ما زلت أذكر إسراعي في ظلمة أكسفورد الصباحية عام 1956 للحصول على مقعد في إحدى محاضرات آ.ج. تايلور مؤرخ الدبلوماسية البريطاني، التي حاج فيها بأن الحرب العالمية الأولى بدأت بسبب جداول أوقات سكك الحديد. وتساءلت يومها: جداول أوقات سكك الحديد؟ وماذا عن الجنرالات ورجال الدولة؟ هل كانوا يقفون عاجزين على رصيف المحطة؟
المؤرخ الفلسطيني طريف الخالدي

ربما ذكر تايلور ذلك استهزاء أكثر منه تفسيرًا، ولكنه يحيل إلى أهمية دراسة التاريخ من وجهة نظر أخرى غير رؤية الأكابر والملوك ورجال السياسة [1].

فغالبًا ما يستند التاريخ المكتوب إلى الوثائق والمستندات الرسمية والمذكرات السياسية التي أدت إلى تهميش الترابط بين السياسي والثقافي، وهمشت التاريخ الاجتماعي والواقع المعيشي [2]. هذا المدخل لقراءة التاريخ من أسفل من خلال رؤية المهمشين سياسيًا هو ما يندرج تحت ما يُعرف اليوم بدراسات التابع التي ظهرت في الهند سنة 1982. ويتوافق ورؤية مدرسة الحوليات الفرنسية للتاريخ باعتباره علم البشر في الزمن، فالوقائع التي يدرسها المؤرخ هي وقائع معيشة لا وقائع علمية مجردة.

وتحمل المذكرات والسير واليوميات هذه الصبغة البشرية، وتعبر بقوة عن الوقائع المعيشية وما تختزنه من تجارب مشبعة بالمعنى الإنساني [3]. كما توضح التقاطع والاتصال بين الماضي والحاضر. فالتاريخ ليس إحياء للماضي، وإنما كونه تاريخًا للبشر في الزمن فهو دائم الحضور. ويمكن من خلال السير والمذكرات والمراسلات استعادة الوظيفة الاجتماعية للماضي؛ أي أن يطرح الحاضر أسئلته على الماضي فيتحول من التاريخ – الحدث إلى التاريخ – المسألة [4].


السير والتراجم في الإرث العربي الإسلامي

تتغلغل جذور كتابة السير الذاتية العربية في كتابة التاريخ، وفي علم الرجال وجمع التراجم في كتب الطبقات. فقد كتب جلال الدين السيوطي في مقدمة سيرته الذاتية: «ما زال العلماء قديمًا وحديًثا يكتبون لأنفسهم تراجم»، وأنه يتخذ نهجهم ويقتدي بهم. فقد كانت فكرة كتابة ترجمة للنفس مستقرة ومعروفة منذ أواخر القرن الـحادي عشر في عالمنا العربي.

وثمة دوافع عدة لكتابة السير الذاتية أبرزها ما عنون به السيوطي نفسه سيرته الذاتية «التحدث بنعمة الله» عملًا بالآية الكريمة: «وأما بنعمة ربك فحدث»، وسيرة الشعراني «لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق» التي تعد أطول سيرة ذاتية عربية وصلت إلينا في الحقبة السابقة على العصر الحديث، ومنها ما جاء توصيفًا لرحلة البحث عن الحقيقة كما فعل الغزالي وابن الهيثم، أو إرشادًا للمريدين في سلك طرق التصوف كما فعل بعض المتصوفة.ولكن كانت كتابة التاريخ هي الغاية الأهم في كتابة السير والتراجم قديمًا.

لا يمكن الغفلة عن أن التأريخ من خلال السير الذاتية يحمل عددًا من المثالب منها أنها تعتمد على الذاكرة التي تعد بدورها انتقائية، ضبابية وعرضة للخطأ. ولكن ذلك لا يتنافى مع كون السير الذاتية مادة خصبة للتأريخ الاجتماعي، وقد تكشف حقائق أخرى تتناقض والتاريخ الرسمي. ويذكر الباحث الاجتماعي الفلسطيني سليم تماري أن دارسي تاريخ سوريا الحديث قد حققوا تقدمًا ملموسًا في إعادة تركيب التاريخ السياسي للمدينة وبنيتها الاجتماعية باعتمادهم على السير الذاتية لمؤلفي القرن الثامن عشر.


القدس في مذكرات واصف جوهرية

ونجد أن سليم تماري نفسه قد وظف السير الذاتية لاستجلاء حياة الناس والتغييرات التي طرأت على فلسطين خلال فترة ما قبل الاحتلال. فيعزو تماري اهتمامه بسير ومدونات أشخاص مغمورين لأنها تسمح بالكشف عن جانب من النسيج الاجتماعي والثقافي العربي، وهو الجزء المغيب في التاريخ السياسي الرسمي، ويؤكد على أن العودة إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس وقتذاك، لا يمكن إلا من خلال تلك السير.

وفي دراسته «مدينة الأوباش: القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية» تناول مذكرات الموسيقار واصف جوهرية الذي عاش في الفترة 1887 حتى 1967 أي بين المرحلة العثمانية والمرحلة الانتدابية في حياة القدس، وشاهد كيف بدأت مظاهر الحداثة تزحف عليها.وأشار تماري إلى أن القدس التي سمّاها إدوارد سعيد مدينة الموت، إذ وجدها مليئة بالغمّ والنكد، كان فيها جانب شديد الحيوية يتمثل في التيّارات الموسيقية والثقافية، وغيرها من الجوانب التي لم تعد الناس تعرفها بعد الاحتلال.

دحض تماري في هذه الدراسة وجهة النظر التي تَدّعي أن حداثة فلسطين بدأت مع الاستعمار البريطاني، وأن الفترة التي سبقت الاحتلال سادها طغيان واستبداد وطائفية، حيث تبين يوميات واصف جوهرية صورة الانخراط الإيجابي في شئون الجيرة، فلم يكن هناك تطابق واضح بين الأحياء والديانة، وساد الاختلاط في السكن وفي المشاركة في الأعياد الدينية، كما أن الحدود الطائفية قد تزعزعت لنهوض الحركة الوطنية في فلسطين، في سياق الحركة الدستورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر.[5]

وقد حاول تماري الاقتراب من الوضع الاجتماعي بين الطوائف المختلفة، وبصورة أكثر عمقًا خاصة وضع اليهود في القدس إبان إصدار وعد بلفور، مستعينًا أيضًا بالسيرة الذاتية كمسار رئيسي للتأريخ عنده، فأعاد قراءة سيرة إسحق الشامي أحد أهم الكتاب الفلسطينيين آنذاك الذي عاش خلال الفترة من 1888 – 1949، باعتباره نموذجًا للعربي اليهودي الذي يموضع نفسه داخل الثقافة العربية، فقاوم الصهيونية التي منعت اليهود العرب من النطق بالعربية أو التماهي القومي مع أبناء جلدتهم، ولفظهم بعض العرب كذلك، فكانوا في معاناة حقيقة ومعضلة مركبة خاصة لدى البعض منهم الذين مثلت الهوية الصهيونية لهم إغواء الحداثة، فرأوا فيها الثقافة الأوروبية والفكر الاشتراكي [6]

ويفرّق تماري بين المذاكرات واليوميات موضحًا أن اليوميات يكتبها الناس تحت وطأة الإحساس اليومي، ولا مجال فيها للحنين. وعكست دراسته «عام الجراد: مذكرات جندي مقدسي في الحرب العظمى» حياة جنديين في الجيش العثماني النظامي؛ الملازم ثاني محمد الفصيح الذي ولد ونشأ في سنجق الإسكندرون، والعسكري إحسان الترجمان الذي ولد ومات في البلدة القديمة بالقدس، لنرى من خلال يومياتهما مظاهر التحول الكبير الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى في مصير وهوية رعايا الدولة العثمانية. فرغم تناقض موقفي الجنديين، سواء الأول الذي انغمس في سياسات الجمهورية التركية الأتاتوركية، بينما انحاز الثاني إلى القومية العربية، إلا أن كليهما دوّنا بدقة وأمانة يوميات الحرب كما شاهداها، وكانت وطأة الحرب عليهما تجعلهما يتوقان إلى حياة عادية بعيدًا عن بؤس الحرب.

يؤكد تماري أن التفاصيل البائسة للحرب كما جاءت في هذه اليوميات تمكننا من مشاهدة طبيعة الحياة في زمن الحرب، لنفهم من خلالها كيف بدأ الناس في التفكير بمستقبلهم، وكيف صاروا يفكرون في العلاقات الاجتماعية بطريقة مختلفة. كما عكست اليوميات تمايز التركيب الإثني والتغيير في الوعي والانتماء الوطني في أوساط جنود الجيش العثماني وضباطه.

يتعامل تماري مع السير الذاتية واليوميات باعتبارهما أحجار فسيفساء يجمع تفاصيلها ليرسم لوحة واحدة تكمل بعضها البعض، فتحمل أعماله منهجية التعامل مع السير الذاتية كمصادر للتأريخ المكتوب، ومحاولة الإجابة عن بعض إشكاليات الحاضر بمساءلة الماضي وكشف ما قد يحجبه التاريخ الرسمي، ولكن يبقى التأكيد على أن قيمة المعرفة التاريخية التي تتضمنها المذكرات – كما ذكر وجيه كوثراني – تظل رهنًا بمدى قدرة المؤرخ على النقد والاستقراء والاستنتاج.


[1] طريف الخالدي، ملاحظات تمهيدية في عصام نصار وسليم تماري (محرران)، دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام: قراءات في السير والسير الذاتية، (رام الله، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007 ) ص9.[2] عصام نصار، فلسطين وبلاد الشام: السيرة والتاريخ الاجتماعي في، عصام نصار وسليم تماري، مرجع سابق، ص5.[3] وجيه الكوثراني، إشكالات الزمن التاريخي في قراءة المذكرات: مذكرات جمال الدين القاسمي ومشاهداته، في عصام نصار وسليم تماري، مرجع سابق، ص29.[4] المرجع السابق، ص31.[5] ساري حنفي، سليم تماري: الجبـل ضـد البحـر: دراسـات فـي إشكاليـات الحداثـة الفلسطينيـة، (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2005). ص252.[6] ساري حنفي، مرجع سابق.