بدأت في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري إجراءات الاكتتاب العام الأول لشركة أرامكو السعودية، وبدأ الطرح على غير المتوقع في البورصة السعودية. تحاول السعودية في هذا الطرح توفير موارد مالية لتوسعة الاستثمارات في الشركة، لكن ما جعل هذا الطرح ونتائجه مهمًا لحد كبير للمستثمرين العالميين هو الجدل حول أرامكو وجدوى طرحها منذ 4 سنوات، وتحديدًا منذ إعلان السعودية خطة 2030 الاقتصادية.

بحسب نشرة الاكتتاب العام التي أصدرتها أرامكو، طرحت الشركة 1.5% من أسهمها في البورصة السعودية للأفراد والشركات العاملة هناك سواء كانوا سعوديين أو أجانب، لكن الشركة خصصت 0.5% من أسهم الشركة للأفراد السعوديين.

وحسب النطاق السعري الذي حددته الشركة بين 8 دولار – 8.5 دولار، بانتظار السعر النهائي الذي سوف يعلن في 5 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، فإن القيمة السوقية لأرامكو تترواح بين 1.6 – 1.7 ترليون دولار، ما يجعلها الشركة صاحبة القيمة السوقية الأعلى في العالم.

ومن المتوقع أن تعود عملية الطرح هذه بعوائد تقدر بـ 25 مليار دولار على الحكومة السعودية، التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية، ومنذ البداية سعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لجعل أرامكو القلب النابض لإصلاحاته الاقتصادية في السعودية. لكن طموحات ولي العهد هذه قد تعثرت مبكرًا، فالقيمة السوقية التي سبق وأعلن عن أنها تتخطى 2 تريلون دولار قد تقلصت لنحو 1.7 ترليون في الاكتتاب الأول.

لماذا أرامكو؟

منذ بداية الثمانينيات، امتلكت الحكومة السعودية بشكل كامل أكبر شركة لإنتاج النفط في العالم، كانت وما تزال أرامكو هي القلب الحقيقي للاقتصاد السعودي بل وأهم شركة في مجال الطاقة في العالم، تنتج الشركة يوميًا ما يقارب 10 ملايين برميل على الأقل، ويتوقع أن تكون قادرة على إنتاج 12 مليون برميل يوميًا إذا ما تم ضخ استثمارات إضافية فيها.

تدير أرامكو احتياطات من النفط والغاز تقدر بـ 297 مليار برميل، وحققت الشركة أرباحًا صافية وصلت 111 مليار دولار العام الماضي، لتتفوق على أكبر خمس شركات نفطية عالمية، بينما حققت عائدات بقيمة 356 مليار دولار.

كل ما سبق يجعل أرامكو صيدًا ثمينًا لأي مستثمر في العالم، فالشركة لا تدير فقط أصولاً نفطية ضخمة في السعودية وخارجها، بل هي الوحيدة التي تستطيع أن تنتج برميل نفط بتكلفة أقل من 10 دولارات، بالتالي فهي مضخة مستمرة للأرباح.

لا يعرف على وجه الدقة كم النسبة التي تدخل من تلك الأرباح إلى الميزانية العامة السعودية، ولماذا لم تستخدم تلك الأموال في تنويع اقتصادها بدلاً من بيع حصة من الشركة؟ من المتوقع أن تؤول حصيلة الطرح إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودية وليس للموازنة السعودية، للمساعدة في تطوير وتنويع اقتصاد المملكة المدمن على النفط حتى الآن. فعلى الرغم من الحجم الهائل للإيرادات النفطية، إلا أن السعودية لم تفلح في تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على النفط.

تمثل عائدات النفط الآن ما يقارب 42% من الناتج المحلي السعودي، 90% من الصادرات، 87% من إيرادات الموازنة العامة، وهو ما يعكس إدمان الاقتصاد السعودي على النفط.

الطرح العالمي المنتظر: فرصة أم ورطة؟

ثمة تحديات كبيرة أمام أرامكو إذا ما أرادت أن تنجح في طرح 5% من أسهمها كما هو متوقع. وعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط الحالية، فإن طرح الشركة يمكن أن يوفر قرابة 170 -200 مليار دولار للحكومة السعودية.

هذا الرقم ضئيل مقارنة بتكلفة تنويع الاقتصاد السعودي، إذ تصل تكلفة مشروع نيوم فقط إلى 500 مليار دولار. يدفع هذا السؤال الكثيرين للتساؤل حول جدوى طرح أرامكو، وهل الطرح هو خطوة لإرضاء المجتمع الدولي عن ولي العهد وانفتاح السعودية الجديد على العالم بحسب وصف الأمير؟

تعد أبرز التحديات التي تواجه عملية طرح أرامكو هو تقييم الشركة، فهناك تفاوت كبير بين التقييمات المختلفة لقيمة الشركة السوقية من عدد من البنوك ومراكز التصنيف الائتماني حول العالم. قدر بنك أمريكا Bank of America قيمة الشركة بين 1.22 ترليون و 2.27 ترليون دولار، يعني هذا أن هامش الاختلاف بين التقديرين حوالي ترليون دولار! تشير مصادر أخرى أن القيمة السوقية للشركة تتراوح بين 1.5 – 1.8 ترليون دولار.

السبب الأساسي لهذا التضارب هو غياب المعلومات من الحكومة السعودية على أنشطة الشركة والتي تعتبرها أسرارًا عسكرية، فالسعودية لم تسمح طيلة 3 عقود لأي من الخبراء والمؤسسات المستقلة العاملة في مجال الطاقة بتقدير احتياطي النفط لديها. منذ التسعينيات ومستوى الاحتياطات ثابت تقريبًا حول 265 مليار برميل، وخلال تلك العقود الثلاثة أنتجت السعودية ما يقارب 100 مليار برميل من النفط، كما أن هناك شكوكًا جدية لدى المستثمرين حول مستوى الإيرادات والأرباح التي تعلنها الشركة كل عام بسبب غياب الشفافية.

تسبب غياب الشفافية في أن تتأخر عملية طرح أرامكو خارج السعودية، تحديدًا في بورصات كبرى مثل لندن ونيويورك، لا يمكن للسعودية أن تنفذ عملية طرح كبرى ناجحة خارج هاتين البورصتين، واللتين تفرضان قواعد إفصاح وشفافية إجبارية، وبالتأكيد لا يمكن للبورصة السعودية أو أي من بورصات المنطقة تحمل طرح 5% من أسهم أرامكو.

هذا المأزق يعني أن خيارات ولي العهد والمسئولين السعوديين محدودة: فإما أن يجعلوا سجلات الشركة وأرقامها متاحة للجميع ويتحملوا خطر أن يعرف العالم عملية توزيع أرباح الشركة، والتي تؤول أجزاء منها للأسرة الحاكمة في السعودية، أو يتم التراجع عن فكرة طرح المزيد من أسهم أرامكو، ما يعد فشلاً مباشرًا لولي لعهد ورؤيته الاقتصادية التي روج لها.

في المقابل، هناك تحديات على المدى الطويل أمام أرامكو تفرض نفسها على عملية طرح الشركة في البورصة، والتي تعد ضربًا من الخصخصة، أهم تلك التحديات هو الاحتباس الحراري واتجاه العالم أكثر ناحية الطاقة النظيفة، خاصة بعد الاستثمارات الصينية الكبيرة في الطاقة الشمسية وتزايد الزخم والمطالبات في كل الاقتصادات الصناعية المتقدمة للتحول نحو الطاقة النظيفة. يضع مثل هذا التحول ضغوطًا كبيرة حول قدرة الشركة على توليد الأرباح على المدى الطويل.

ثمة تحديات أمنية كبيرة أيضًا، فمعظم أصول الشركة تقع في منطقة صراع حالية سواء بين المملكة العربية السعودية وإيران أو حتى الحرب في اليمن، إذ أثبت الحوثيون مقدرتهم على الإضرار بأرامكو، حين استهدفوا منشآت الشركة في سبتمبر الماضي وتسببوا في تعطيل جزء كبير من الإنتاج. كل هذه التحديات تجعل عملية طرح أرامكو وتقييم قيمتها الحقيقية مغامرة غير محسوبة من الحكومة السعودية.

هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟

لوقت طويل، كانت أرامكو هي أداة المملكة الرئيسية على الصعيد الدولي، مجرد تعليمات من الحكومة بخفض الإنتاج يمكنها أن ترفع أسعار النفط، بالتالي تؤثر على مجرى الاقتصاد العالمي. لكن السعودية لم تعد ترفع أسعار النفط، بالعكس فهي تغرق السوق بإنتاج فائض من أجل إحكام القبضة على إيران منافسها الإقليمي الأكبر. يعد هذا تحديًا أساسيًا من وجهة النظر الاستثمارية، فالمستثمرون سوف يقلقون في النهاية من تحكم الحكومة في الشركة.

إذن ما يحاول ولي العهد السعودي أن يفعله هو أن يوفر التمويل اللازم لإصلاحاته الاقتصادية من خلال بيع 5% من أرامكو، ما يمكنه من توفير قرابة 150 مليار دولار، لكن كما سبق وأشرنا فإن تكلفة التحول الطموح لولي العهد، والذي يبدو غير واعٍ حتى الآن، أكبر بكثير من هذا الرقم.

يشير أحد التفسيرات إلى أن حجم خصخصة أرامكو الذي يخطط له ولي العهد أكبر بكثير من الـ 5% التي أعلنت الحكومة نية طرحها، وأن هناك اتجاهًا لطروحات أكبر في المستقبل إذا ما نجحت الطروحات الأولية.

يفسر ذلك بسعي الحكومة السعودية إلى توزيع أعباء الإنتاج والأرباح النفطية في المستقبل، نظرًا لتحول العالم للطاقة النظيفة وخوف الحكومة من أن تبقى متحكمة في مصدر طاقة سوف يتم تجاوزه في النهاية، أو أن هذا الطرح يسعى لإدماج الكثير من المستثمرين وبالتالي توفير المزيد من الحماية لمنشآت الشركة في هذه المنطقة المشتعلة من العالم.

يبقى الأمر مرهونًا بقدرة الحكومة السعودية على إحداث تحولات سياسية بجانب التحولات الاقتصادية، وهو أمر مستبعد جدًا في الوقت الحالي. يعني إشراك القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي في أرامكو الحد من نمط الحياة المترف الذي تعيشه العائلة المالكة، وتبني النظام السعودي إستراتيجيات لمحاربة الفساد داخل الدولة.

لكن كل تلك التكهنات تبقى مرهونة بالإرادة السياسية لولي العهد، الذي يواجه أزمات كبيرة على المستوى الدولي والمحلي وحتى الإقليمي. فالسعودية ما زالت متورطة في حرب ضروس في اليمن، وما زالت تداعيات اغتيال الصحفي جمال خاشقجي واعتقالات الناشطين الحقوقيين والدعاة والصحفيين مستمرة، وما تزال أزمة عجز الميزانية العامة في تزايد. تشير آخر التقديرات إلى أن عجز الموازنة من المتوقع أن يصل إلى 49 مليار دولار عام 2020.

لا يمكن الجزم بأن مغامرة ولي العهد نجحت أم باءت بالفشل ، لكن المؤكد أنه في حالة فشل تلك المغامرة فإن الفشل يعني الكثير من التوابع للحكومة السعودية وللمنطقة بشكل عام.