لغة اليونانيين أفضل اللغات، لأن سائر اللغات تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع، هكذا يرى الفيلسوف والطبيب اليوناني جالينوس لغته الأم، وهكذا يرى العربي لغته الأم، ويرى بنفس النظرة الألماني لغته دون سائر اللغات. فتلك النظرة تسكن قلب كل فرد تجاه لغته الأصليّة، ما جعل اللغات تنتقل من مجرد رموز للتواصل ووعاء للثقافة إلى مُقدس من المُقدسات.

ولأننا هنا بصدد الحديث عن اللغة العربية دون غيرها، فقد أصبحت العربية مقدسةً في نظر متحدثيها بسبب ما أضفاه الإسلام عليها، لأن العربية باتت شعارًا للمسلمين واللغة التي أنزل بها الله القرآن الذي يحمل بين طيّاته رسائل الله إلى البشر منذ لحظة نزول الوحي إلى لحظة نهاية الحياة. حتى الدكتور عبد السلام المسدي في كتابه «الهوية العربية والأمن القومي» يقول إن الرسالة المحمدية قد جعلت العربية تتوطن في نفوس أهلها، فدخلت اللغة العربية بذلك عالم المُقدس من أوسع أبوابه.

إذن اللغة العربية لغة مقدسة، لكنّها ليست مقدسة في الوقت ذاته، لا تناقض هنا، الأمر كله يدور حول كيف تفهم كلمة مقدسة. فالظن بأن اللغة العربية مقدسة كما أن الكعبة مقدسة، هو الخطأ. لأنه بتلك الطريقة ننصرف عن اللغة ونقول كما قال عبد المطلب لجيش أبرهة الحبشي، إن للبيت ربًا يحميه، فللغة إذن ربٌ يحميها، فلا نبالي بالتحديات التي تواجه اللغة العربية ولا بالتطورات المتلاحقة التي يفرضها عليها الزمن والحضارة.

ويوافق ابن حزم الأندلسي على أن اللغة العربية ليست مقدسةً فيقول قد يتوهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له، لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل أو اختصاص، ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»، وقال تعالى «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»، فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك.

اللغة العربية ليست إسلامية

 

والقدسية للنص المُقدس كالآية من القرآن أو الإنجيل، لكن لا قدسية للغة التي كُتب بها النص. ولو كانت القدسية للغة في ذاتها، لاستطاع مشركو مكة أن يأتوا بآيات تقارب القرآن وتجاريه بلاغةً ومجازًا. إذن، نحترم اللغة العربية، لكن لا يمكن اعتبارها لغة أهل الجنة أو لغة الله، ويجب أن يكون احترامها، الذي يمكن أن نطلق عليه تقديسًا تجاوزًا، دافعًا لنساعدها على الخلود بالتطور، لا أن ندفعها نحو الاندثار بالجمود.

والاستدلال على أن العربية لن تندثر بقول القرآن «إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون»، فيمكن القول بأن الله قد تعهد بحفظ الذكر لا حفظ لغته. فمن الممكن أن يبقى القرآن الكريم وشرائعه لكن تنقرض اللغة العربية، ففي حالة قريبة كحالة جمهورية إيران الإسلامية، يبقى الإسلام ويبقى الذِكر لكن اختفت اللغة العربية عن الساحة وليست هي اللغة الرسمية للبلاد. كذلك الأحوال في إسبانيا، التي كانت جزءًا من الأندلس أعظم حاضرات العرب والمسلمين والموطن الذي تطورت فيه اللغة العربية تطورًا هائلًا، فقد تراجعت العربية لكن ظلّ الإسلام والذِكر.

إذن، فمن المنطقي أن نفصل بين اللغة العربية من جهة والإسلام والقرآن الكريم من جهة أخرى. فإذا اقتنعنا أنها لغة كباقي اللغات، فما المانع أن تكون العربية ضمن 3000 لغة حيّة تتوقع منظمة اليونسكو انقراضها في نهاية القرن الحالي. كما أظهرت تقارير اليونسكو أن هناك لغة تنقرض كل أسبوعين، يعني انقراض 25 لغة حيّة سنويًا. وذلك بسبب سرعة التواصل العالمي، والحاجة لاستخدام لغات عالمية يتشاركها أكبر عدد ممكن من البشر.

ورغم ضخامة عدد المتحدثين بالعربية فإنها كلغة فيها العديد من العوامل التي تؤهلها للانقراض. ديفيد كريستال، لسانيّ بريطاني، ألف كتابًا مرجعيًا في علوم اللغة عنوانه، موت اللغة. في ذلك الكتاب يضع كريستال عدة أسباب أو عوامل يمكن أن تؤدي لموت أي لغة. أول تلك العوامل انتشار لغة القوي في بلد الضعيف، وهو ما يوافق مقالة ابن خلدون في المُقدمة بأن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده، وإن الأمّة إذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء.

يموت الجسد فيصمت اللسان

ثاني العوامل التي وضعها كريستال هي الازدواجية اللغوية، الازدواجية تعني وجود مستويين مختلفين لنفس اللغة. المستوى الأول، هو اللغة الفصيحة التي يستخدمها الأدباء وتُستخدم في المناسبات الرسمية وفي التعليم، أما المستوى الثاني، فهو اللغة، اللهجة، العامية التي تستخدم في الحياة اليومية.

لكن الازدواجية اللغوية موجودة في كافة اللغات الكبرى، فالإنجليزية في بريطانيا فيها تنوع بين لهجات مختلفة. لكن لا يُتوقع أن تحل اللهجات الشعبية محل اللغات الرسمية الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، بينما يُتوقع أن تحل اللهجة المصرية والمغربية والسورية محل اللغة العربية الفصيحة وتصبح كل لهجة منهم لغةً مستقلة بذاتها.

الفارق بين الازدواجية في اللغة العربية واللغات الأجنبية هو اختلاف كميّ بالأساس، فالدول الغربية قد فرضت لغتها الرسمية في الإعلام والتعليم حتى بات الفارق بين الإنجليزية الفصيحة والإنجليزية العامية هو فارق ضئيل ويسهل فهمه. أما في حالة العربية فالعامية تملأ الإعلام والتعليم، فتصبح لغة الكتابة لغة فصيحة يعزف عنها القارئ والمُتعلم، ويبحث عن كتاب مكتوب باللغة العامية لأنها أقرب إليه، فتصبح العامية شارحةً للفصحى، كمرحلة أولى، ثم نتجاوز الكتابة بالفصحى للكتابة بالعامية مباشرة، والعاميّة العربية شديدة الاختلاف بين الدول العربية.

أما العامل الثالث، فهو الثنائية اللغوية، ويعني وجود لغتين في البلد الواحد، لغة قومية يحتقرها أهلها ويتعمدون تهميشها، ولغة أخرى أجنبية وافدة على البلد تلقى إجلالًا ولها هيمنة دولية وسلطة ثقافية.

وبعيدًا عن عوامل كريستال، أو الصراع حول خلود اللغة العربية، أليس من المنطقي أن الروح إذا فارقت الجسد أن تسكن الجوارح ويصمت اللسان، فلا أظن أن البشرية قد رأت ميتًا يستطيع تحريك لسانه، فإذا مات الجسد الذي يحوي العربية، وهجرها أهلها، وعزف غير أهلها عن تعلّمها، ولم يعد في الحضارة إنتاج أصيل بالعربية ينتشر للعالمية، فمن المؤكد أن العالم لن يعود بحاجة إلى العربية، ولن يحتاج أهلها إلا للهجة محلية يتواصلون بها مع بعضهم، ولغة أجنبية عالمية يتواصلون بها مع أبناء الدول الأخرى، الأجنبية والعربية.

الألمانية أيضًا صعبة

اللغة العربية في وضعها الحالي هى لغة مُحنطّة، لا تجاري العصر، وإحاطتها بالقدسية التي تصل إلى درجة التكفير الضمني لمن يحاول السخرية منها أو الحديث عن تشذيبها، هو العامل الأساس في وضعها الراهن، وفي مستقبلها المظلم.

الانجرار إلى معركة الفصحى والعامية أمر مرعب، والدخول كذلك في صراع تعريب العلوم وصعوباته أمر محفوف بالمخاطر، لذا نفر من الساحتين. وربما يبدو من البديهي أنه من الواجب تطويع اللغة لتناسب التقنية الحديثة، بدلًا من محاولات إخضاع التقنيّات الحديثة لسلطان اللغة. لكن على كل حال فإن الحديث هنا بعيد عن صراعات أهل العربية مع بعضهم، بل الحديث عن صراع مختفٍ يعاني فيه كل طالب أجنبي يريد أن يتعلم العربية.

وصعوبة تعلم اللغة العربية ليست سرًا، ولا محاولات مسمومة ينادي بها كارهو العربية، لأن الأصل أنه لا يوجد أحد يكره لغةً لذاتها لذا يمكننا القول، إنه لا وجود لكارهي اللغة العربية ابتداءً، كما أن صعوبة العربية يعترف بها كل طالب أعجمي أراد دراستها لأي غرض. تمامًا كما يتفق جُل العرب على أن اللغة الألمانية لغة شديدة الصعوبة ومليئة بالتعقيدات.

قد يبدو الكلام يهدم نفسه، الألمانية صعبة، والعربية صعبة، فلماذا الحديث عن تبسيط العربية لا عن الألمانية؟ لكن إذا عدنا لنقطة اللغات القوية بدولها وإنتاجها، سنجد أن العربيّ حين يتعلم الألمانية فإنه يتعلمها بمنطق الخلاص، فهي بالنسبة له بوابة لعالم آخر مليء بالفرص، وتأشيرة هجرة مضمونة. أمّا العربيّة، فلماذا يُكابد الأجنبي بتعلمها، إذا كان يريد القرآن فيمكنه قراءته مترجمًا، مع حفظ آياته سماعيًا، وإن كان يريد العلوم الأخرى فبرامج الترجمة تكفيه، وإذا كان يبغي العيش في دولة عربية، فأهل الدولة العربية أنفسهم يتفاخرون بحديثهم بلغات أخرى غير العربية.

المهم أن نفهم المعنى

 

لذا فحديثنا هنا عن خلق لغة عربية وسيطة وبسيطة، لا ليستبدل بها العربي لغته الأم، بل ليفهم بها الأجنبي بعض العربية سريعًا، ويلم إلمامًا مجملًا باللغة ما يجعله يستطيع التعبير عما يدور في خاطره بكلمات تنقل المعنى وإن لم توافق رسم العربية المعروف أو قواعدها النحوية والإملائية المضبوطة.

فمثلًا يمكن أن نقترض من اللغات الأجنبية فكرة الحرف ثابت الشكل مهما تغير موقعه من الكلمة، ونقترض من العربية رسمها للحروف، ونخلق رسمًا عربيًا لحروف عربية لا يتغير شكلها حسب موقعها من الكلمة، وكمحاولة أولى هناك تصميمات اللبناني كميل حوا في هذا السياق.

قد تبدو الحروف معقدة إذا فكرت أنك سوف تكتب كل حرف منفصلًا بيدك وأنك سوف تستغرق وقتًا أطول في صياغة ما تريد. لكن من يكتب الآن بخط يده؟ الطباعة الآن بكاملها طباعة رقمية، نكتب على الكمبيوتر أو التليفون المحمول، لا الحاسوب أو الهاتف الجوال لأنه في اللغة الجديدة تكون الكلمات التي شاعت واعتادها الناس أفضل من الكلمات التي تنحتها مجامع اللغة. وفي حالة كانت الحروف ثابتة الشكل فيسهل تضمينها في برامج الكتابة كاختيار لنوع الخط المطلوب، فتكتب أنت على الكيبورد، لا لوحة المفاتيح، كما تكتب في العادي ويتولى الحاسوب باقي الأمر.

في اللغة الجديدة ستفقد العربية عنصرًا من أبرز العناصر التي يفتخر بها أبناؤها، أن لكل شيء أكثر من ألف كلمة تدل عليه، فللحب مراتب ودرجات، ولكلمة صديق عشرون مترادفًا، وهكذا. ستكون العربية الجديدة فيها لكل شيء وصف واحد، حتى يستطيع المُتعلم أن يحفظ الكلمات، ما يعني تقليص عدد كلمات اللغة اللا نهائي إلى بضعة آلاف، فصورة الأسد تدل على أسد، ولا وجود لأسامة وغضنفر..إلخ.

في تركيب الجملة الاسمية والفعلية سوف تتخلى العربية عن زينتها، وعن سجالات التقديم والتأخير، وعن خداع التشكيل في ضرب زيدٌ خالدًا وضرب خالدًا زيدُ، سوف تُبنى الجملة بما يُمكن الأجنبي أن يقول ما يريد ببساطة زيد يضرب عمر، أو عمر يضرب زيدًا. على أن يبقى شكل الفعل فيها ثابتًا على صيغة المضارع، وإذا أراد القائل وصف الماضي وضع كلمة كان في الجملة، عمر كان يضرب زيدًا، وإذا أراد الحديث عن المستقبل وضع سوف فحسب، لتكون الجملة عمر سوف يضرب زيدًا.

وبالطبع سوف تتخلى اللغة عن جموعها الكثيرة، المؤنث السالم والمذكر السالم والتكسير، لنكتفي على سبيل المثال بإضافة العدد فحسب أمام الكلمة المفردة، أريد 3 رغيف خبز، عندي 2 ولد، ادفع 6 جنيه. والنفي في اللغة يكون بإضافة لا فقط، لا كان يأكل.

بالتأكيد كل ما سبق يبدو، أو هو كذلك في الحقيقة، هشًا وكلامًا ينقصه العقل والمنطق والمعلومات ولا يرقى لمستوى الرد أو تفنيد أخطائه، لكنها الدعوة القديمة المُتجددة للتخلص من أسطورة قدسية اللغة العربية، والاعتقاد بأنها لغة الله المختارة، وأنها لن تندثر بفعل حماية خارقة بلا أسباب تعينها على الصمود وتساعد من يرغب في تعلّمها على فهم ما كُتب بها أولًا، ثم الانتقال لمرحلة إتقانها إذا أراد، والانتقال من مرحلة الافتخار بصعوبة اللغة العربية على ألسنة غير أهلها إلى إدراك أن تلك الصعوبة تضر باللغة لا تفيدها.