب الجسمية، والباب الثامن: تقسيم البطن.

الباب التاسع: عن أمراض الرأس والعيوب الخلقية، بها أمراض: الرقبة والحلق (11) أمراض الكتف والصدر (12) أمراض الظهر (13) الأمراض الد اخلية والباطنية (14) الذيل وعيوبه (15) الفخذ والساق (16) أمراض الأعصاب (17) الكسور والخلع وجبرها (18) حميات الخيل (19) الأمراض الجلدية مثل الجرب والحكة والدمامل والجدري والجذام والحروق (ص 287) (20) الجنون والهيجان (21) العلاقات الجنسية والتناسلية (22) الإجهاد من الحر والبرد (23) الضعف العام والهزال (24) التسمم من النباتات السامة (25) مرض الكلب (26) قرص العقرب والثعبان وعلاجها.

[15] ابن النديم: الفهرست ص77.

[16] إسماعيل البغدادي: إيضاح المكنون 2/ 291.

[17] ابن النديم: الفهرست ص82.

[18] طاش كبرى زاده: كشف الظنون 4/ 348.

[19] قسَّم الجاحظ كتاب الحيوان إلى سبعة فصول، يتناول الجزءان الأول والثاني المناظرة بين الديك والكلب، مدعمًا رأي كل منهما بالآيات القرآنية أو الأحاديث النّبَوية أو الحكايات والحكم، ويتناول في الفصلين الثالث والرابع الحمام وأنواعه وطبائعه، والذباب والغربان والجعلان والخنافس والخفاش والنمل والقرود والخنازير والثيران.

وفي الخامس والسادس يواصل البحث عن الثيران، ثم ينتقل إلى أجناس البهائم والطير الأليف، ويعقد مقارنة بين الإنسان والحيوان، ثم يتكلم عن الضب والهدهد والتمساح والأرنب، وفي الفصل السابع يتحدث عن الزرافة والفيل وذوات الأظلاف. تناول «الجاحظ» في ثنايا كتاب الحيوان سلوك الحيوان والطير والحشرات.

وفي سياق ذكره لطبائع الحيوانات يذكر ملاحظاته عن حاسة الشم الشديدة لدى بعض الحيوانات، والتعرق وتأثير المحيط على الحيوان، ويعطي أحيانًا بعض الملاحظات الفسيولوجية للمظاهر الخارجية للحيوانات، كذوات الشعر وذوات الوبر وذوات الصوف وذوات الريش، وفي الكتاب معلومات غنية تتصل بتزاوج الحيوانات وتناسلها وعلاقاتها بأولادها.