محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2017/04/20
الكاتب
إرفاند آبراهيميان

يتحدث، في هذا الحوار، إرفاند آبراهيميان – أحد أبرز المؤرخين الإيرانيين في جيله – إلى إسكندر صديقي بروجوردي عن عمله الممتد لفترة خمسين عامًا، وعن الأفكار التي كوّنت الوعي الشعبي والأكاديمي عن الأحداث والمنظمات السياسية والحركات التي شكّلت إيران وسياستها في القرن العشرين.

ولا زالت كتابات آبراهيميان تحدد طابع النقاشات التي تدور في إيران أو في الغرب، سواء كانت كتاباته عن حزب توده الشيوعي أو الحركة العمالية الإيرانية أو انقلاب 1953 الذي نسقته وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA مع جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، أو عن الخميني ومسألة الشعبوية.

ولمساهمة آبراهيميان في الكتابة التاريخية عن إيران الحديثة أهمية مماثلة، والتي قدم فيها تفسيرًا جديدًا لمناهج المؤرخين الماركسيين كـ «كريستوفر هيل وإريك هوبزباوم وإدوارد تومبسون وآخرين». حيث تعيد أعمال آبراهيميان تفكيك معنى الطبقة، والصراع، والتغيير الاجتماعي في بلد عادة ما كان يتم تفسير تاريخه إما بنزعة استشراقية أو بأخرى حنينية أصلانية. وتتصدر كتبه المبيعات في إيران، وتحظى بتناول ونقاش واسعين. يعمل آبراهيميان حاليًا على كتابة دراسة عن تاريخ ثورة 1979م.


إسكندر صديقي بروجوردي: هل لك أن تحدثنا باختصار عن نشأتك وما الذي قادك إلى دراسة التاريخ الإيراني الحديث، ­من أجل القراء الذين لم يطلعوا على أعمالك؟إرفاند آبراهيميان:

لقد ولدتُ في طهران؛ ودرست السنوات الثلاث الأولى في مدرسة ميهر القريبة، ثم أُرسلت للالتحاق بالمدرسة في بريطانيا. كانت هذه الأيام هي الفترة العاصفة وقت تأميم النفط، ولذلك كانت عائلتي كالعديدين منهمكة في السياسة والاستماع لأخبار الراديو كل مساء، كما كنت أفعل أنا أيضًا خلال إجازات الصيف في إيران. وفي السنة الأخيرة من دراستي عرض عليّ أستاذي كتابات ريتشارد تاوني وكريستوفر هيل. لم تكن لدي فكرة مطلقًا عن سياسة الأستاذ، إلا أنه كان ذا ذوق رفيع واضح.

وفي الجامعة، درست التاريخ الأوروبي بشكل رئيسي على يد كيث توماس، أحد تلامذة كريستوفر هيل. ومن خلاله، تعرّفت على مؤرخين مرتبطين بمجلة الماضي والحاضر Past and Present، مثل جورج روديه، وإريك هوبزباوم، ولورنس ستون، وإدوارد تومبسون، وفيكتور كرينان، وبريان ماننج، ورودني هيلتون.

ومع تخرجي أدركت أنني أريد دراسة إيران الحديثة، لكن الجامعات البريطانية في ذلك الوقت لم تكن تعترف بالتاريخ المعاصر باعتباره تخصصًا مسموحًا به. ولذلك تقدّمت للانضمام لأحد أقسام العلوم السياسية في أمريكا الشمالية، ولم ألحظ ساعتها أن هذه الأقسام كانت مهتمةً حصرًا بكيفية تحديث المجتمعات، وجعل العالم آمنًا لتحقيق المصالح الأمريكية. ولمّا لم يكن هذان السؤالان يثيران اهتمامي، تبعت شغفي باستكشاف تاريخ إيران الحديثة بمفردي، من خلال عدسات الماضي والحاضر Past and Present.


إسكندر صديقي بروجوردي:

ربما كان كتابك الأشهر «إيران بين ثورتين» (1982) مؤطرًا على الأقل جزئيًا بالمنهج التاريخي لإدوارد تومبسون والحجة القائلة بأن «الطبقة ليست شيئًا، بل حدثًا»، بينما استخدم مؤرخون إيرانيون آخرون مثل إحسان طباري، وبيجان جازاني، الماديةَ التاريخية لتفسير طبيعة وتفاعلات التطور الاقتصادي والسياسي لإيران. ما الذي قدّمه تومبسون في رأيك، ولم تستطع الاقترابات الماركسية التقليدية الأخرى تقديمه؟

إرفاند آبراهيميان:

لقد كان تومبسون شخصية بارزة شامخة لعدد من الأسباب، ليس فقط بالنسبة لمؤرخي إيران، بل لجميع المؤرخين الماركسيين حول العالم. فأولًا، لقد نأى بنفسه عن تطبيق نظرية كاملة واسعة على فترات تاريخية طويلة، وكان مهتمًا أكثر بالتاريخ الإمبريقي. وثانيًا، أدرك أهمية الثقافة والوعي في تشكيل الطبقات، مع الإبقاء على إعطاء العوامل الأخرى كالاقتصاد وزنًا تستحقه.

ومع إدراكه هذا، كان واعيًا أيضًا بأن الثقافة نفسها، بما فيها الدين، غير ثابتة، وتتطور مع التغيرات الاجتماعية. وثالثًا، وعلى العكس من العديد من المؤرخين الاجتماعيين، رفض إخراج السياسة من التاريخ. ورابعًا، كتب من أجل القارئ العادي، متجنبًا الرطانة السياسية، والهُراء الأكاديمي، وتقعر المثقفين.

باختصار، لقد كان مؤرخًا للمؤرخ، يغمس نفسه في مكان وزمان معينين، ويقرأ كل شيء يتعلق بهذه الفترة، ثم يخرج بعمل رنان مليء بالمعلومات الإمبريقية. لقد كان المثقفون من أمثال إحسان طباري وبيجان جازاني نشطاء سياسيين، وليسوا مؤرخين غمروا أنفسهم في فترة معينة من التاريخ. فلم يكن لديهم الوقت ولا الفرصة –ولا حتى الحافز- لاستقصاء الأعماق اليومية للتاريخ.


إسكندر صديقي بروجوردي:

لقد تأثر بحثك عن الجماهير الإيرانية بجورج روديه، عضو الجمعية التاريخية للحزب الشيوعي البريطاني، وبعمله الإبداعي عن الجماهير في الانتفاضات الرئيسية التي شكلت أوروبا الحديثة. ما هي التصورات الخاطئة التي بادَرْتَ بمواجهتها من خلال تطبيقك لاستبصاراته على ثورتي إيران الدستورية والإسلامية؟

إرفاند آبراهيميان:

قدّم روديه ثلاث مساهمات مهمة. الأولى هي إدراكه للدور المهم الذي لعبته الجماهير في التاريخ الأوروبي. والثانية معارضته لمفهوم جوستاف لوبون عن الجماهير باعتبارهم لا عقلانيين وغوغاء خطرين. والثالثة استطاعته تصوير الوجوه المتنوعة في الجماهير بشكل واضح، أي تكوينهم الاجتماعي. وفوجئت عند القراءة لروديه، والاستماع لمحاضرته في الصيف في نيويورك، بمدى ملاءمة عمله لإيران. فقد لعبت الجماهير، على الحقيقة، دورًا أكثر أهمية في التاريخ الإيراني عما في التاريخ الأوروبي، في الثورة الدستورية أعوام 1906-1909، والحركة العمالية أعوام 1941-1946، وفي حملة تأميم النفط أعوام 1951-1953، وبالطبع في الثورة الإيرانية أعوام 1977-1979.

حاولت اختبار اكتشافاته الثلاثة على الجماهير في إيران؛ دورهم ورشادتهم في مقابل عدم الرشادة، وتكوينهم الاجتماعي. وبوضوح، لم يكن لهذه النظرية أثر كبير في إيران. إذ استمر مثقفو الدولة، وخاصةً المنتفعين من ثورة 1979، في التعظيم من شأن لوبون، ذاهلين تمامًا عن روديه. ويفضلون رؤية الجماهير باعتبارهم غوغاء خطرين، يسهل خداعهم وتحريكهم من أيادٍ خارجية خفية.


إسكندر صديقي بروجوردي:

حملت رسالتك للدكتوراه في جامعة كولومبيا عام 1969 عنوان «الأسس الاجتماعية للسياسة الإيرانية»، وكانت أول دراسة سوسيولوجية وسياسية لحزب الجماهير الإيرانية (حزب توده إيران)، والذي يعتبر أكثر المنظمات السياسية الاشتراكية أهمية في تاريخ إيران. ما الذي دفعك للبحث في توده وما الذي قمت به لتدرك أثره السياسي والثقافي الواسع في المجتمع الإيراني؟

إرفاند آبراهيميان:

لقد كانت دراسة الأسس الاجتماعية لحزب توده طريقًا جيدًا –وربما الطريق الوحيد في ذلك الوقت- لدراسة السياسة الإيرانية من أسفل، والتركيز ليس فقط على النخبة على مستوى الدولة، بل على الناس العاديين الذين حصلوا جميعهم على تعاطف الأجيال التالية لهم، كالميكانيكيين وعمال النفط، والأُجراء والباعة المتجولين، والمدرسين والخياطين وربات البيوت والممرضات وسائقي الحافلات وأصحاب المحلات.

فقد كان هؤلاء الناس العاديون هم من انضموا إلى الحزب والنقابات العمالية، على الرغم من اختلافاتهم في الدين والعرق والتعليم والجنس. ولذلك تدخلوا بقوة في سياسة الدولة، وتم اعتباره تاريخيًا قيّمًا على الطبقة الحاكمة. لقد كان حزب توده فريدًا فيما فعل، ولا زال.

إسكندر صديقي بروجوردي:

لقد كنت مؤرخًا مجتهدًا وناقدًا للدور التدميري الذي لعبته الإمبريالية الأمريكية والبريطانية في إيران في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وهذه هي الحالة في كتابك الأخير، الانقلاب: 1953، ووكالة الاستخبارات الأمريكية CIA وجذور العلاقات الأمريكية الإيرانية الحديثة.

هل يمكنك إخبارنا لماذا فكرت في ضرورة وجود كتاب آخر عن حدث انقلاب 1953 الفاصل، وما الذي رأيته مفقودًا في الكتابات السابقة عن تأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانية AIOC وإسقاط محمد مصدق من قبل الانقلاب الذي نسقته الوكالة مع جهاز الاستخبارات البريطاني؟

إرفاند آبراهيميان:

كما قلت، لقد نُشر العديد من الأعمال عن أزمة تأميم النفط، التي بدأت عام 1951، وانتهت بانقلاب 1953. وبعضها متعاطف مع مصدق. ومع ذلك، تميل الأعمال المتعاطفة نفسها إلى الاستشراق لتفسير الكارثة النهائية. إذ يكررون الرواية القائلة بأن بريطانيا والولايات المتحدة قد قدّمت تسوية مقبولة تتضمن القبول بالتأميم، إلا أن مصدق لم يكن قادرًا على قبولها لعيوب ثقافية وشخصية.

فقد تم تصويره بلا رحمة باعتباره غير راشد وصبياني ومخنث ومتصلب ومُتعب وغريب ومتعصب ولديه رهاب من الأجانب وعاطفي وشرقي وروبسبير وفرانكشتين وديماغوغي تتلبسه عقدة شهادة شيعية.

تفتقد هذه الأعمال النمطية تفصلتين مهمتين، وبالطبع، يكمن الشيطان في التفاصيل. فأولًا، كانت بريطانيا والولايات المتحدة تنوي قبول مبدأ التأميم طالما أنه لم يُطبق في الممارسة الفعلية، وتبقى صناعة النفط بشكل أصيل خارج اليد الإيرانية وتحت السيطرة الصلبة لشركات النفط الغربية. واستعادت الشركات بعد الانقلاب السيطرة الكاملة واقعيًا من خلال اتحاد النفط. وثانيًا، رفضت المملكة المتحدة أي تفكير في تعويض عن القيمة الفعلية لمعدات النفط في 1953م. وبدلًا من ذلك، طلبت مبلغًا فلكيًا تعويضًا عن الأرباح التي كانت ستجنيها حتى نهاية القرن.

وتقنيًا، لم يرفض مصدق أي عرض نهائي. فقد سأل فقط عن كيفية حساب التعويض، عن القيمة الحالية أم الأرباح المستقبلية، ورفضت إدارة آيزنهاور التوضيح. تغفل كل الكتابات التاريخية التقليدية هذه المسألة الثانوية. فقد كان الأمريكيون مهتمين كالبريطانيين بمنع نجاح التأميم. ففي النهاية، إذا نجح هنا فإنه سيكون نموذجًا سيئًا لأماكن أخرى، كالعراق والسعودية والخليج وإندونيسيا وفنزويلا.

فهذه الحقيقة الواضحة، كون الأمريكيين في خطر مثلهم مثل البريطانيين، تم تجاهلها دائمًا في الكتابات التاريخية عن الانقلاب. وبدلًا من ذلك، يفضل الأكاديميون الأمريكيون وضع الانقلاب مباشرة في سياق الحرب الباردة، وليس في سياق صراعات الشمال في مواجهة الجنوب، أو الإمبريالي في مواجهة المناهض للكولونيالية. فقد عملت الحرب الباردة باعتبارها تبريرًا جيدًا لأي فعل فاضح تقريبًا، فقد كان ممكنًا للشخص أن يستخدم الحرب الباردة كي يبرر إلقاء جدة أحدهم أمام الحافلة.


إسكندر صديقي بروجوردي:

لماذا في رأيك برزت في السنوات الأخيرة محاولة لبناء سردية تنقيحية للانقلاب، تعمل على تقليل دور المخابرات الأمريكية والبريطانية، وتضع نصيب الأسد من اللوم على إسقاط مصدق على عوامل داخلية، من ضمنها مصدق نفسه؟

إرفاند آبراهيميان:

لقد نبعت الهجمات على مصدق من اتجاهات متنوعة. كان الملكيون يهجمون لأسباب واضحة، إلا أنهم كانوا -بشكل لا يدعو للاستغراب- يميلون إلى ربط الانقلاب ليس بالضباط العسكريين المرتبطين بالمخابرات الأمريكية والبريطانية، بل برجال الدين من أمثال آيات الله بهبهاني وكاشاني. إذ أرادوا بذلك تحويل الثقل إلى ما سموه انتفاضة الشاه والشعب. مما يشير بوضوح إلى عدم شعبية الانقلاب.

والإسلاميون من جانبهم كان لهم أهدافهم الأيديولوجية الخاصة لإضعاف مصدق. فهو في النهاية قومي علماني يرفض استغلال الدين في السياسة، وكان ثمرة واضحة من ثمرات التنوير، وهو ما يراه المتدينون شيئًا بغيضًا. وعلاوة على ذلك، أصبح بعض المثقفين الشباب الذين نشأوا تحت حكم الجمهورية الإسلامية مولعين بالسوق والعمل الحر الذي قدّمه المحافظون الجدد والنيوليبراليون الغربيون. فبالنسبة إليهم، لم يكن النفط موردًا طبيعيًا مهمًا ومتعلقًا بالسيادة، بل كان لعنة لتمويل دولة استبدادية. ويبدو أنهم ينظرون إلى حملة تأميم النفط بكاملها باعتبارها مُضللة وقديمة الطراز.

إسكندر صديقي بروجوردي:

في كتابك، الخمينية (1993م)، تشير إلى أن أيديولوجية آية الله روح الله الخميني والحركة التي قادها يجب فهمها باعتبارها صورة من شعبوية العالم الثالث. وبذلك تُناقض السدرية المهيمنة على الإعلام الغربي، التي تصوّر الثورة الإيرانية باعتبارها حركة رجعية ومتعصبة وأصولية في مواجهة التحديث.

وفيه، تذكر عمل ريتشارد هوفستاتر، الذي عادت مقالته الشهيرة «أسلوب جنون العظمة في السياسة الأمريكية» إلى الاهتمام في السنوات الأخيرة. بنظرة إلى الماضي، كيف ترى مساهمتك في النقاش الدائر حول الخمينية، وما هي السمات التي يتشارك فيها تاريخ الشعبوية الأمريكية والإيرانية؟

إرفاند آبراهيميان:

احتوت الحركة الخمينية في ذروة الثورة طيفًا واسعًا من العناصر السياسية. إذ رأى الخميني نفسه وأتباعه المقربين، كآية الله البهشتي، أنه لإسقاط الشاه يجب عليهم التحدث نيابة عن المستضعفين. ولذلك لجأوا إلى خطاب الشعبوية الراديكالية. ومع ذلك، احتوت حركة الشاه كذلك عناصر كانت محافظة اقتصادية بل رجعية؛ عناصر كانت تمثل برجوازية البازار الصغيرة. وفي سنوات الخميني الأخيرة، وبدرجة أكبر بعد موته، أصبحت هذه العناصر المحافظة أكثر حزمًا وتشددًا.

وبالتالي، فنحن لدينا جمهورية تُظهر خطابًا شعبويًا راديكاليًا، إلا أنها تمارس سياسات اقتصادية واجتماعية مُحافظة في جوهرها. فقد حكم النظام بأن الإصلاح الزراعي يجب ألا يحدد الملكية، حيث إن مثل هذه القيود تعارض الحقوق المقدسة للملكية الخاصة التي صانتها الشريعة. فالشعبوية في إيران تتشارك العديد من السمات مع الشعبويات الأخرى في العالم. إذ تظهر راديكالية في العلن، إلا أنها مُحافظة في جوهرها. والفرق الواضح بين الشعبوية الحالية في الولايات المتحدة وبين تلك الإيرانية أن الأولى تهدد الكوكب بأكمله، والثانية لا يتعدى خطرُها شعبَها فقط.


إسكندر صديقي بروجوردي:

أنت الآن بصدد البحث في كتاب جديد عن الثورة الإيرانية عام 1979. ما الذي تراه مساهمة من اليسار الراديكالي في الثورة؟ إذ إن معظم الكتابات التاريخية الموجودة إما أنها تبالغ في دوره، أو تتجاهله تمامًا، وما زال الأمر مُختلفًا فيه بشدة.

إرفاند آبراهيميان:

لقد لعب اليسار الجديد دورًا غير مباشر في الثورة، لكنه دورٌ مهم. فقد ساهمت حركات حرب العصابات، وخاصةً حركة فدائيي خلق الماركسية، خلال السبعينيات في إبقاء روح المقاومة والاعتقاد بأن النظام هش على الرغم من أموال النفط والتكديس العسكري. وفي الوقت نفسه، استطاع اليسار القديم –وخاصة منذ الأربعينيات- ترسيخ الثقافة السياسية التي تؤكد أن للمواطنين حقوقا اجتماعية واقتصادية ثابتة لا تتحول. فقد كان الشعار الرئيسي لحزب توده هو الخبز للجميع؛ السكنى للجميع؛ والتعليم للجميع.

وعلاوة على ذلك، كان اليسار الإسلامي، وخاصةً علي شريعتي، متأثرين بشدة بالماركسيين الأوروبيين في الستينيات. فلا يمكن لأحد أن يحلل الإسلام الراديكالي الجديد من دون الإشارة المباشرة إلى الماركسية الغربية. وفي النهاية، كان شريعتي يتم وصفه، بشكل صحيح، باعتباره المنظر الحقيقي للثورة الإسلامية.

إسكندر صديقي بروجوردي:

كيف تفسر الانتقادات الموجهة لحزب توده ومنظمة فدائيي خلق الإيرانية المسلحة (جبهة الأغلبية) بأنها ضحّت بالحريات البورجوازية الليبرالية على مذبح مناهضة الإمبريالية، وبفعلها هذا مهّدت للترسيخ السلطوي للجمهورية الإسلامية في الثمانينيات؟

إرفاند آبراهيميان:

في أعوام 1978-79 أيّدت كل المجموعات السياسية تقريبًا –ما عدا الملكيين بالطبع- الثورة والجمهورية الإسلامية. ثم انتقلت منظمات عديدة إلى المعارضة في أوقات مختلفة وبسبب مسائل متنوعة. انتقل حزب توده وحركة فدائيي خلق (الأغلبية) إلى المعارضة عام 1982 عندما اتخذ النظام القرار المشئوم والكارثي بنقل الحرب إلى العراق، بعد أن أخرجتها من إيران. إذ لم تعد الحرب مسألة دفاع وطني.

تصدر معظم الانتقادات الموجهة إلى اليسار الداعم للنظام من الليبراليين الإسلاميين الذين لم يكونوا فقط داعمين للنظام، بل كانوا جزءًا لا يتجزأ منه. فقد كان بازرجان على كلٍ رئيس وزراء الخميني، وصوّت على الدستور، وظل صامتًا عندما دخلت القوات إلى العراق. ويمكننا أن نثني على اليسار بأنه ظل حذرًا من الخميني وقام بتأييد غايات علمانية تقدمية، أي أنه تحالف مع الجبهة الوطنية الليبرالية. وكان هذا هو الخط الذي اتخذه بعض قادة حزب توده. إلا أنهم تم إضعافهم بسبب استسلام الجبهة الوطنية نفسها مبكرًا للخميني.


إسكندر صديقي بروجوردي:

في مقالتك «لماذا استطاعت الجمهورية الإسلامية البقاء» (2009) تقوم بتقديم أسباب ثبات النظام الذي يقوده رجال الدين واستقراره النسبي منذ عام 1979، أي الشعبوية الاقتصادية والاجتماعية وأنظمة الرفاه التي تم تأسيسها بعد ذلك لصالح قطاع عرضي كبير من المجتمع. فهل ما نراه من تقليل للدعم ودعوات للخصخصة (على الرغم من أن هذا أدى عادةً إلى محسوبية ظاهرة وممارسات انتهازية) قد تضع هذا التماسك المجتمعي الذي صوّرته في خطر؟

إرفاند آبراهيميان:

يحب الاقتصاديون المرتبطون بإجماع واشنطن أن ينتقدوا النظام لإهداره موارد ضخمة على الرفاه والدعم على الطعام والسكن والتعليم والبنية التحتية والدواء والمحاربين القدامى. قد يكون هذا الدعم غير مقبول ماليًا، إلا أنه مقبول سياسيًا، فقد بنى رابطة قوية بين الدولة والمجتمع، وخاصةً الطبقات الأكثر فقرًا.

وقد بدأ الاقتصاديون توقع السقوط الوشيك للنظام منذ إنشائه في فبراير 1979. والسبب الرئيسي في فشل توقعاتهم هذه أن النظام استطاع تأسيس دولة رفاه شاملة إلى حد ما. والتحول التدريجي المستمر نحو اليمين في السنوات الأخيرة يسبب تآكل دولة الرفاه هذه، وبالتالي يضعف الأساس الاجتماعي للنظام.

إسكندر صديقي بروجوردي:

ما هي آفاق وجود إيران جامعة وأكثر ديمقراطية وعادلة اقتصاديًا في عهد ترامب؟ وما المسئولية السياسية والديمقراطية الواقعة علينا باعتبارنا دارسين للتاريخ والسياسة الإيرانية، أخذًا في الاعتبار الرئيس الأمريكي وتهديدات إدارته بالحرب؟

إرفاند آبراهيميان:

يُبرز سؤالك قضيتين منفصلتين: ترامب، والتفاعلات الداخلية في إيران.

ترامب رجل مخادع في الحقيقة، ويستخدم الكلام ليبيع سلعة معينة. فخلال الحملة، أراد أن يضرب إيران والاتفاق النووي لأنه ظن أنه بذلك يحصل على الأصوات وعلى دعم نتنياهو. لم يعد يحتاج دعمهم الآن، ولكن الخطر يكمن في أنه إذا فشلت وعوده الاقتصادية، قد يجد من المناسب أن يخلق عدوًا خارجيًا. وقد تكون إيران هدفًا من هذا النوع. حيث إنه من المعتاد أن يبحث الشعبويون من اليمينيين عن عدو خارجي عندما تفشل وعودهم الاقتصادية.

إن لم تصبح إيران هذا الهدف، فإن مسارها الداخلي والطبيعي سوف يأخذها إلى مساحة جديدة. فمنذ الستينيات، كان الخطاب المهيمن سياسيًا هو الإسلام والأصالة والأهلانية والعودة إلى الجذور. هذا الخطاب هو الذي قاد إلى الأزمة الحالية التي توقف فيها الإصلاح واستطاع فيها اليمين فرض سيطرته.

وليس للجيل الجديد المولود بعد الثورة اهتمام شديد بالبحث عن الأصول، ويهتمون بدلًا من ذلك بالإصلاحات ذات المغزى والتي تحمي الحقوق الفردية والاجتماعية والاقتصادية. وفي غضون ذلك، يكتشفون أن أجدادهم الكبار في الثورة الدستورية أعوام 1905-6 لديهم الكثير ليقولوه مما يصلح لحاضرهم؛ أمور أكثر أهمية من البحث التائه عن جذور غامضة.