تتعرض دبلوماسية الطاقة التي تنتهجها إيران لاختبارات صعبة نتيجة ارتفاع سقف طموحاتها كثيرًا عن إمكانياتها الفعلية، ففي حين تحاول استخدام غناها بمصادر الطاقة كورقة رابحة في السياسة الخارجية، نجد أن الواقع يفرض نفسه ليحد من فعالية هذه الورقة وإمكانية استخدامها.

في حين توعدت طهران الأوروبيين بشتاء قاسٍ جراء نقص إمدادات الغاز بسبب العقوبات المفروضة عليها هي وروسيا، والتي تقيد صادرات دولتين تملكان أكبر احتياطات غاز في العالم، فإن قسوة الشتاء ظهرت بحق لدى إيران وحلفائها.

ومع تلكؤ طهران في مفاوضات فيينا انتظارًا لفصل الشتاء الذي يجعل الغرب أحوج ما يكون إلى الغاز والنفط الإيراني، فإن هذا الشتاء شهد قطع طهران الغاز عن أقرب حلفائها، كالعراق الذي يستورد منها 40 مليون متر مكعب من الغاز يوميًّا، بحجة إجراء صيانة للشبكة.

وتشهد العلاقة بين البلدين توترات كل عام بسبب هذا الأمر، مما دعا بغداد للتفاوض مع المملكة العربية السعودية وتركيا والأردن لحل أزمة الكهرباء؛ فبسبب تكرار انقطاعات الغاز الإيراني عن محطاته الكهربائية شهد العراق أزمات عديدة، من أشهرها انتفاضة تشرين عام 2019، التي أطاحت برئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وكان قطع الكهرباء من أبرز أسبابها، وأفرزت تيارًا سياسيًّا يناهض النفوذ الإيراني في بلاده.

وعلى مدى سنوات ظلت طهران تتحكم في إمدادات الغاز الطبيعي للعراق، وتلعب بهذه الورقة وتوظفها لخدمة ملفات حساسة في السياسة الخارجية الإيرانية؛ فعلى سبيل المثال خلال حملة الضغوط القصوى التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، استطاعت طهران انتزاع إعفاء من العقوبات يتيح لها مواصلة تصدير الغاز للعراق منعًا لانهيار شبكة الكهرباء به، واستخدمت طهران نفوذها لإدامة اعتماده عليها، واستخدمت أراضيه لتهريب النفط.

قطع الغاز عن سوريا ووعود متكررة للبنان

وفي سوريا فاجأت طهران نظام بشار الأسد بقطع الغاز عنه وسط أزمته الاقتصادية الحادة، وكذلك اشترطت عليه مؤخرًا أن يدفع ثمن الغاز مقدمًا، وأيضًا ضاعفت الأسعار بعد أن كانت تصدر شحنات مستمرة بتخفيضات كبيرة دعمًا لنظامه على مدى سنوات.

وأُجبر النظام السوري على غلق مؤسسات حكومية نتيجة شح الوقود، إذ أتت الخطوة الإيرانية في وقت تعاني فيه دمشق أصلًا من أزمة وقود مع زيادة الاستهلاك وقطع إمدادات النفط الضئيلة وسط الحملة العسكرية التي أطلقتها تركيا مؤخرًا في الشمال السوري.

ويكرر النظام الإيراني اليوم نفس ما وقع إبان الحرب العراقية-الإيرانية حين منع النفط فجأة عن دمشق في عهد حافظ الأسد وطالبها بدفع ما عليها أولًا، قبل أن يتراجع خوفًا من انفراط عقد تحالفهما وعودة سوريا إلى الصف العربي.

وتحدثت تقارير عن ضغوط إيرانية على نظام الأسد للحصول على تنازلات جديدة منه في ظل تقاربه مع أنقرة.

وبالتزامن مع قطع الغاز عن دمشق، كررت طهران وعودها بحل أزمة الكهرباء في بيروت، والتقى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بزعيم حزب الله، حسن نصر الله، وأعاد الأول التأكيد على استعداد بلاده لتوفير الوقود للبنان، وأنها ستبقى الصديق الوفي له في كل الظروف.

 وكان السفير الإيراني في بيروت، مجتبى أماني، قال في سبتمبر /أيلول 2022 إن بلاده مستعدة لمد لبنان بكل ما يتعلق بقطاع الطاقة بشكل مجاني هدية للشعب اللبناني، بينما نفت الحكومة الإيرانية رسميًّا في ديسمبر/كانون الأول الماضي نيتها منح لبنان نفطًا مجانيًّا.

وقدمت طهران العام قبل الماضي شحنات وقود إلى حزب الله، لكن الحكومة اللبنانية أعربت آنذاك عن قلقها من عواقب انتهاك العقوبات الأمريكية، ووُصفت هذه الخطوة بالمناورة للالتفاف على العقوبات.

أزمة عملاق النفط

تواجه إيران نفسها مشكلة نقص الغاز الطبيعي، على الرغم من امتلاكها ثاني أكبر احتياطي بما يُقدر بـ 17٪ من مخزون الغاز على كوكب الأرض، وتنتج قرابة مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، معظمه يذهب للاستهلاك المحلي، لكن مع تزايد الاستهلاك في الشتاء انقطعت الإمدادات عن المواطنين في ذروة احتياجهم لها.

ووجهت الصحف المقربة من الحكومة اتهامات للمواطنين بالإفراط في الاستهلاك، وحملتهم المسئولية عن الأزمة بالتشارك مع حكومة رئيس الوزراء السابق، حسن روحاني، أبرز رموز التيار الإصلاحي، في محاولة لتبرئة الحكومة الحالية المقربة من المرشد.

وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2022، أفاد تقرير للجنة الطاقة في البرلمان الإيراني بأن الإهمال المستمر لنقص الغاز يقود إلى ضياع ما لا يقل عن 70% من إنتاج الكهرباء، وأشار التقرير إلى توقف صناعات ثقيلة كالصلب والألومنيوم وصناعات أخرى، وتوقف خدمات عديدة وخروج مخابز وشبكات تنقية مياه من الخدمة، وحرمان الغالبية من التدفئة بسبب أزمة الطاقة.

وبحسب خبراء الطاقة فإن هناك نحو 18 مليار متر مكعب من الغاز المحترق سنويًّا، تُحرق وتُهدر في مرحلة الإنتاج، أي ما يُعادل ثلث استهلاك تركيا، أو ما قيمته أكثر من 15 مليار دولار، كما أن قرابة 9 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المنتج تُفقد في مرحلة النقل والتوزيع بسبب عدم جودة أساليب النقل، كما أن 30 إلى 35 مليار متر مكعب من الغاز المنتج يُهدر خلال تحويله إلى كهرباء.

السر في العقوبات

من جهته يؤكد الدكتور أحمد قنديل، رئيس وحدة الدراسات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن العقوبات المفروضة على إيران أدت إلى عرقلة الاستثمار في مجال الطاقة، فشركات الطاقة الكبرى تتردد في الاستثمار في إيران نتيجة المخاطرة السياسية العالية، فالمشكلة لها علاقة بالتكنولوجيا والاستثمارات الأجنبية والعقوبات الاقتصادية.

ويضيف في تصريحاته لـ «إضاءات» أنه لولا العقوبات لربما استطاعت إيران تطوير حقل الغاز الطبيعي المشترك مع قطر كما فعل القطريون في الجزء الخاص بهم، لكن الاتفاق الذي أبرمته طهران مع شركة غاز بروم الروسية مؤخرًا بقيمة 40 مليار دولار يظل مشكوكًا في تنفيذه في ظل العقوبات المفروضة على موسكو حاليًّا، لذلك هناك علامات استفهام كبيرة أمام هذا الأمر.

وتابع قنديل أن مسألة الوعود الإيرانية بمد لبنان بالغاز في ظل العجز الداخلي المتزايد يعد نوعًا من البروباجاندا السياسية؛ فطهران تحاول دعم جانب حزب الله، وأن تظهر كشريك في حل أزمة الطاقة في لبنان، لكن الاحتياجات الداخلية لها تمنعها من اتخاذ هذه الخطوة، وبالذات في ظل الأزمة الاقتصادية التي تجعل من المستبعد أن يكون لبنان قادرًا على تسديد ثمن الغاز.

يذكر أن معظم إنتاج غاز إيران يأتي من المناطق الجنوبية، ومعظم الاستهلاك في الشمال لذا تعاني المحافظات الشمالية من الأزمة بصورة كبيرة، حتى إن إيران تعتمد على استيراد الغاز من جارتها الشمالية تركمانستان التي سبق أن توقفت عن ضخ الغاز مرارًا بسبب عدم قدرة طهران على تسديد مستحقاته.

وفي 2021، وقعت إيران اتفاقًا لنقل الغاز عبر أراضيها من تركمانستان إلى أذربيجان مقابل الحصول على جزء من الغاز لمحافظاتها الشمالية الخمس: كلستان، وسمنان، وخراسان الرضوية والشمالية والجنوبية، ورغم ذلك انقطعت إمدادات الغاز التركماني الشهر الماضي لما قيل إنه مشكلة في شبكات الإمداد.